رأي آخر في الوحدة
رأي آخر في الوحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الوحدة التي بحّت أصوات خطبائنا وكتابنا وشعرائنا في التّفنّي بها: ضمُّ شتات الأنظمة والبلاد والأفراد والشعوب باسم القومية أو الفكر أو الدّين في كيان إداري واحد.
وربما صارت الوحدة عرضاً من عروض التّجارة في سوق الزّعامة الفرديّة أو الحزبيّة أو الطّائفيّة، وربما صارت الوحدة مجرّد شعار عاطفيّ خياليّ يلهب حناجر السّذّج وقلوبهم كما قال شوقي رحمه الله في ترجمته لمسرحية شيكسبير عن قيصر:
أنظر الشعب (ديون)***كيف يوحون إليـه
يا له من ببّغـــــــــاءٍ***عقله في أذنيـــــه
وربّما ضحك الشيطان فرحاً بهذه (الملهاة) الجديدة التي خدمه بها خطيب الجريدة والاذاعة والمسرح، وخطيب اللعبة السّياسية، وخطيب المسجد المعاصر، فأشغلت المسلم عن اكتشاف واصلاح أحواله الدينيّة والدّنيوية.
وقد يكون شرّاً، قد يكون طاعة لله سبحانه وقد يكون معصية له، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}. والله سبحانه وتعالى يأمر بالاجتماع وينهى عن التفرق بشرط الاعتصام بحبله: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا}.
وقد غفل عن التّقيّد بهذا الشرط أكثر دعاة العصر وتجمّعاته وأحزابه وطوائفه وفرقه الدّينيّة فضلاً عن غيرهم؛ فدعوا النّاس إلى الوحدة والاتّحاد والتّجمع والتّحزّب على غير فقه في الدّين ولا اتّباع لسيّد المرسلين، بل على ما تعوّده النّاس من المبتدعات وعبادة الله بما لم يأذن به الله، بل وكانت دعوتهم إلى الاجتماع على الدّين، في حقيقة أمرها، دعوة إلى التّفرّق فيه: شَرَع الله ملازمة الجماعة ففتّتوها جماعات، سمّاهم الله اسماً واحداً (المسلمين) فتسمّوا بأسماء مختلفة، أمرهم الله بالانتماء إلى منهج واحد وطاعة إمام واحد فابتدعوا مناهج غير معصومة ينتمون لها واتّخذوا رؤساء ومشايخ ودعوا النّاس إلى طاعتهم (في المنشط والمكره).
وفي القرنين الأخيرين نجحت محاولتان للوحدة والاتّحاد في مجتمعاتنا وفشلت بقيّة المحاولات:
1) وحدة معظم جزيرة العرب، من البحر إلى الخليج ومن حدود الشام إلى حدود اليمن، على أساس شرعيّ متين من الدّعوة إلى الله على بصيرة، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر توحيد الله بالعبادة ونبذ الشرك بالله وهدم مظاهره (القديمة الجديدة). من الأضرحة والمقامات والمشاهد والمزارات، ونبذ الخرافات والبدع في الدّين، والجهاد في سبيل الله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله}.
وقد غابت هذه الوحدة عن الوجود السّياسي فترة من الزّمن بأمر من الخلافة العثمانية (غير الرّاشدة وغير المهديّة) وتنفيذ من القوّة العسكرية الدّائرة في فلكها لمحمد علي الألباني وابنه طوسون وابراهيم، وإنما كان ذلك بقدر من الله جزاءً وفاقاً لظهور التّقصير في الالتزام بالعهد الذي قامت عليه الوحدة، ثمّ عادت قويّة متينة ظافرة بعودة الالتزام بالعهد الذي عقده مؤسّساها: الشيخ محمد بن عبد الوهّاب والامام محمد ابن سعود رحمهما الله، وصدق الله وعده: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}.
2) اتحاد الإمارات العربية في الخليج على أساس من المصالح المشتركة الحرّة المتساوية.
لم يسبق أيّاً من هذين النموذجين النّاجحين في جزيرة العرب شيء من الدّعاية السّياسية، ولا الخطب الرّنّانة، ولا الوعود الخلاّبة، ولا التلاعب بعواطف الشعب وفهمه السّاذج للسّياسة والادارة والحرّيّة.
بل إنّ وحدة جزيرة العرب، يوم أسّست على التّقوى من أوّل يوم، لم يكن بين أهدافها إيجاد كيان سياسيّ أو إداريّ موحّد للمنطقة الجغرافيّة التي ضمّتها (فيما بعد) دولة الوحدة.
بل إنّ الدّعوة القدوة الأولى التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأمر الله لم تدع إلى وحدة سياسية أو إداريّة، ولا إلى قيام دولة، ولم تدخل في منازعة على الحكم الاداري وإنما كان هدف الدّعوة القدوة والدّعوة التي سارت على هديها: نشر دين الحقّ، ومحاربة الشرك والابتداع في الدّين، والنتيجة في هذه وتلك: تحقّق وعد الله بالنّصر والتّمكين والاستخلاف في الأرض والأمن والبسطة في الرزق والوحدة على الحقّ، اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على محمد وعلى آل محمد.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن