التّصوّف شرعٌ لم يأذن به الله، نقد فكر أبي الحسن الندوي
التّصوّف شرعٌ لم يأذن به الله، نقد فكر أبي الحسن الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
رأيت كتاب الشيخ أبي الحسن النّدوي تجاوز الله عنا وعنه بعنوان (ربَّانية لا رهبانيّة) وفرحت به أول الأمر، إذ ظننته إنكارًا لبدعة التّصوّف المحدثة، ورَدًّ للمخدوعين بها إلى منبع الشريعة الصافي من كتاب الله وسنة رسوله، وقلت: لعلها هداية الله غلبت على التّنشئة الصوفيّة والبيئة الصوفيّة المحيطة به، ثم بسبب حرصه على الدين وبحثه عن الحق، وعضويته في مجلس الجامعة والرّابطة مع الشيخ ابن باز.
ولكنّي للأسف وجدت فيها تزيينًا لهذه البدعة الضالة المضلة وتثبيتًا لها بالإشارة المتكررة إلى أن: (العقدة أو سبب الخلاف بين أهل السنة وأهل التّصوف هي في التسمية والاصطلاح، فلو أزيل هذا الاسم [التصوّف] لانحلّت العقدة وهان الخَطْب) ص7، وأن (القرآن نوّه عن التّصوف بلفظ التزكية ركنًا مستقلاً من أركان أربعة بُعِث الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيقها في الآية الثانية من سورة الجمعة) ص8، وأنّه (الطريق إلى الإحسان). ثم يتكلَّم عن فقه الظاهر وفقه الباطن ويلبسه لباسًا غير لباسه في الفكر الصّوفي قديمًا وحديثًا، وأن (فقه الباطن هو علم جاء مطابقًا للكتاب والسنة؛ ليتكفّل بتزكية النفوس وتهذيبها وتَحْليتها بالفضائل الشرعية وتَخْليتها عن الرذائل النفسية والخُلُقية) إلى آخر ما أورده ص10، ممّا سمّاه (علم الباطن) أو (علم التصوف)، وقد كتبت له بما يلي:
أَعْجَب كيف يتّبع الشيخ الإدّعاء الصوفي المتوارث بأن التصوف ما هو إلاَّ التزكية كما وردت في القرآن، والإحسان كما ورد في الحديث، وهو حَريّ أن يعلم أن الطريق الوحيد للتزكية والإحسان ما أنزله الله وحيًا في كتابه أو سنة رسوله، أما طريق (النقشبندية) التي مدح أحد شيوخها ص13، فجادّتها إلى التزكية والإحسان: الذّكر (الشريف) في القلب لا يتحرّك به اللسان خلافًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا إذا لم يصل كلّ أتباعها إلى ما يصل إليه بعضهم من الرّابطة الشريفة: (ذكر الله مستحضرًا صورة شيخه لأنّه طريقه الوحيد إلى الله، وأما طريق (الجشتيّة) فالمراقبة عند القبر والذكر بلفظ: (الله ناظري الله حاضري) والطريقتان من الطرق الأربع التي يبايع عليها مسلموا القارة الهندية عدا أهل الحديث.
لقد ورد لفظ التزكية في القرآن بضعًا وعشرين مرة بمعاني مختلفة في معرض المدح والذم والحث والنهي وفي الدنيا والآخرة، ولو كان معناها في آية الجمعة مثلاً أن يجعلهم صوفيّة في الدنيا فهل يكون معناها في آية البقرة أَنْ لا يجعلهم صوفية يوم القيامة؟ وهل الخلاف بين السّنّة وبين البدعة الصوفيّة سواء في دروشتها الجاهلة أو فكرها الضالّ المتصل بالفكر الهندي الوثني يقتصر على (تغيير الاسم لينقشع الضّباب وتُحَلّ العقدة النّفسيّة ويزول المقت والكراهية) ص19، أم هو الخلاف بين الإتّباع والتّقيّد بنصّ الوحي في جهة وأفكار النّاس وشطحاتهم والتشريع دون إذن من الله في الجهة الأخرى؟
بأيّ نصٍّ شرع الله البيعة الصوفية للمسلمين؟ ص41، وهل بايع المسلمون القدوة في القرن الأول أحدًا غير بيعتهم الشرعية لولي الأمر؟
وأنّى لرجل (يجلس في زاوية بعيدة) أن (يجاهد التتار والمغول ويضيء ظلام القلوب) كما ذكر ص36.
هذه هي الصوفية على أحسن أحوالها: رجل يجلس في زاوية بعيدة يردّد ذكرًا ما ردّده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستدل على دين الله بِقَال الشاعر رحمه الله ص36، وصرَّح أرنلد ص33، ونقل أرنلد ص34)، وأن (مشايخ الصوفية هم الذين حفظوا للأمة دينها وأنقذوا الإسلام من أعدائه وأدخلوهم فيه) ص31 ـ32، بأيّ سلاح يا ترى: بالبخور والرقص والطّبل وترديد الذكر المبتدع، أم بحدّثني قلبي عن ربي (البسطامي)، وما في الجبة إلا الله (الحلاّج)، وقال لي الحق: أنت الأصل وأنا الفرع (ابن عربي)؟
علَّمَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعالج الغضب بالاستعاذة من الشيطان، أما (شيخكم ومربّيكم الروحي ومن هو من كبار أئمة التصوف في هذا العصر) ص36، فله علاج آخر غير الرجوع إلى العلاج النبوي (الرجوع إلى الشيخ والاتصال به، وبغير هذا لا يزول الغضب)، ص41.
دين التصوف وشرعه الذي لم يأذن به الله قائم كما يتبين من مطالعة كتابكم على التأويل الباطل والحديث الموضوع والضعيف وتقديس البشر والاعتماد على الكشف؛ من أين أخذ شيخكم (اللطائف الست) ص42، وكيف (كانت صحبة بعض شيوخه تحول التّراب تبرًا والحصى جوهرًا)؟ وهل طالَبَنا شرع الله بالمحبة المرتبطة بالطاعة والمتابعة، أم بالعشق ص44ـ 45؟
تنقلون عن شيخكم قصة الشيخ (العارف غلام رسول) أي: عبد الرسول وأنه لا يجالس أحدًا إلا ويصبح من القائمين في الليل، ولا يحضر وعظه مشرك مرّة واحدة إلا أسلم، ويذكر الله بلفظ (إلا الله) فتسمعه الهندوكيات فيردّدن: [لا إله إلا الله] أفضل مما جاء به الشيخ (ويُسْلِمْن) ص44، لقد أوصلتم المشايخ المبتدعة إلى ما لم ينقل لنا المؤرخون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إليه؛ كان يجلس إلى بعض المشركين ويعظهم مرارًا وتكرارًا فلا يُسْلمون ومنهم عمّه أبو طالب، ويقول الله تعالى له: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ويقول له: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
وتقولون عن شيخكم عبد القادر الرائبوري رحمه الله أنه (كان معترفًا بإخلاصه وقبوله عند الله كلّ الاعتراف) ص46، وهل في وُسْع البشر التأكد من الإخلاص ومحله القلب، أو من القبول وعلمه عند الله وحده؟
وتنقلون عن شيخكم قوله: (إن على الفرد أداء الفرائض وسائر العبادات والدّوام على ذكر الله، فإذا وُجِّه إلى عمل خاصٍّ بإلهام من الله أو بإرشاد من شيخه أدَّى هذا العمل، وإلا فيحسن له القناعة بالعبادات والأذكار وهي تكفي لنجاته) ص47، ويظهر لي من قبولكم هذا التخريف، أنكم تُقِرُّون سبيلين للتشريع لم يأذن بهما الله: الإلهام وإرشاد الشيخ، وترون أن الاكتفاء بالعبادات المشروعة سِمَة القناعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه عزَّ وجلَّ: ” ما تقرب إليَّ عبدي بأفضل مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه“رواه البخاري.
وتذكرون عن شيخكم ص52، أنه (خطر سؤال على قلب أحد جلسائه فاطّلع عليه الشيخ بفراسته ونور باطنه)، هل هذا موطن الفراسة أو علم ما في الصدور؟
وليس عندي من الصّبر ولا الوقت ما يعينني على متابعة هذه الملاحظات، ولم يكن عندي عزم على إبدائها لكم لولا أني أطّلعت على رسالة للأستاذ/ محمود الغراب هداه الله يردّ بها على الشيخ/علي الطنطاوي أثابه الله إنكاره التّصوّف الضالّ الذي مثّل لأبشعه وأكثره كُفْرًا بمؤلَّف الغراب: (شرح كلمات الصوفيّة والرّدّ على ابن تيمية) انتصارًا لفكر ابن عربي، وفي هذه الرسالة استشهاد بتقديركم لمؤلَّفه: (أرجو مواصلة هذا الإخراج العلمي الجميل لعلوم الشيخ الأكبر [ابن عربي] ولكم شكر الناس وجزاء من الله كريم)! كيف يا شيخ هدانا الله وإياك لأقرب من هذا رشدًا؟ هل تقرّ ما كتبه عن وحدة الوجود بعنوان (سبحان من أوجد الأشياء وهو عينها)؟ هل تقرّ قوله: (فيقول العبد الكامل الذي الحقّ على لسانه وسمعه وبصره وقواه وجوارحه: أنا الله، كأبي يزيد وأمثاله)؟ هل تقرّ تفسيرهم آية سورة البقرة المحكمة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]: بأنها نزلت في الأولياء الذين ختم الله على قلوبهم فليس فيها إلا محبة الله، وعلى سمعهم فلا يسمعون إلاَّ منه، وعلى أبصارهم غشاوة فلا يرون إلاَّ إيَّاه، ولهم عذاب عظيم مثلما عُذِّب محمد صلى الله عليه وسلم عندما صار قاب قوسين أو أدنى فلم يصل؟ هل تقرّ الغراب على نَشْر كُتُب ابن عربي ومطالبة الناس بقبولها وعدم الرّدّ عليها بالعقل أو النقل لأنه تلقَّاها بطريق الكشف؟
كنَّا نأسى لِـمُدافعة بعض المتصوفة ومن خُدعوا بهم عن ابن عربي بأن كلّ ما نُسب إليه من أقوال الكفر مدسوس عليه، وهو دفاع ظاهر البطلان، إذ لا تقتصر أقواله الكافرة على صفحة أو كتاب؛ بل هي منتشرة في جميع كتبه؛ إما أن يكون نِسْبة كلّ كتبه إليه جميعًا باطلة أو صحيحة، وكان ادعاء دسّها أهون مما جاء به الغراب: (هدانا الله وإياكم وإياه) مِنْ نَذْر نفسه لنشرها ومطالبة الناس بتأويلها عند الضرورة كأنها من نصوص الوحي، وليس عندنا لأقوال البشر إلا أن نعرضها على كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم فما وافقهما قُبِل وما خالفهما رُدّ، وبعد انقطاع الوحي ليس لنا اطلاع ولا حكم على ما في الصدور، لنا الحكم على الظاهر، واللغة العربية ليست ملكًا للغراب ولا لابن عربي يتصرف فيها كيف شاء بل إذا قال كلمة الكفر كفّرنا قوله حُكْمًا على ظاهر قوله لا على نيّته ولا على ما لقي عليه ربّه.
أرجو الله أن يدلّنا وإيّاكم على الحق وأن يثبتنا وإياكم عليه وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومتّبعي سنته.