في نِعَم الدّنيا ابتلاء، وفي مصائبها نِعَم
في نِعَم الدّنيا ابتلاء، وفي مصائبها نِعَم
بسم الله الرحمن الرحيم
نتيجة بحث لمنظمة (كالوب) العالمية في العقد الماضي شمل (18) دولة من أغنى دول العالم وأفضلها إدارة وأوسعها حرية وأكثرها ديمقراطية في سياسة الحُكْم والمال؛ تبيّن أنّ الآيسلنديين هم الأوفر سعادة (بمعنى: الرضا بقسمتهم، والقبول لواقعهم، ومحبة نهج حياتهم الخاصة والعامة)، بينما كان ترتيب أمريكا الخامس وترتيب اليابان السابع، ولا أحب أن أعرف ترتيب العرب والمسلمين.
وآيسلندا جزيرة معزولة في شمال المحيط الأطلنطي تكتنفها من جهة: البراكين المشتعلة ومن جهة أخرى: جبال الجليد (بين النار والزمهرير)، ويحيط بها البحر الثائر والرّياح الباردة العاصفة ويمتد ليل شتائها (20) ساعة من الظلام الدامس.
إذن…. لماذا يتميّز الآيسلنديون بالرضا بحالهم؟
يعزو (ثورلندسن) أستاذ الاجتماع في جامعة آيسلندا سبب ذلك إلى مشقة الحياة في (آيسلندا) لا إلى يُسْرها؛ فقد عَلَّمت الحياة الشاقة مواطنيها الاستمتاع بما قد يحصلون عليه من اليُسْر مهما قلّ، وعلّمَتْهم صعوبة الأحوال الجوية قبولها محاولين الاستعانة عليها بالعمل، وعلّمهم عدم توقع ما هو أفضل حُسْن التعامل مع الواقع بصرف النظر عن عُسْره أو يُسْره.
وفي المقابل فإن جودة المناخ وحسن الإدارة وتوفر الخدمات وارتفاع مستوى الدخل في سويسرا لم يسمح لمظاهر السّعادة – وأقلها الابتسام – بالظهور على وجوه السويسريين، ومع أنّ وسائل التّرف قد زادت مع الوقت في أمريكا فإنّ الأمريكيين صاروا أقلّ سعادة ورضا وقبولاً لأحوالهم.
معظم الآيسلنديين يسافرون إلى مختلف أقطار الأرض في شبابهم ويرون الفارق بين حياتهم وحياة غيرهم، ولكنّ ذلك لا يجعلهم أقل حبّاً لبلادهم ولا أقل سعادة بحياتهم ولا أكثر غبطة (أو حسداً) لغيرهم.
والعمل أهمّ صفة للآيسلندي، ومن نتائجه: المال والصحة والنشاط والدفء؛ ومثالاً على ذلك (ثوريرثوريسن) الذي عمل شهراً (16 ساعة في اليوم 7 أيام في الأسبوع) دليلاً لصيادي السّمك ثم أعطى نفسه إجازة يوم واحد عاد بعدها إلى عمله المعتاد على سفينة صيد حيث يعمل 6 ساعات ثم يستريح مثلها كل أيامه ولياليه مثل أكثر مواطنيه، وهو يصف حياته بأنها: (الجنة على الأرض).
وهذا ما جعل (آيسلندا) من أغنى الدول في العالم رغم حرمانها من الثروات والكنوز الطبيعية التي منحها الله أفريقيا وآسيا التي يغلب عليها الكسل والفقر والشعور بالتعاسة.
وهذا ما أوصل متوسط مستوى الدّخل في (آيسلندا) إلى عشرين ألف دولار أمريكي، وهذا ما حقق للآيسلنديين خدمات متميزة في التعليم والصحة وغيرهما من أموال الضرائب التي يتحملها المواطن دون تذمر ولا إضرابات
ولا مظاهرات ولا اعتداء على الممتلكات العامة والخاصة باسم الإصلاح الدنيوي أو الجهاد الديني.
وإذا لم يتبين عذر السويسريين والأمريكيين في عدم السعادة بما أعطاهم الله من فضله الدنيوي؛ فلا عذر إطلاقاً لتعاسة مَنْ جمع الله لهم خير الدين وخير الدنيا (في خير أمة أخرجت للناس منذ القرون المفضلة) وهم اليوم – في غالب ظني من أكثر الناس شعوراً بالتعاسة وتذمُّراً وشكوى وجحوداً بنعمة الله عليهم الذي جعلهم مواطنين في الدولة الوحيدة التي تمنع بناء أوثان المزارات والمشاهد والمقامات وزوايا التصوف، وتمنع بدع الموالد والاحتفالات الدينية بالهجرة والإسراء والمعراج ونحوها (مما أضيف – خارجها – إلى الدين تقرباً إلى الله بمخالفة شرعه)، وتحكم بما أنزل الله في كل أحكام الاعتقاد والعبادات وفي جلّ أحكام المعاملات، وتدعو إلى الله على منهاج النبوة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر منذ أخرجها الله لتجديد دينه ثلاث مرات في الثلاثة قرون الأخيرة وعهد إليها بتطهير خير أرضه وأقدس بيوته من البدع والفِرَق الموصوفة زوراً بالإسلامية، وآتاها رزقها رغداً من كل مكان وآوى إليها أفئدة من الناس ابتغاء الدين أو الدنيا، وأنبت فيها خير ثمار الأرض: التّمر، وفجر فيها خير كنوز الأرض اليوم: النفط بمقدار رُبْع احتياطي العالم المعروف.
ومع كلّ هذا التميزّ فإن أهمّ ما يجتمع عليه أكثر مواطنيها نشر شائعات الفتن بين الراعي والرعية، وخيالات التحليلات السياسية للأحداث والطوارئ، والدعوة بالويل والثبور وسوء المصير، حتى تحوّل عدد منهم (هداهم الله ولا كثّر أمثالهم) إلى منشقين على جماعة المسلمين (في خير أحوالها الحاضرة) يعيثون في الأرض فساداً ويسيئون إلى سمعة الإسلام والمسلمين.
وفيما سُقتُه من أمثال تصديق لعنوان هذا المقال فالجزع والضيق أو الرضا بقسمة الخالق هو ما يحقق الله به الشقاء أو السعادة للمخلوق، وأقدار الله ماضية «فمن رضي فله الرضا ومن جزع فله الجزع».
ومصيبة الموت – فضلاً عما دونها – لا تُسْتثنى من ذلك، ويحكى أن قاضي إحدى القرى قبل نصف قرن كان يستفتح خطبته يوم الجمعة بقوله: (الحمد لله الذي جعل الموت راحة للعباد) فقال أحد سامعيه (أَمْحَقْ راحة) فطلب منه الخطيب أن يتخيل وجود عدد من أجداده وأجدادهم في رعايته اليوم ومدى استمتاعهم بحياتهم ومدى اليسر أو العسر في قيامه بواجب رعايتهم (في وقت لم يكن من المعقول فضلاً عن المقبول وجود دور لرعاية المسنين).
أمّا كاتب المقال بعد أن منّ الله عليه بتجاوز الحدّ الأدنى لأعمار هذه الأمة (60) ومنّ الله عليه بتجاوز الحد الأقصى لأعمار أكثر هذه أكثر هذه الأمة (70)، ومنّ الله عليه بنعمة أعظم هي الرّضا بالقسمة وإدراك نعمة الله عليه بالبلاد والولاية والمواطنة التي يحسده عليها أكثر أهل الأرض ويتمنى أشقياؤهم الحصول عليها أو زوالها كُرْهاً لفضل الله على من يشاء من عباده، بعد هذا كله يجد نفسه في حال لا يتمنى فيها خيراً مما قدّر الله من الحياة أو الموت؛ ففي المزيد من الحياة أمل في التوفيق لمزيد من العمل الصالح والقول الصالح والنية الصالحة، والتوفيق لنشر التوحيد والسنة ومحاربة الشرك والبدعة، والتوفيق لخدمةٍ خاصةٍ أو عامةٍ للإسلام والمسلمين ودعوةٍ أو دعاء للمسلمين وغير المسلمين بالهداية والرجوع إلى الحق.
وفي مجيء الموت راحة من الهرم وسوء الكبر والردّ إلى أرذل العمر وفتن العصر وفي أواخرها الدّجال شرّ غائب ينتظر والسّاعة أدهى وأمرّ.
وهو يتمنى أن يلقى ربّه في مثل حاله الآن من السعادة والرّضا بما قسم الله له، شاكراً لنعم الله عليه بالدين والدنيا، يسمع ويبصر ويعقل ويمشي ويقود سيارته ويردد كثيراً الدّعاء المأثور: «اللهم متعني بسمعي وبصري وقوتي ما أحييتني واجعله الوارث مني، اللهم أحسن عاقبتي في الأمور كلها واجعل خير أيامي يوم لقائك، اللهم إني أعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من أن تردني إلى أرذل العمر».
ويعُدُّ من نِعَم الله عليه: تمييزه بمحاولة التزام منهاج النبوة في الدين والدعوة حين اجتالت الشياطين عنه أكثر طلاب العلم والدّعاة (فضلاً عن طلاب الفكر) إلى مناهج البشر، وتمييزه بالرضا بعد القضاء (ومنه الموت) بل محبته حين قدّر على أكثر عباده الصالحين والطالحين كراهيته «عبدي يكره الموت ولا بدّ له منه» ويرجو الله أن يتجاوز عنه غفلته وإسرافه على نفسه وأن يجبر نقصه ويعفو عن تقصيره ويحسن خاتمته ويغفر له ولمن له عليه حقّ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومتبعي سنته. (1428هـ).