تعقيب على العلامة أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري
تعقيب على العلامة أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري
بسم الله الرحمن الرحيم
من: سعد الحصين، مكة المباركة.
إلى فضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالرحمن ابن عقيل ـ زاده الله من فضله وختم له بالعلم والعمل والدعوة على منهاج النبوة ـ .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
أما بعد: فقد بلغني ما كتبتموه عن المجدِّد شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله وأسكنهما الفردوس. وجزاكم الله خير الجزاء على اعترافكم لهما بالعلم والعبادة والورع والجهاد، وقمع شبه الفِرق الضالة، وتعظيم السنن واتباع السلف.
1- وتعترف معك جزيرة العرب (سعوديها) بفضل الله بهما عليها وعلينا جميعًا (قبل ومع غيرنا) بأن كان فقههما في الدين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتزامهما به ودعوتهما إليه أساسًا لدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب والأئمة من آل سعود رحمهم الله الذين جدَّد الله بهم دينه في القرون الثلاثة الأخيرة، وهدم بهم أوثان المقامات والمزارات وما دونها من البدع، وهو ما لم يجمعه الله لدولة مسلمة منذ القرون الخيرة إلى هذا اليوم.
2- وهذا الاعتراف بالفضل لأهله يسوغ للسلفيين استعمال لقب شيخ الإسلام لابن تيمية رحمه الله فهو أحق به من كل لُقِّب به (بعد الشيخين، إن صح الأثر الذي رويتَه عن علي رضي الله عنه) وأحق به من لقب حجة الإسلام للغزالي، وسلطان العلماء للعز بن عبدالسلام رحمهما الله، (فضلًا عن الشيخ الأكبر لابن عربي وشلتوت، وعلامة الجزيرة لحمد الجاسر)؛ وتعرف كما أعرف نفور السلفيين (هنا) من الألقاب، وتذكر كما أذكر يوم كان لقب الشيخ في شقراء للقاضي وحده وفي أكثر مدننا وقرانا.
3- ولا يعني تلقيب ابن تيمية أو ابن عبدالوهاب بشيخ الإسلام وكثرة النقل عنهما تقديسهما أو حجب هذا اللقب عن غيرهما، ولكن الله ميزهما بالتركيز على ما أرسل الله به كل رسله: إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه، وعلى التوثيق بالآيات وبالأحاديث الصحيحة كما فهم أئمة الهدى الأول. ولو جعل أبو عبد الرحمن هذا الأمر أكبر همِّهِ وعلمه وتاريخه فلربما وجد أن ابن تيمية وابن القيم وابن عبدالوهاب خير من كل من ذكر أسماءهم من (شيوخ الإسلام) بعد القرون الخيرة؛ ولا أستثني شيخه ابن حزم رحمهم الله جميعًا. واذكر قول الله تعالى: {أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، الزمر: 12]، {أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143، الشعراء: 51]، وأضف إليه قول المفسرين: من قومك أو في زمنك.
4- ويأخذ أبوعبد الرحمن (تلميذ تلاميذ ابن تيمية وابن القيم) عليهما: الجسارة والاعتداد بالفكر (بل هو الفقه). ولا أظن أبا عبد الرحمن إلا قد سمع بوصف غيره (بالجسارة والاعتداد بالفكر (لا بالفقه) مضافًا إليهما: (العُجْب، في وصفه لابن القيم) وزِيد: الخَرَق. ولا أشك أن ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله قد أمدَّهما الله بالشجاعة (أو الجسارة) النادرة في عصرهما، للوقوف في وجه ضلال المتعصبين للفكر، والقبورية والمتصوفة والفلاسفة والشيعة وهم الأكثرون (الأقلون يوم القيامة) رغم الأذى والسجن، وقلة متبعي السلف في الشام ومصر وغيرهما، بل التقليد.
5- ويأخذ أبو عبد الرحمن على العلامة ابن القيم تحدثه بنعمة الله عليه وتميزه عن علماء عصره ومن بعدهم وعلى كثير ممن قبلهم: بكثرة التأليف وجودته والتزامه بعد معرفته ابن تيمية بمنهاج السنة والدعوة إليه على بصيرة من كتاب الله وسنة رسوله بفهم الصحابة والتابعين وتابعيهم في القرون الخيرة. ولو لم يؤلف على هذا النهج غير: (زاد المعاد في هدي خير العباد) لكفاه فخرًا وأجرًا ومنزلة، فلم يؤلف مثله شمولًا ووجازة وصحة، ولا أنفع منه بعد كتاب الله لعامة المسلمين وطلاب العلم بل والعلماء؛ وأعده خير كتب السيرة وإن لم يعد منها عُرفًا لتركيزه على أهم ما في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: هديه في المعتقد وفي العبادات والمعاملات إضافة إلى ما تهتم به السير عادة من العادات والحوادث؛ وقد تقربت إلى الله بتهذيبه في نصف مجلد ليتيسر الانتفاع به أكثر؛ ولحذف ما ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مثل أكثر ما سُمي: (الطب النبوي)،وكذلك الاستطراد في ذكر الاختلاف على مثل سنن الهيئات والقنوت ونحو ذلك. وقال محقِّقا الزاد: عبدالقادر وشعيب الأرناؤوط: (إن أوفى كتاب في هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو كتاب زاد المعاد… وكل من يقرأ مؤلفات ابن القيم بتبصر وتمحص يعلم حق العلم أنه رحمه الله جمع من علوم القرآن والسنة والاحاطة بفقه السلف ما لا نعلم مثله عن كثير من العلماء ممن تقدم أو أتى بعده).
6- ويعُدُّ أبو عبد الرحمن ما نقله ابن عثيمين رحمه الله عن ابن تيمية رحمه الله من مجموع الفتاوى (16/50) مؤيدًا رأي ابن عثيمين وشيخه ابن سعدي (وهو رأي بن باز رحمه الله) أنه لا دليل في شرع الله على وجوب الالتزام بقواعد التجويد المعروفة؛ يَعُدُّ ذلك (طامةً كبرى)!! قال ابن تيمية رحمه الله: (ولا يجعل همه فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن… بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمدِّ الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه)، نقله ابن عثيمين في كتاب العلم (ص 171). أما أبو عبد الرحمن ـ ردَّه الله إلى الحق ـ فلا ينقض كلام ابن تيمية أو ابن باز وابن عثيمين وابن سعدي بالدليل الشرعي من الكتاب أو السنة (وأنَّى له ذلك) بل (استمتاعه بتلاوة المقرئين المجوِّدين، وبكائه على إضاعة التجويد اللذيذ تطبيقًا)، وتذكرت (الذوق) من مصادر التلقي الصوفي؛ ولكن أبا عبد الرحمن بفضل الله منزه عنه، وربما عدَّه (من العبث الصوفي بالديانة) فلا يصحُّ في الديانة إلا ما ثبت (ببيان من القرآن أو نقل ثابت عن الرسول)، وهذا ما حكم به ابن باز وابن عثيمين وابن سعدي رحمهم الله، فلا تقبل (أحكام) التجويد إلا ببيان من الوحي، وليس في كتب التجويد ذكر للدليل ولو كان حديثًا ضعيفًا؛ ونُقل عن الإمام أحمد رحمه الله إنكاره الإدغام لأنه يخفي حرفًا أنزله الله، ووعد قارئه بعشر حسنات. قلت: فكيف بالإخفاء؟!
7- ومدح أبو عبد الرحمن شيخ مشايخه ابن تيمية حتى في تتبعه سقطات شيخه ابن حزم (في الفقه والعقيدة فكان في غاية الإنصاف وعفافة اللسان وكرم الخلق وتوقير الأئمة)، وليته اقتدى به مكافأة للجميل.
8- أما حديث الصورة، فلم يكن ابن تيمية بدعًا من العلماء في فهمه، وفي كتاب الشيخ حمود التويجري رحمه الله عن هذا الأمر روايات عن علماء قبل ابن تيمية بقرون وعلى رأسهم الإمام أحمد حكم على من أول الحديث (وآخرهم أبو عبد الرحمن) بأن الضمير في (صورته) عائد على آدم بأنه جهميٌّ.
وجزى الله أبا عبد الرحمن بتوفيقه وتثبيته، وهدى الجميع لأقرب من هذا رشدًا. (مكة في 10/11/1432هـ)