السعوديّون والحلّ الإسلامي

السعوديّون والحلّ الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

عنوان هذا المقال هو عنوان مؤلَّف للصحفي المصري (جلال كشك) قرأت أول جزء نُشِر منه في مجلّة (الحوادث) اللبنانية وأعجبني منه أن يُدرك صحفيٌّ معاصر (أو أي كاتبٍ أو مفكر معاصر) تفرُّد الدولة المباركة ـ فضلاً من الله ونعمة ـ بتأسيسها من أوّل يوم على منهاج النبوة في الدين والدعوة، وإدراك ذلك ميزةٌ خص الله بها عباده المنصفين الشاكرين، وبعد سنوات عديدة تبينت من حديث مع أحد القوميين المواطنين (الحاقدين على دولة الدعوة إلى التوحيد والسنة الجاحدين نعمة الله عليهم بها في الدين والدنيا) أن جلال كشك (هداه الله وهداهم جميعاً للحق والعدل) خالف جميع المؤرّخين قبله في أمر فتنة فيصل الدويش وابن بجاد ومن شايعهم.
لم يهتم القومي بمئات الصفحات في هذا الكتاب التي يُذكّره إن نسيَ وتذكره إن جهل نعم الله عليه وعلى أهله بما حققته هذه الدولة المباركة من إنجازات (دينية أولاً ودنيوية ثانياً) أنقذتهم من الجهل والضلال والجوع والخوف، وفرح بخطأ صحفي يحاول قراءة التاريخ {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8]، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] بل اتّكأ الصحفي على مكتبه وحك رأسه، فرأى في فتنة الدويش ما لم يره من شهدوها من كبار علماء الأمة والساسة ثم المؤرخين الذي استقى هو من أخبارهم ما عدى ذلك من كتابه.
ولن أُحيل القوميَّ ولا الصحفيَّ إلى العلماء ولا إلى الساسة من شهود الواقعة، فلن يكون لرأيهم وزنٌ عند أحدهما، فلو وُجدتْ الثقة في رأيهم لرجع المقلِّد أو المقلَّد إليه؛ ولكنِّي أقيم عليهما الحجة بما يليق بهما تصديق: رأي صحفيّ من أكبر صفحي أوروبا في زمنه، هداه الله إلى الإسلام، وأقام في المملكة المباركة بعض الوقت، وكان (مثل الدويش وابن بجاد رحمهما الله) يرى أنّ وفرة المال في أيدي السعوديّين واستيراد الحضارة الغربية سيضعف استقلالهم المعنوي واعتمادهم على أنفسهم ويجعلهم عالة على غيرهم في الداخل والخارج، وهذا صحيح؛ ولكن هكذا الحياة إذا زادات من جانب نقصتْ من جانب آخر، وهل يرى القوميّ أو الصحفيّ أن يُلغَى اكتشاف النفط (وكان هذا أحد مطالب الدويش وابن بجاد بمعارضتهما التنقيب عنه برجال الحضارة الغربية، فضلاً عن معارضتهما وجود الهاتف واللاّسلكي والرّاديو).
ومن آثار نعمة الله باكتشاف النفط انتشر التعليم، وتوفرت الوظائف، واتسعت آفاق العمل والكسب التي كان القومي حريصاً أن يأخذ من جانبها الدنيوي ما يزيد عن حاجته، وربما قاده حرصه عليها إلى الموالاة فيها والمعاداة فيها وبالتالي: الحقد على من ساق الله إليه التعلم والعمل والمال على أيديهم.
خيرُ من تقصّى الحقيقة في فتنة الدويش ومن معه (رحمهم الله) محمد أسد (ليوبولد فايس) الذي ضرب كبد ناقته بحثاً عن الحقيقة (مع شمّري موالٍ لآل الرشيد هجَر (حايل) بعد زوال إمارتهم وعمل مهرّباً للسلاح ثم جندياً في جيش العراق، ثم دليلاً لمحمد أسد)، وتتّبعا آثار الدويش في المملكة المباركة وفي الكويت حتى وقفا على مصدر تمويل الفتنة مِنْ قِبَل إنكلترا لضرب الدولة الناشئة بالعصاة الخوارج من رعيّتها (كما تفعل الآن بالمسعري والفقيه وأمثالهما من المهاجرين إليها من أرض القداسة والبركة والدعوة).
وكان من أهداف إنكلترا (كما يرى محمد أسد في كتابه: الطريق إلى مكة):
1- تأمين الحدود العراقية من غزو عصابة البادية السعودية.
2- إنشاء قاعدة بحرية في ميناء رابغ.
3- السيطرة على الخط الحديدي بين الشام والمدينة.
4- إنشاء خط حديدي جديد بين حيفا والبصرة.
(مشروعات بُذلت جهود وأموال للتخطيط لها وبدء العمل على تنفيذها أحبطها الله بوقوف الملك عبد العزيز في وجه الثلاثة الأخيرة منها وتصميمه على رفضها ومحاربتها، وربما كان لنشر تحقق محمد أسد في الصحف الأوروبية ثم المصرية بالغ الأثر في إهمالهما) الطريق إلى مكة.
ومن تحقيق محمد أسد يتبين أن الإنكليز بنوا مراكز على الحدود لإثارة البادية فدمّرها (الإخوان) كما كان متوقعاً، فعاقبهم الإنكليز كما كان مخطّطاً ـ لكي يثور الإخوان بقيادة فيصل الدويش على الملك عبد العزيز رحمهما الله، وصدّق الإنكليز ظنّهم على الإخوان فاتبعوهم إلا فريقاً من الثابتين على شرع الله بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم وعلمائهم.
ويؤيد وقوع الإخوان في فخ الفتنة الذي نصبه لهم الإنكليز مخطوط لتاريخ تلك الحقبة من تأليف أحد شهوده (محمد العلي العبيد)، يقول رحمه الله: (إنه قضى نيّفاً وثلاثين سنة يتجوّل بين بوادي حرب وشمّر ومطير وعتيبة وسبيع والبقوم والدّواسر وهيتم وغيرهم) وقال: (لم أضع في هذا الكتاب إلا ما شاهدته بعيني أو نقلته عن ثقات أعرف صدقهم وحفظهم لما شهدوه)، وهو يوافق (محمد أسد) على تآمر العصاة واتفاقهم على اقتسام أرض الدولة السعودية بينهم: للدويش المحمل والوشم وسدير والعارض والخرج والحوطة والحريق وما والاها، ولابن بجاد القصيم والحجاز وما بينهما، ولفرحان بن مشهور ـ تجاوز الله عنا وعنهم جميعاً ـ الجوف وحايل وتيماء والعلا وخيبر وما والاها).
ولم تكن فتنة الدويش في النصف الأول من القرن الهجري الماضي ولا فتنة الخوارج ـ في العقدين الثاني والثالث من هذا القرن هي كل محاولات الشيطان وأعوانه هزيمة دولة ودعوة التوحيد والتجديد على منهاج النبوة الوحيدة منذ الفاطميّين، بل سبقها ولحقها محاولات تنافسها في الشر كانت نهايتها الفشل بفضل الله ورحمته ونصره وتأييده:
1) فتنة الخرافة العثمانية (لا أعادها الله على الإسلام ولا على المسلمين) وكانت نهايتها: هَدْم عاصمة الدولة والدعوة وقتل أو نفي ولاة أمرها من العلماء والأمراء، وزوال الدولة والدعوة بضع سنين عادت بعدها تُجدِّد الدين بالعودة به إلى ما كان عليه في عصر النبوة والصحبة، وباءت دولة الخرافة والبدعة والشرك بالفشل والخسران المبين.
2) فتنة الاشتراكية والقومية العربية (لا أعادها الله على الإسلام ولا على المسلمين) وركَضَ أكثرُ العرب وراءها، وقاومها الملك سعود ثم الملك فيصل رحمهما الله، وأطفأ الله نار الفتنة، وسقطت الاشتراكية والقومية العربية، بل سقطت الاشتراكية والشيوعية الأعجمية وهي القدوة للاشتراكيين والشيوعيين العرب وبئس القدوة، وبقيت دعوة الملك فيصل إلى التضام الإسلامي ممثلة في رابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكأنما كانت بدايةً أو مقدمةً لما سُمّي بالصحوة الإسلامية، ردّ الله الثلاث إلى منهاج النبوة ردّاً جميلاً، وحقق لها وبها الدعوة إلى شرعه على بصيرة من الوحي والفقه فيه.
3) فتنة جهيمان وأتباعه عسى الله أن يُعاملهم بنيّاتهم ويعذرهم بجهلهم، ولا شك أنهما كانوا يحسبون أنهم على طريق الهدى والإصلاح كما قال الله عن شر خلقه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] وكانت نتيجة ما ظنوه إصلاحاً (يملأ الأرض عدلاً) احتلال المسجد الحرام وترويع الطائفين والعاكفين والركّع السجود، وقتل الأنفس التي حرم الله قتلها بغير حق، وبقيت الدولة والدعوة في عهد الملك خالد رحمه الله، ولم يبق من جهيمان والخارجين معه على جماعة المسلمين وإمامهم إلا ذكرى شرهم.
4) فتنة احتلال البعث الاشتراكي (القومي) العربي في العراق الكويت وتهديد السعودية وبقية دول الخليج العربية، وركض أكثر العرب وراء الفتنة؛ إسلاميّهم ونصرانيّهم، سنيّهم وشيعيّهم، متعلمهم وجاهلهم، وظنوا (كما في فتنة الخرافة العثمانية وفتنة الاشتراكية القومية العربية) أنه قُضي على (دولة الدعوة إلى التوحيد والسنة)، وخيّب الله ظنهم في هذه الفتنة (لا أعادها الله على الإسلام ولا على المسلمين) كما خيّب ظنّهم مِنْ قبل، وبقيت الدولة والدعوة ولو كره الكافرون بنعمة الله والجاحدون لها والحاقدون على الذين أنعم الله عليهم، وشتّت الله شمل حزب الظلم والطغيان وحميّة الجاهلية وقادته، ودَحَر مؤيّديه. وهدى اللهُ خادمَ الحرمين (تؤيّده فتوى كبار العلماء) إلى قيادة الدولة والدعوة نحو النصر المبين، رغم الزوابع والغوغائية التي أثارها العوامّ وأنصاف العوامّ من المفكرين والحركيين والحزبيّين متبعي الهوى التائهين عن شرع الله.
لقد بذل (جلال كشك) جُهْداً ملحوظاً في جمع ملخصات لآراء المؤرخين قبله (ممن شهد الأحداث وردّد أقوال غيره عنها ـ مثله ـ)، وكان كتابه صالحاً للتّسلية (وربما للعبرة) لولا محاولته فرض رأيه على الواقع الذي لم يحضُره وعلى من حضروه، وعلى غيره وغيرهم من العالمين، ليسبق غيره إلى وَهْم (التفسير الإسلامي للتاريخ) كما وصفه ناشر الكتاب على غلافه الأخير، والتفسير (الإسلامي) وللتاريخ ـ حقيقةً ـ يملكه علماء الإسلام (ممن شهد الحدَثَ بخاصة)، ولو تُرك الأمر للصحفيين والمفكرين ـ بعد الحدث بعشرات السنين ـ لتعددت وتنوعت التفاسير (الإسلامية) للتاريخ بعدد الراغبين في الخوض في وَحْلِه، وهم (أكثر من الهم على القلب) كما يقول المثل، جعل الله همَّ الآخرة أكبرَ همِّنا وهمِّهم.
ونصيحتي لطلاب العلم أو الفكر أن يتعلموا قبل أن يقفزوا إلى وظيفة التعليم بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ مستيقنين الغاية الدنيوية من الشهرة أو الجاه أو المال أو الشرف أو العلوّ في الأرض ونصيحتي لجلال كشك ـ بخاصة ـ أن يقرأ ـ على الأقل ـ بعض ما كتبه علماء بلده وعصره مثل محمد أبو زهرة في خاتمة كتابه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله، ومحمد رشيد في مقدمة الطبعة الأولى للمفتي والشرح الكبير ومحمد حامد الفقي في مقدّمة الطبعة الأولى لجامع الأصول رحمهم الله جميعاً، بل يقرأ للأدباء والكتاب في بلده وعصره مثل طه حسين والعقّاد رحمهما الله ليتعرّف على آثار نعمة الله بدولة الدعوة على منهاج النبوّة على جزيرة العرب وعلى الإسلام والمسلمين جميعاً، ثم يقوم ـ هو وغيره ـ لله مثنى وفرادى ثم يتفكروا: ما هي احتمالات انتصار البدائل (العنصرية العثمانية، الدويش ومن معه، الاشتراكية والقومية العربية، جهيمان ومن معه، صدّام الدّين والعقل والخُلُق وحزبه، خوارج الفكر الواقع والجهاد الخيالي والإجرامي) على الإسلام وعلى المسلمين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته.
الطائف – 1424هـ