الولاء والبراء الشرعي والحركي (2)

الولاء والبراء الشرعي والحركي (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56].

والبراء من أعداء الله ورسوله وشرعه، وهم الكافرون والمشركون بالله في عبادته مهما كان انتماؤهم وشعارهم.

فمناط الولاء: الجمع بين صحة المعتقد -بإفراد الله بالعبادة -، وصلاح العمل -باتباع السنة-، وفي هذا جماع كل خير، وقد مدح الله {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في أكثر من خمسين آية، وفي معناها ما يصعب حصره.

ومناط البراء: الشرك في الاعتقاد -بدعاء غير الله معه تقرباً إليه- والابتداع في العمل -بعبادة الله على نحو لم يأذن به الله-، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

وسبب الجهل بهذه الحقيقة الناصعة في حاضرنا: أن جميع الحركات الفكرية -الموصوفة بالإسلامية- نشأت في بلاد يحتلها ويحكمها غير المسلمين من يهود أو نصارى أو وثنيين أو ملحدين؛ فانحرفت عقيدة الولاء والبراء إلى مسار ضيق بحصرها في فئة واحدة من البشر، هم الحكام.

وسول الشيطان لدعاة الفكر المحدثين أن (التكتيك المرحلي) يقتضي التركيز على معاداة الحاكم والسكوت عن أخطاء الرعية: الشرك فما دونه، بحجة أن أولئك كفار، وهؤلاء مسلمون -يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله-، وما خالف العقيدة والسنة في أقوالهم أو أفعالهم فهو ناتج عن جهل يسهل تغييره ووراءه إيمان عميق تغطيه العادات والتقاليد، والمرحلة الحاضرة تستدعي جمع الصفوف وراء فكرة واحدة يتفق عليها الجميع: إجلاء المحتل الكافر من ديار المسلمين.

ولما خرجت جيوش الاحتلال من البلاد المسلمة والكافرة بانتهاء دور الاحتلال العسكري الأجنبي، وجدت الحركات الفكرية على اختلاف شعاراتها أن ليس في صالحها تغيير الهدف -الهدف الذي جمع الناس حولها- فحولت العداء إلى الحاكم المسلم، ولو أنه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

أما الولاء فقد حصره كل إسلامي في نطاق: قادته وأتباعه والموالين له، ومن باب أولى بقي كذلك.

ولو كان (الحزبيون الإسلاميون) يحكمون ما أنزل الله -شعارهم الحركي- لعرفوا من الآيات المحكمة في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة:

1ـ أن عقيدة الولاء و البراء في شريعة الله منافية للتعصب الفردي أو الحزبي أو القبلي أو الجغرافي، قال الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26].

وأنها -ككل عبادة أخرى- لا بد أن تتصف بالإخلاص لله وحده والطاعة لله ولرسوله، لا تشوبها أي شائبة من الهوى وقصد الدنيا، قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].

2ـ أن الله تعالى أمر بطاعة ولي الأمر المسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم} [النساء:59].

وبينت السنة أن طاعة ولي الأمر المسلم فرض عين لا يسقطه ظلمه أو جوره أو فسوقه أو فجوره؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها»، والأثرة: الاستئثار بالأموال والمتاع الدنيوي والأمور المنكرة: هي في الدين، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا ؟. قال: «تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم».

وروى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي»، قلت: كيف أصنع إن أدركت ذلك؟. قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك».

وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات؛ فميتةٌ جاهلية».

وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية»؛ فكيف بمن يخرج عن طاعة أميره المسلم، ويفارق جماعة المسلمين، ويهاجر من ديار الإسلام إلى ديار الكفر في هذا السبيل؟.

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرونأو يميتونالصلاة عن وقتها؟» قلت: فما تأمرني؟ قال: «صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ فإنها لك نافلة»؛ لم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيار الأمة -فضلاً عن سفهائها- بإظهار مخالفة ولي الأمر المسلم حتى لو أخر صلاة الجماعة عن وقتها، ومعلوم أن الصلاة إذا أخرت عن وقتها عمداً بطلت.

3ـ أن الاستثناء الوحيد من عموم الأمر بطاعة ولاة الأمر: تنفيذ الأمر بمعصية الله، كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

ومع ذلك لا يجوز له الخروج عن الطاعة مطلقاً فيما ليس فيه معصية، كما قال الله تعالى في طاعة الوالدين: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} [لقمان:15]، وكما نهى الله المؤمنين عن اتباع سبيل الكافرين، وأباح التعامل معهم، وأمر بالعدل فيهم، والإحسان في مجادلتهم، ونهى عن الاعتداء عليهم.

ومع ظهور المعاصي في بلاد المسلمين: الشرك فما دونه؛ لم يؤمر أحد باقترافها.

4ـ أن تفريق جماعة المسلمين إلى فرق وأحزاب وجماعات وطرق وطوائف -بحجة توحيد الصف والكلمة، وتحكيم ما أنزل الله- أمر يخالف الشرع المبين والعقل المستقيم؛ فالتفرق منافٍ للتجمع والاتحاد، وقد نهى الله عنه في محكم كتابه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، وكل منتم إلى جماعة خاصة أو حزب أو طريقة أو فرقة -وإن وصفت زوراً بالإسلامية- فهو متشيع لها ولأميرها ومنهاجها منعزل بذلك عن جماعة المسلمين.

وليس التشيع المنكر خاصاً بالأخذ عن آل البيت وحدهم؛ بل هم خير من يُتشيع لهم لو كان التشيع لبشر -غير معصوم- شرعاً.

5ـ أن الدعوة إلى الله على بصيرة -كما شرعها الله لرسله ولأتباعهم من بعدهم- عامة لجميع أهل الأرض: رعاة ورعية، شباباً وشيوخاً، ذكوراً وإناثاً، مسلمين وكافرين؛ يدعون ـ أولاً وقبل كل شيء وعلى ـ إلى إفراد الله بالعبادة، والتحذير من الشرك وأهله وذرائعه، ثم إلى العبادات العملية والمعاملات والأخلاق الشرعية، ويذكرون بآلاء الله، ويرغبون في رضاه وثوابه ويخوفون غضبه وعقابه.

ومن يعرف واقع المنتمين إلى الإسلام اليوم ويتحرى العدل؛ يعترف بأن أكثر الرعايا أسوء من أكثر الرعاة في الشرك والمعاصي وتحكيم قوانين البشر وأهوائهم.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومتبعي سنته.