{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}، نقد لفكر نجيب الزّامل
{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}، نقد لفكر نجيب الزّامل
بسم الله الرحمن الرحيم
في جريدة الاقتصادية العدد 3186 بتاريخ 1423/4/20هـ مقال في زاوية (رأي وقضيّة) بعنوان: (لن نأكل) يحمل كلمة حقّ على استحياء يتخللها الاعتذار والتحفظ لمخالفتها رأي الأكثرين في مقاطعة العلاقات التجارية الأمريكية المستثمرة محلياً بأموال سعودية.
وإني لأشارك الكاتب في نتيجة مقاله ـ دون اعتذار ولا تحفظ ـ وإن خالفْتُه في بعض مقدمة المقال، وأذَكِّره بأن الأكثرين غالباً هم الأقلون عَقلاً وعلماً وفِقهاً وإيماناً وشكراً كما وصفهم خالقهم، وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير، وعلى هذا فلا يليق بالمسلم اتباع أهوائهم في الانتخابات ولا في وسائل الإعلام ولا في الإشاعات ولا في المظاهرات والإضرابات ولا غيرها، فإن فَعَل فقد خالفَ الشرع والعقل، قال الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]:
1- أوافق صاحب المقال في قوله: (إننا اليوم نحكم عواطفنا وأهواءنا [على اختلاف انتماءاتنا] أكثر مما نحكم عقولنا) فضلاً عما يجب أن نتعبد لله به من تحكيم شرعه.
2- ولا أوافقه على مقدّمته الاسترضائية التي تدخل تحت وصفه (ظاهرة المبالغة في الحماسة) من دعوى أن أمريكا (تقف ضدّنا على طول الخط، وتنتزع من لحمنا وتعطيه اليهود.. هادناها ولم تهادنا.. حالفناها ولم تحالفنا) إلخ. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ فالله تعالى يجب العدل ويأمر به الجميع مع الجميع: الصديق والعدو، المسلم وغير المسلم.
3- وأمريكا حليفة للسعودية منذ أكثر من نصف قرن، ومهادنة لها منذ بدء العلاقات بينهما، بل لم تكن بينهما حرب تستدعي الهدنة، وإذا كانت بعض الدول العربية والمسلمة قد احْـتُلَّتْ بالجيوش الأوربية مثل فرنسا في سوريا ولبنان والغرب العربي، وإنكلترا في العراق والأردن وفلسطين ومصر والسودان والخليج.. إلخ؛ فإن الله قد حمى السعودية من الاحتلال، وأمريكا لم تكن من دول الاحتلال في المنطقة عندما كان الاحتلال العسكري عملة دارجة على أي حال.
4- ولا أعلم أنها (انتزعت شيئاً من لحمنا لتعطيه لليهود)، فأهم ما تحتاجه أمريكا مما نملك: النفط وتأخذه بثمنه الذي نحتاج إليه، وهي تساعد حليفتها إسرائيل ونحن نساعد (حليفتنا) فلسطين، وأمريكا تحالف وتعين عدداً من الدول العربية والمسلمة للمصلحة المتبادلة، وليس من العدل أن نطالب مَنْ يَعُدّه أكثر العرب والمسلمين اتباعاً لفكر الخميني العدو الأول والشيطان الأكبر بأن يختصهم بمحالفته وإعانته.
5- وأمريكا تبحث عن مصالحها المادية أو المعنوية، ولا يجوز لنا أن نلومها على ذلك وكلنا يبحث عن مصلحة ويدافع عنها البعيد والقريب. وللمصلحة أعانت أمريكا صدّام حسين على جارته إيران يوم كان الخطر قادماً منها، وللمصلحة أعانت الكويت لتحريرها من احتلال صدام الغاشم، وللمصلحة دمّرت يوغسلافيا الصّربية النصرانية لوقف عدوانها الظالم على كوسوفا المسلمة، وقبل ذلك كله دمّرت ألمانيا النصرانية النازية انتصاراً لبقية أوروبا النصرانية، وحاربت الشيوعية بكل سلاح. ونحمد الله أن مصلحة أمريكا وافقت مصلحتنا في ذلك كله، وأن الله لم يكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أشقائنا العرب والمسلمين الذي كان عجزهم وفكرهم وسوء تصرفاتهم وسوء اختيارهم وقلة فقههم في الدين؛ كل ذلك ومثله معه يضعهم دائماً في الصف الخاسر ويجعلهم في موقف العدو لأنفسهم ولأهليهم وللعرب والمسلمين، وفي موقف المؤيد للباطل غالباً.
6- والتعاون مع المسلم وغير المسلم على غير الإثم والعدوان أمرٌ شرَعَه الله تعالى وسَنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم بإذن ربه؛ فكان يعامل الجميع بالحسنى في الدعوة إلى الله وفي البيع والشراء والإجارة والإعارة، ودخل بعد البعثة في جوار المطعم بن عدي وهو مشرك مات على شركه، وأمِنَ عبد الله بن أريقط وهو مشرك على أسرار هجرته إلى المدينة، وأمِنَ عُيَيْنة الخزاعي وهو مشرك على ما يجيئه به من أخبار المشركين، وحالف خزاعة وكانوا عَيْبَة نُصحٍ له باتفاق الفقهاء، وكانوا في جيشه يوم فتح مكة مسلمهم ومشركهم، وزارع يهود خيبر على أن لهم الشطر من كل ما يخرج منها من زرع وثمر بعد أن تكرر نقضهم للعهود والعقود معه، وكان يلبس البُرْد من نسيج مشركي اليمن والحُلّة من نسيج نصارى الروم، وكان يزور الجميع ويقبل زيارتهم ويُهْديهم ويقبل هديتهم حتى لحق بالرّفيق الأعلى، ولم يكن يوالي من البشر إلا المؤمنين، لا يوالي الوثني ولا الكتابي، ولا يوالي المشرك ممن ينتمي إلى الإسلام، فلا بدّ من مراعاة الفرق بين الموالاة والتعاون.
7- والظن بأن أمريكا تملك القرار في بقاء نكبة المسلمين ـ جميعاً ـ في فلسطين أو زوالها، إنما هو نتيجة لما سماه الكاتب (هوائيتنا المشهورة)، وأسمّيه خيالنا الطاغي الجاهل وقلّة الفقه في الدين، وقلة تدبر القرآن، وقلة العمل بالآية والحديث؛ حتى ظن أكثرنا ـ على اختلاف فِرَقِهم ـ أن كل ما يحدث في الكون إنما هو من تخطيط أمريكا (وإسرائيل) وأنّ بيدها ـ وحدها ـ مقاليد الأمور في الأرض، ونسوا أن ذلك بيد الله وحده وأن عليهم التوكل عليه والخوف والرجاء منه وحده على الإطلاق؛ وأن هذا وحده طريق نجاتهم وخروجهم مما هم فيه. وقد فشلت أمريكا في تحقيق ما رغبَتْ فيه وحرِصَتْ على تحقيقه وعملت طويلاً بالتخطيط والتنفيذ من أجله في فيتنام وكُوبا الأضعف ناصراً والأقل عدداً والأبعد عن الدين.
8- والظن بأن السبب الأول في نكبتنا في فلسطين هو تخطيط أو تنفيذ أمريكا والصهيونية، إنما هو مجرد تفسير مادي دنيوي للحَدَث وتسويل من النفس الأمارة بالسوء ووسوسة من الشيطان لنبتعد عن السبب الأساس والأهم الذي بينه الله في بضع عشرة آية من كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: أن الأمر من الله وبإذنه جزاءً لما كَسَبَتْ أيدينا (بل لبعض ما قدَّمَتْ أيدينا) في مثل قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22]، {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11]، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء: 62]، {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51]، {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 78-79]، والصهيونية (ونحوها) مجرد أداة ظالمة لمعاقبة ظالم، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].. وإذا بلغ بالمسلمين السَّفه حد اختيار الشيوعية لدنياهم في الماضي القريب، واختيار المناهج البشرية المبتدعة لدينهم اليوم؛ والتقرب إلى الله بالموبقة الكبرى من معاصيه: الإشراك به في العبودية بدعاء الأموات وطلب مَدَدِهم، وبناء المساجد على القبور، والاجتماع مع أعداء الدين الحق على المشاهد والمزارات (أوثان البشر منذ قوم نوح إلى قيام الساعة) أهَّلنا أنفسنا لأي نكبة بأي أداة يختارها الله تعالى، نعوذ بالله من غضبه وعقابه ومما يغضبه.
9- وإذا كنا نظن ـ مع الشيوعيين والقوميين والبوذيين والقبوريين المنتسبين للإسلام والسنة أو الشيعة أوالدروز ـ أن مشكلتنا الكبرى وجود أمريكا (وهو ما لا يخطر ببالي لحظة واحدة ولله الحمد والمنة)؛ فليس من الشرع ولا من العقل التركيز على مقاطعة المؤسسات السعودية التي تحمل العلامات التجارية الأمريكية لأن النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما قدمت ـ استعمل منتجات المشركين والنصارى في أبرز حالات حربهم للإسلام الحق وأهله الصالحين.
واجب المسلم مقاطعة المنتجات الخارجية والداخلية التي لا يحتاج إليها؛ استجابة لأمر الله بمقاطعة الاسراف {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، في أمر الدين (مثل زخرفة المصاحف والمساجد بالألوان والفنون وكل مواد وأدوات الزينة)، وفي أمور الدنيا (مثل وسائل الإعلام والاتصالات ولو نُسبَتْ زوراً للإسلام).
ولما كان الله تعالى يؤيد الدين بالرجل الفاجر، فمن باب أولى تحقق فضله بتأييد الدنيا بغير المسلم. وفي القرن الأخير وحده أزال الله طغيان سلاطين آل عثمان وفسادهم وإفسادهم ديناً ودنيا في بلاد المسلمين بمساعدة إنكلترا، وأزال الله آثار العدوان الأوروبي على مصر عام 1956م بمساعدة أمريكا، وأزال الله طغيان صدام حسين وحزبه على الكويت والخليج، ثم أنقذ العراق منه بعد ربع قرن من الفساد الديني والدنيوي بمساعدة الدول المتحالفة بعد أن عجز أو قعد المسلمون عن ذلك.
10- وأذكّر الكاتب السعودي الذي أثار هذا المقال ـ خاصة ـ بأنه عندما كان يَدْرُس في أمريكا كانت الإدارة الأمريكية تميّزه بتأشيرة دخول وإقامة في أمريكا (دبلوماسية A-2) تحميه من القوانين الأمريكية لسبب واحد: (أنه سعودي) حتى أساء بعض الطلاب السعوديين استعمالها فطالب عضو في الكونكرس بعد عشرات السنين بإلغائها. ولم (يُنْتزع لحم أحد منهم) ولا لاقى حرباً ولا عداوة ظاهرة (رسمية ولا إعلامية) حتى اعتدى 15 سعودي على أمن أمريكا وأرواحها وممتلكاتها في حادث 11 سبتمبر الإجرامي الذي لا يقره دين ولا عقل ولا خُلُق.
11- وأذكر الغوغائيين الخياليين أن الله أيد دولة الدعوة على بصيرة (ومن ورائها من تحسن إليهم ممن يستحق ومن لا يَسْتحق) بأمريكا في أمر له بالغ الأثر في حياتها الدينية والدنيوية منذ سبعين سنة: البحث عن النفظ واكتشافه وإنتاجه بعد فشل شركة أوربية ويأسها من احتمال وجوده، ومثل سنة الله في فضله على هذه البلاد والدولة المباركة؛ أراد الله لفضله هذه المرة أيضاً أن يتحقق بحكمة عالم وحاكم: الشيخ فوزان السّابق والملك عبد العزيز رحمهما الله.
12- تميّز (كرَين) عن (روكفلر وفورد) وأمثالهم من أثرياء أمريكا بحب البلاد العربية، وفي إحدى زياراته لها اشترى 50 ألف فَسِيْلة نَخْلٍ من مختلف أنواع النخيل ونَقَلَها مع عمّالها إلى مزرعته في كَلِفُورنيا، وفي زيارة أخرى رغب في شراء حصان وفرس يبدأ بهما تربية الخيول العربية هناك فَدُل على الشيخ فوزان السابق، وكان إضافة إلى اهتمامه بالتجارة من أوائل وخير، وأعلم ممثلي الملك عبد العزيز ودولة التوحيد والسنة في الخارج، وعندما اختار (كرَيْن) بضاعته سأل عن ثمنها فردّ فوزان (وكان قد عرف عنه ما تميّز به): نحن اليوم لا نبيع الخيل وإنما نُهْديها لمستحقها؛ فأكبر (كرَيْن) هذا الخُلُق ورغب في مكافأته، فعرض على فوزان خدمة جيولوجي للبحث عن الماء (أكثر ما تحتاجه المملكة من متاع الحياة الدنيا)، وبعد موافقة الملك عبد العزيز على العَرْض جاء (توِتْشِل) وبَحَث عن الماء ولا يزال تقريره محفوظاً لدى جهة الاختصاص، وأثناء بحثه عن الماء تعرّف على خزائن الأرض المباركة من الثروات الأخرى وأهمّها النفط، وتضمن تقريره الذي قدّمه إلى (كرَيْن) توصيةً بالمساهمة في البحث عنه واستخراجه، وفاز (كرَيْن) وشركاؤه في المسابقة التي أقيمت لهذا الغَرَض، وبدأ التنقيب وحُفِرَت عدة آبار استكشافيّة كان البئر السابع منها أحد أغزر الآبار البترولية في العالم، وظهر أن أرض صحراء الجزيرة العربية التي تحكمها دولة الدعوة على منهاج النبوة تغطي نحو 25% من احتياطي النّفط في العالم فضلاً من الله ونعمة، ولا يزال هذا التقرير ثابتاً حتى اليوم بعد أن تحولت ملكيّة شركة أرامكو 100% للدّولة المباركة.
والأولى بالمسلم بعد أن عرف نعمة ربه أن يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته إلى يوم الدين.
الطائف – ربيع الثاني 1423هـ