المنفلوطي أبرز كتّاب مصر يبكي على التوحيد
المنفلوطي أبرز كتّاب مصر يبكي على التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت أظن أن الأستاذ محمد بهجت الأثري العراقي عضو المجامع العربية رحمه الله هو الكاتب العربي الوحيد الذي ميزه الله تعالى بمعرفة أهم ما أمر الله ورسله به (إفراد الله بالعبادة) وأهم ما نهى الله ورسله عنه (إشراك غير الله معه في عبادته) والإحاطة بما وصل إليه حال أغلب المسلمين ـ عربًا وعجمًا ـ من الجهل بصحيح المعتقد (أساس الدين وركنه الأعظم) والوقوع في أبرز مظاهر الشرك الأكبر منذ قوم نوح حتى قيام الساعة (تقديس الأضرحة والمقامات والمزارات والمشاهد، ودعاء أصحابها وطلب المدد منهم، والاستغاثة والاستعانة بهم، والنذر والذبح لها والطواف بها ونحو ذلك). ولا زلت أعتقد أنه خير الكتاب العرب علمًا، وأصحهم معتقدًا، وأجودهم همة ودعوة، فيما ظهر لي من مقالاته التي لم يستثن منها حتى مجلة مؤسسة الفكر العربي (على بعدها عن هذه القمة التي اصطفى الله لها خير رسله وخير الدعاة إليه)، وعلى رأس ذلك كله رسالة كتبها لندوة جامعة الإمام محمد بن سعود رحمه الله عن الدعوة التجديدية في منتصف القرن الثاني عشر وأول القرن الثالث عشر من الهجرة وكانت الندوة المباركة حسنة من حسنات معالي الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وفضلًا من فضل الله به وعليه. وكان عنوان الرسالة: (محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد) بين فيها أن ما قامت به وقامت عليه الدعوة المحمدية والدولة السعودية لم يسبق له مثيل منذ نحو ألف سنة من حيث العودة بالدين إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهدم أوثان المقامات والمزارات ومحاربة البدع التي أحدثها الناس منذ الفاطميين. وقد نوهت بهذا التميز في أكثر من مقال. وثبت على هذا حتى تجاوز التسعين. وقد وضع اثنان من إخواني في الدين والدعوة على منهاج النبوة بين يدي (الشيخان يوسف الغويري من مملكة الاردن، وعبد الحق التركماني من مملكة السويد) مقالًا عظيمًا للكاتب المصري الذي تتلمذ على مقالاته أكثر كتاب الأجيال الأخيرة من العرب (الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي) رحمه الله يرقى به إلى صف الأثري في حسرته على المسلمين اليوم، وإن عرفه الناس بالفكر والأدب العربي ولم يعرفوه بما هو أعظم: قال رحمه الله في كتابه (النظرات ج2 ط5 المطبعة الرحمانية بالحرنفش ـ مصر): (كتب إلي أحد علماء الهند عن مؤلف ظهر بلغة التاميل (لغة أهل ناقور وملحقاتها جنوب مدراس بالهند) موضوعه سيرة عبد القادر الجيلاني وما يروى عن مناقبه وكراماته وما يوصف به من صفات لا تليق إلا بالله تعالى مثل: (سيد السموات والأرض، المتصرف في الأكوان، المطلع على أسرار الخليقة، محيي الموتى، ماحي الذنوب، دافع البلاء). وفي الكتاب بيان لما يجب على زائر قبره: (يتوضأ وضوءً سابغًا، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجه إلى تلك الكعبة المشرفة؛ وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول: يا صاحب الثقلين، أغثني وأمدني بقضاء حاجتي وتفريج كربتي. أغثني يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر، يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبد القادر الجيلاني، عبدك ومريدك مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة).
ويقول الكاتب: (أن في (ناقور) في الهند قبرًا يسمى (شاه الحميد)، أحد أولاد عبد القادر ـ كما يزعمون ـ وأن الهنود يسجدون بين يدي ذلك القبر سجودهم بين يدي الله، وأن في كل بلد وقرية مزارًا لعبد القادر، هو القبلة التي يتوجه إليها المسلمون والملجأ الذي يلجؤون إليه في حاجاتهم وشدائدهم، وينفقون الأموال العظيمة على سدنته وموالده وحضراته).
يقول المنفلوطي رحمه الله: (يعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض، وأظلمت الدنيا في عيني، حزنًا وأسفًا على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعدما عرفوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها. أي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع، فلا تريقها أمام منظر أولئك المسلمين المحزن، وهم ركع سجد على أعتاب قبر. أي قلبٍ يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعًا حينما يرى المسلمين [المنتمين] إلى دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكًا؛ وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة؛ وكثرة المعبودات. لم ينقم المسلمون التثليث من المسيحيين؟ ولم يحملوا في صدورهم لهم تلك الموجدة وذلك الضغن؟ وعلام يحاربونهم؟ وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟ يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة، ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبُعده عن العقل، فيتأولون فيه، ويقولون: إن الثلاثة في حكم الواحد. أما المسلمون فيدينون بآلاف من الآلهة، أكثرها جذوع أشجار، وجثث أموات، وقطع أحجار، من حيث لا يشعرون.
جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين وليعتق رقابهم من رق العبودية [لغير الله]، وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر العظيم في نفوس المسلمين في العصور الأولى فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيرة، أما اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن والظاهر فقد ذلت رقابهم وفترت حميتهم فوجد أعداؤهم [من شياطين الجن والإنس] السبيل إليهم فغلبوهم على أمرهم، [من أمر الدين والدنيا].
والله، لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد. وإن طلوع الشمس من مغربها، أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده، ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله؛ فإذا نزلت بهم جائحة أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر والجذع [والميت ودعوه] قبل أن يذكروا ويدعوا [الحي الذي لا يموت ولا يعجزه شيء].
[ومن يؤمل فيه إنكار هذا المنكر]؟ علماء مصر وهم الذين يتهافتون على (يوم الكنسة) تهافت الذباب على الشراب [للتبرك بكنس تراب ضريح الإمام الشافعي]؟ أم علماء الآستانة [بقيادة] أبي الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية؟ أم علماء العجم الذين يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام؟
يا قادة الأمة [وعلماءها] لو عذرنا العامة في إشراكها، وفساد عقيدتها، وعجزها عن تصور الألوهية إلا ممثلة في النصب، والمزارات، والأضرحة؛ فما عذركم وأنتم تتلون في كتاب الله: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله}، {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا}، {قل لله الشفاعة جميعًا}، {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا}، {قل لن يجيرني من الله أحد}؟
وما عذركم وأنتم تعلمون أن السلف الصالح لم يرفعوا قبرًا، ولا توسلوا بضريح، ولم يقف أحد منهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من أصحابه أو آل بيته، يسأله قضاء حاجة، أو تفريج كربة، وتعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي ليسوا أكرم عند الله من نبيه وآل بيته وصحبه، وأنه لا فرق بين الأضرحة والمقامات وبين أوثان الجاهلية الأولى ما دام تقديسها يفسد عقيدة التوحيد؟ والله، ما جهلتم شيئًا من هذا، ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة، فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم).
قلت: رحمك الله يا مصطفى المنفلوطي، قليل من أمثالك من تمعر وجهه (أو لسانه أو قلبه أو قلمه) مما يرى بصره وتسمع أذنه من هذه الوثنية التي تقرب بها واستشفع المشركون الجاهليون، والمسلمون إلى الله منذ عاث الفاطميّون في الأرض فسادًا. ولعل أوثانهم في المشرق العربي كان أولها المسمى بالحسين بجوار الأزهر فقد بُني هذا الوثن في القرن السادس الهجري، ويلقى من تعظيم العلماء والعوام ما لا تكاد تلقاه الكعبة، فلا عجب من ضلال مسلمي العجم وقد سبقهم العرب إليه. وتعظيم الوثن المسمى بالشافعي لا يقف عن حد التبرك بالكنسة؛ فلقدت شاهدت العمائم الأزهرية أكثر من مرة تطوف حول هذا القبر في سكينة وخشوع لا أجده عند طواف كثيرين منهم بالكعبة. ويقول السيوطي في تاريخ الخلفاء: إن الذي بناه صلاح الدين الأيوبي، تجاوز الله عنهما، يمدحه بذلك، فتجمع على الشرك أو الدعوة إليه أو على السكوت عنه المجاهدون والعلماء والعوام في القرن السادس إلى القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر وإلى هذا اليوم. وباستثناء الشيخ محمد حامد الفقي ود. عبد الرحمن الوكيل ود.جميل غازي رؤساء جمعية أنصار السّنّة المحمدية لا أعرف أحدًا في مصر جاهد في الله حق جهاده فجعل أكبر همِّه: الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة واتباع السنة والتحذير من شرك الأضرحة والمقامات وما دونه من البدع. وتقول مجلة التوحيد التي تصدرها جماعة أنصار السنة في مصر (وهي مستثناة أيضًا) إن نذور وثن البدوي تقسم ثلاثًا بين وزارة الأوقاف (وكان على رأسها ثلاثة من أساتذتي: محمد متولي الشعراوي ومحمد حسين الذهبي ومحمد عبد المنعم النمر تجاوز الله عنهم)، وبين مصالح الضريح، وبين سدنته. وفي تاريخ جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وحزب الجهاد وجماعة التبليغ وأمثالهم من الأحزاب المبتدعة لم يعرف أحد من قادتهم ولا أفرادهم بالدعوة إلى ما دعا إليه كل الرسل، هدانا الله وإياهم لأقرب من هذا رشدًا.
ولكن أخوي (الغويري والتركماني) قدما إليَّ أيضًا فتاوى للشيخ عبد المجيد سليم مفتي مصر ثم شيخ الأزهر رحمه الله، وفيها:
(أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا يجوز أن يدفن في المسجد ميت لا صغير ولا كبير ولا جليل ولا غيره).
(لا يجوز دفن ميت في مسجد؛ فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسوية القبر، أو نبشه إن كان جديدًا، وذلك لأن في الدفن في المسجد إخراج لجزء من المسجد عما جعل له من صلاة المكتوبات والذكر والعلم وذلك غير جائز شرعًا، ولأن الدفن في المسجد يؤدي للصلاة إلى القبر أو عنده).
(وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترت بالنهي عن الصلاة عند القبور مطلقًا واتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص158) وقد هذّبت ونشرت مجموعة من فتاوى شيوخ الأزهر ومفتيها تحذّر من هذه الموبقة الكبرى.
(قال ابن تيمية: لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر مُنِع منه وكان الحكم للسابق، ذكره ابن القيم في زاد المعاد).
(قال الإمام النووي في شرح المهذب ص316: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر).
[في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا].
(نص الحنفية على كراهة صلاة الجنائز في المسجد. وإذا كانت صلاة الجنازة مكروهة كراهة تحريم كما في إحدى الرواتين وهي التي اختارها العلامة قاسم وغيره كان الدفن في المسجد أولى بالحظر).
(المصدر: فتاوى الأزهر المنشورة على الموقع الرسمي للأزهر).
وقال الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله عن التصوف:
(الصواب أنه اسم أعجمي قديم كان ولا يزال عند وثنيي الهند، وأصله عند قدماء اليونان [الوثنيين]: ثيو صوفي، ومعناه: المتجرد لطلب الحقيقة الأولى التي انبثق عنها الوجود، وهي عندهم: الحقيقة الإلهية أو نحو ذلك، ولهذا كانت الصوفية دينًا آخر غير الإسلام، دخيل عليه.)
المصدر: تحقيق الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله لكتاب التسهيل للبعلي، ص611.
وأفتى مفتي الأردن الشيخ د. عز الدين الخطيب بتحريم البناء على القبور. فلا تخلوا الأرض من طائفة على الحق وإن كانوا الأقل عددًا كما في قول الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].
ولكني لا أعرف في هذا العصر من جاهد في الله حق جهاده لمحاربة وثنية المساجد على القبور (بعد المجددين من علماء وأمراء جزيرة العرب) أكثر من د. عبد الرحمن الوكيل رئيس جماعة أنصار السنة ود. جميل غازي رئيس جماعة أنصار السنة أيضًا (في مصر) وسليم شراب (في غزة من فلسطين) ويوسف البرقاوي (في الأردن) والألباني ومحمد نسيب الرفاعي في سوريا، رحمهم الله جميعًا وأسكنهم الفردوس. ولا زالت أوثان المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة تملأ الرحب في بلاد المسلمين العرب والعجم عدا جزيرة العرب (بين اليمن والأردن، وبين الخليج والبحر الأحمر) هدى الله الجميع لأقرب من هذا رشدًا، وأعاذهم من نزعات شياطين الجن والإنس ومن تسويل النفس الأمارة بالسوء ومن غلبة الهوى والتقليد الفاسد.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه. (1430هـ).