تحكيم الإشاعة والإعلام والتَّاريخ مَعْصيةٌ وضلال مبين
تحكيم الإشاعة والإعلام والتَّاريخ مَعْصيةٌ وضلال مبين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وهذه آيةُ محكمةٌ يأمر الله بها المؤمنين من عباده بالتَّثبُّت قبل الأخذ بالخبر، وفي تفسير الإمام ابن جرير الطبري (خير التَّفاسير) عدَّة روايات عن سبب نزول هذه الآية، تتَّفق على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بقبول خبر صحابيٍّ عن صحابيٍّ آخر، فأمر الله بالتَّثبُّت من صحة الخبر قبل الأخذ به.
وفي عصر الانشغال بتحفيظ القرآن (النَّافلة) وتجويده (وأكثره لا دليل يُثْبِتُه) عن تدبُّر القرآن والعمل به (وهو الفريضة التي أنْزل القرآن من أجلها)؛ تَنَافَسْنا على مخالفة هذه الآية المُحْكمة حتى لا نُتَّهم بالتَّخلُّف عن ركب الحضارة: العلماء فضلًا عمَّن دونهم من طلاب العلم، وفضلًا عمَّن برئ من العلم وبرئ منه العلم من الصَّحفيِّين، والمفكِّرين والكتَّاب الإسلاميِّين بزعمهم، والغوغاء عامَّة.
ولا يليق بالمؤمن العالِم بشرع الله الذي رفع الله مقامه بعلم شرعه (من الوحي والفقه فيه) فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وخصَّه بخشيته عن علم، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، ولا يليق به أن يهبط من قمة العلم الشرعي إلى سفح الفكر البشري فيُلحق نفسه بمن قال الله فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى} [النجم: 23]، وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176].
وإليك بعض الأمثال لخير هؤلاء وهم الذين: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]:
1- أحدُ العلماء العاملين صدَّق فِرية حِزب الإخوان المسلمين وإشاعتهم أن أحد رموزهم (سيِّد قطب) تجاوز الله عنه قُتل في سبيل الله دفاعًا عن الحُكْم بما أنزل الله، وأنه طُلب منه الاعتذار فقال: (إنَّ إصبعًا أرفعه للشهادة لن أكتب به كلمة تضادها)!؛ فقاده تصديقه لهذه الفِرية والإشاعة (التي لا أساس لها إلا التَّعصب والدجل) إلى المطالبة بعدم نشر أخطائه الفادحة، ومنها: أَحَدِيَّةِ الوجود الصوفيَّة، والقول بخلق القرآن، وسبِّ موسى عليه السلام وعددٍ من كبار الصَّحابة المبشرين بالجنَّة، واتِّهام معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما بالكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وإسقاط خلافة عثمان رضي الله عنه، وتفسير معنى الألوهية في (لا إله إلا الله) بالاستيلاء والاستعلاء والتسلط والقوامة والربوبية والسلطان والحاكمية؛ لا العبودية، وتكفير كافة المسلمين منذ العصر العباسي، وتأويل صفات الله تعالى، ومثلها كثير، (انظر: فكر سيد قطب بين رأيين، على موقع في الانترنت باسم سعد الحصيِّن). ولا أشك في أن سيد قطب تجاوز الله عنه هو الذي دلَّ حكَّامه على الحكم بغير ما أنزل الله باغتصاب أموال الناس وأراضيهم وتمليكها غيرهم عندما كان يعمل مع حكَّامه في سنة الثورة الأولى، وكما حثَّ عليها في كتابيه (العدالة) و(المعركة) المطبوعين قبل الثورة بسنتين، وإنما قُتل باعترافه للإعداد لقتل رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، وثلاثة من كبار الموظفين، وللتخريب.
2- وأحدُ العلماء العاملين ردَّد دعاية حِزب الإخوان المسلمين المبْتَدَعِ لسيد؛ وأن كثيرًا من الناس يسيؤون فهمه لرقيِّ أسلوبه، فلم يُنكر شيئًا من سقطاته وضلالاته المهلكة؛ ولما سئل عن اتهام (سيد) اثنين من كبار الصحابة رواة الأحاديث (وقادة جيوش المسلمين في الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا): بالكذب والنفاق والخديعة والرشوة (انظر: كتب وشخصيات، لسيد قطب، ط: دار الشروق الشرعية بزعمهم/ ص: 242)، أجاب إجابة من لا تأخذه في الله لومة لائمٍ حزبيٍّ: (هذا كلامُ باطنيٍّ خبيثٍ، أو يهوديٍّ لَعينٍ، ما يتكلَّم به مسلم، ومعاوية وعمرو من فضلاء الصحابة، رضي الله لهم الدِّين، ولا يشك فيهم مسلم، وكل [هذا القول فيهم] فرية وتضليل وعنوان نفاق ممَّن قاله).
3- وأحدُ العلماء العاملين صدَّق إشاعة حِزب الإخوان المسلمين قبل ثلاثين سنة، أثناء فتنتهم في حَماة أن الدولة السورية قاومَتْ خروجهم عليها، فقتلت عشرات الآلاف، وأنها منعت النساء من لبس الحجاب. وادَّعت مجلة المجتمع الكويتية الإخوانية أن عدد القتلى عشرون ألفًا. وقال غيرها: بل هم ثلاثون ألفًا. وسمعتُ مَن تمادى في الكذب فقال: سبعين ألفًا! ثم خرج تقرير الحلف الشيطاني بين الإخوان والقوميين العرب والقوميين السوريين، وكل فرقة ضالة تنازع الأمر أهله، فذكر أن عدد المقتولين نحو ثلاثة آلاف، عدوهم بأسمائهم (لو صَدَقوا، أَوْ لَوْ أنهم لم يشتهروا بالكذب والفجور في الخصومة)، وقيل: إن حَماة مُحِيَتْ عن وجه الأرض! وقيل: بل دُمِّر أكثرها (النواعير بخاصة، كأنها من مشاعر العبادة)، وقال العالِم العامل المخدوع بالإشاعة: (قتل عدد كبير في لحظة واحدة)، وحَسَنًا فَعَل لصعوبة الجزم بعَدَدٍ بين تقرير الإخوان ومجلتهم في الكويت، وظنَّ أن الحجاب لا وجود له اليوم، ثم ظنَّ أن عدد المقتولين في حَماة عشرات الآلاف، ولا يليق بمثله إلا اليقين. وأَشهَدُ لله شهادةَ حقٍّ: أنَّ الحجاب لم يتغيَّر عما كان عليه قبل البعث شيئًا يُذكر منذ عرفتُ دمشق عام (1374هـ)، وأن عدد السلفيين في سوريا اليوم أكثر منه في أيِّ وقت عرفتها فيه (بل منذ الفاطميين بالمقارنة بين عدد علماء السُّنَّة، وعلماء البدعة وهم الأكثرون)، رغم كيد البوطي المنتمي للسُّنة. ولقد زُرتُ حَماة فور انتهاء الفتنة مع عدد من إخواني في الدين والنسب، ومرَّةً صحبتُ أحد السوريين تطوَّعَ بأن يوقفني على الدمار فلم يجد مكانًا واحدًا يصدِّق ظنَّه المبني على الإشاعات. وأشهدُ أن كتاب العقيدة للمعاهد الدينية الحكومية خيرٌ من كتاب العقيدة لمدارس الإخوان وغيرهم، وأنه لم يوجد للسلفية متنفَّسٌ منذ عصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في سوريا حتى انتهى حكم المنتمين للسُّنة؛ ومات العلامة محمد بهجت البيطار رحمه الله وهو يختفي وراء اسم مستعارٍ في ردِّه على بعض المخرِّفين المنتمين للسُّنة، ثم انكسرتْ شوكة الصوفية والمبتدعة فاستطاع العلامة المحدث الألباني رحمه الله أن يصدع بالحقِّ، وهو والبيطار خير دعاة السُّنة وأصفاهُم مُعتقدًا ـ بلفظ العلامة ابن باز رحمه الله ـ، فكان عدم التفات حِزب البعث للدِّين خيرًا من تعصُّب سابقيه للمبتدعة. وفي عهده أَوْقَفَ عبد المجيد الطرابلسيُّ وزيرُ الأوقاف الذبحَ عند وثنٍ باسم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأَلغى الصلاة على أبوي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان. ولو كنتُ مكانَ هذا العالِم العامل لما حمَّلْتُ نفسي الحُكمَ بكفر مُعيَّنٍ يُعلنُ إسلامَه على الملإ، ولم يسمع منه كلمة الكفر ولا فعله، ويصلي مع المسلمين في المناسبات، ولا يدري على أيِّ حالٍ لقي ربَّه، ولو كنتُ مكانه لما فوَّضتُ للغوغاء الحُكم بكفر الحاكم أو إيمانه، ولا الحُكمَ بأنهم قادرون أو غير قادرين على تغيير الحاكم، فضلًا عن الإتيان بخير منه. ولو كنتُ مكانَه لحمدتُ الله على السلامة من الفتنة، ولانشغلتُ باليقين من رب العالمين عن الظن والهوى من نفسي، ومن الأنفس الأمارة بالسوء. ولو كنتُ مكانه لاستعنتُ بالصبر والصلاة على مقاومة الحرص على إجابة كل سائل فيما لا علم لي به، وما يخرج عن السياسة الشرعية إلى السياسة الرخيصة.
4- وفي المثال الأول والثاني كان ولاة الأمر من الأمراء أقرب إلى الشرع والعقل من بعض العلماء، فقد كرَّر الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود (النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية حفظه الله قدوة صالحة) تصريحه لجريدة كويتية، ثم كرر بيانه في كل اجتماع (حضره للدعاة وللعاملين في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجامعات الدينية) فساد منهج حِزب الإخوان المسلمين وسوء عمله، وأنه أساس كل فتنة في بلاد العرب والمسلمين، وتمَّ طرْدُ كتب سيد قطب (شرها، ولا خير فيها) من المدارس، ولعل الله أن يَطْرد بقيتها. وفي المثال الثالث كان ولاة الأمر من الأمراء أقرب إلى الشرع والعقل من بعض العلماء، فلم أسمع أن أميرًا تكلم عن هذه الفتن بتأييدٍ أو تفنيد، وهم أولى بمعرفة الحقيقة، لو لم يكن الإمساك في الفتن عين الشرع والعقل. وكان الأولى بالعلماء (في دولة أُسِّستْ من أول يوم على منهاج النبوة في الدين والدعوة بما لم يسبق له مثيل منذ نهاية القرون الخيرة) أن يتنافسوا على حراسة هذه النعمة والمزية العظمى التي خصهم الله تعالى بها حُراسًا على الدين وعلى الدعوة إليه؛ يذودون عنها عدوان علماء الضلال، ويكافحون جهلة الصحفيين والحِزبيين والحركيين والمفكرين الموصوفين زورًا بالإسلاميين، وكل شيطان من شياطين الإنس يمتطيه شيطان من الجِنِّ ليهدم به الأُسُس والمميِّزات (التي اختص الله بها هذه البلاد والدولة المباركة منذ منتصف القرن الثاني عشر) باسم إحياء الذكريات الدينية، وحماية الآثار والتراث، وحرية المرأة، وحرية الفكر، وحرية التعبير؛ مجرَّد تقليد بَبغاويِّ لا يعقل ولا يَستنُّ بسنة الله في خلقه، وكأنَّ ابن آدم حمار غير مكلف ولا محكوم بالشرع أو النظام.
5- ولا يليق الأخذ من التاريخ والسيرة مما لا يشهد له آية مُحكمة أو حديث مسند صحيح، كما فهمهما المفسِّرون والفقهاء في القرون الأولى التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية. وخيرُ السِّير والتواريخ فيما أرى: (زاد المعاد في هدي خير العباد) للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله، ولكنه لا يُعدُّ من كتب التاريخ، وهو في الحقيقة خير كتاب أُلِّف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنِّي لأعُدُّه خير كتاب طُبع بعد كتاب الله لشموله هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر شرعي (وهو الوحي الثاني)، وقد تقربتُ إلى الله بتهذيبه لتيسير الاستفادة منه، وإخراج ما ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم (في الطب خاصة بل لبعض الوثنيين والفلاسفة أحيانًا)، وما لا ضرورة له من الاستطراد وذكر الخلافات الكثيرة فيما وسع الله فيه، وأهم من ذلك كلِّه تقديم الأهم على المهمِ، خلافًا لما تعوَّده كُتَّاب السيرة الذين يقدِّمون ما لا يختص به النبي صلى الله عليه وسلم من النسب وتاريخ الولادة والوفاة وأسماء الأقارب وحصر المتاع الدنيوي على ما اختص الله به رسوله ورفعه به الدرجات وهو الدين والدعوة إليه، بل قد لا يُعتنى بذكر هذا أبدًا؛ فبدأتُ بالدعوة إلى الله وهي خير هديه صلى الله عليه وسلم، ثم بيان التوحيد والأمر به وبيان الشرك والنهي عنه، وهما أول وأعظم ما قامت عليه دعوته ودعوة الرسل من قبله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
مكة المباركة (1432/5/27هـ).