ضرر التفاسير الجديدة أقرب من نفعها

ضرر التفاسير الجديدة أقرب من نفعها

بسم الله الرحمن الرحيم

1- حفظ الله كتابه الكريم من حيث اللفظ بالرسم العثماني، نسبة إلى عثمان بن عفان الخليفة المهدي الراشد الثالث ـ رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأجزل الثواب ـ؛ إذ جمع القرآن في عهده بأمره على حرف واحد، وأحرق بقية الصحف منعًا للاختلاف. ولا يزال المسلمون ملتزمين برسم عثمان ـ رضي الله عنه ـ مهما اختلفوا في غيره من أمور الدين والدنيا.

2- وحفظ الله كتابه الكريم من حيث المعنى بما سمِّي (التفسير بالمأثور)؛ مما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ـ رضي الله عنهم ـ وأئمة الفقه في الدين (الكتاب والسنة) من التابعين ـ رحمهم الله تعالى ـ.

3- وخير التفاسير وأشملها وأوعاها تفسير الإمام ابن جرير الطبري (ت 310) ـ رحمه الله تعالى ـ، (وهو من أئمة الفقه في القرون الخيرة التي اصطفاها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ووصف قومًا بعدهم بأنهم: (يخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون). رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري. ولقد عددتُ له نحوًا من تسعين رواية في تفسير كلمتين من سورة البقرة، وإذا لم يسبق بمثل هذا الجهد والصبر على جمع ما أثر من التفسير؛ فالأحرى ألا يلحقه يوم قلَّ العلماء والعلم والبركة.

4- وكما اتفق علماء الأمة على أن خير ما يفسر به القرآن: الآية من كتاب الله والحديث من السنة، ثم الأثر من أقوال الخلفاء الراشدين المهديين ثم بقية الصحابة ثم التابعين؛ فقد اتفقوا على أن شرّ ما يفسر به القرآن: الرَّأي.

5- والمؤمن على يقين يلقى عليه ربه أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن للأمة ما أنزل الله إليه استجابة لقضاء الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]؛ فالرأي والفكر ما لم يقيد بالتنزيل من الله تعالى والنبيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الهوى؛ فإن قيِّد بالدليل من الكتاب والسنة والفقه الأول (من أهله) فيهما فهو الفقه في الدين، وإلا كان قولًا على الله بغير علم، وأخطأ مقترفه ولو أصاب، لخروجه عن منهاج السنة.

6- ولإيماننا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن للناس ما نزل إليهم من آيات ربهم (دينًا ندين الله به)، وأنه الله قد أكمل دينه وأتمّ نعمته قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم : {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ وأن الصحابة ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] هم خير هذه الأمة وأعدلها وأنصحها لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن القرون الثلاثة الأولى خير القرون؛ لهذا كله فلم ولن يكتب تفسير لكتاب الله يقرُّه شرع الله (وعقل المؤمن) غير ما انتهت إليه القرون الخيرة.

7- زرتُ الشيخ د.بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء ـ رحمه الله ـ في مكتبه بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض أعرض عليه رأيي في إصدار الهيئة واللجنة فتوى بعدم طبع تفاسير جديدة، وعدم إعادة طبع ما طبع منها لعدم الحاجة إلى أصلها (وهو ما نقل من التفاسير الأولى اكتفاء بالأصل) وسدًّا لباب القول على الله بغير علم، بإعمال الفكر القاصر أو الضال (من ابن عربي إلى سيد قطب) تجاوز الله عمّن لم يتعمَّد الابتداع والإضلال من الخاطئين بينهما ومن بعدهم. وأشغلني ـ رحمه الله ـ وانشغل عن قضيتي بشكوى مماثلة من جرأة القاصرين في العلم والبحث والتحقيق وهجمتهم الشاملة على الحديث (الوحي الثاني) تصحيحًا وتحسينًا وتضعيفًا، فاجتمع المفسرون القاصرون مع المحدثين القاصرين على القول على الله ورسوله بغير علم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، استغلالًا لإقبال الشباب على مَلء رفوف مكتباتهم بالمجلدات المزخرفة التي لن تمسَّ إلا نادرًا! وذكَّرني الشيخ د.بكر ـ رحمه الله ـ أني ساهمت في الهجوم على التفسير بتهذيبي: (تفسير الجلالين)، بمعاونة اثنين من طلاب العلم، (والشيخ رحمه الله لا يرغب في التهذيب عامة خوفًا من تغيير منهج مؤلف الأصل أو الاعتداء علي فقهه)، وذكَّرته أن تغيير المنكر واجب، للراعي بيده، ولمن دونه بلسانه أو قلمه أو قلبه بقدر استطاعته، وفي تفسير الجلالين أخطاء أشعرية وفكرية لا تبرأ الذمة بغير إنكارها، وقد أنكر طلاب العلم أكثرها على هامش التفسير أو في رسائل مستقلة لا يستفيد منها القارئ (إذا لم تضمَّن المتن) استفادة شاملة. وقد صحبتُ تفسير الجلالين شهورًا عديدة (بعد طبعه على هامش المصحف) في محاولة للجمع بين التِّلاوة والتدبر، واخترته لوجازته وشموله (دون غيره فيما أعلم) ورأيت من حق الله وكتابه ومن حق المحلي والسيوطي تنقيته من الفكر المبتدع، والإضافة النادرة مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

8- والتهذيب غير التأليف، فالمهذِّب يختار المهذَّب لتميزه فيأخذ خير ما فيه ويترك أدناه، وخير ما فعل المهذِّبون للصالح من التفاسير تنقيتها من الإسرائيليَّات التي تساهل المفسرون منذ القرن الأول في روايتها (لا مصدقين ولا مكذبين)، والأولى ألا يخلط اليقين المحض بالظنِّ المحتمل بعد ثبوت التحريف والتبديل. ولم يردعني بغضُ الشيخ د.بكر ـ رحمه الله ـ التهذيب (مطلقًا) فاخترت تفسير ابن كثير ـ رحمه الله ـ، وهو فيما أرى تهذِّيب لتفسير ابن جرير ـ رحمه الله ـ فقد وفقه الله للثبات على الفقه في الدين، وتفسير القرآن بالقرآن والحديث والأثر، ويذكر أسماء الرواة ويتحاشى التزام ابن جرير ـ رحمه الله ـ بإسناد الروايات بطولها وتعددها. وكان أحد علماء قَطَر الشيخ وليد بن هادي (ممن جمع بين العلم والخلق الكريم) رأى لي (حُسن ظنٍّ في غير أهله) وضع تفسير جديد، فبيَّنت له عدم أهليتي لمثل هذا العمل العظيم، ولو فعلت لما أتيت بجديد، فالدين وأعظمه (التَّوقيع عن ربِّ العالمين في لفظ ابن القيم ـ رحمه الله ـ) أو الحكم على مراد الله من كلامه؛ لا يجوز أن يتجرأ عليه علماء اليوم فضلًا عمن كان مثلي مبلغه من العلم شهادة جامعية أو عالية في الشريعة، وأدنى منه من كان مبلغه من العلم القصص الوعظي، أو مجرد العاطفة الدينية، والثقافة الإسلامية بزعمهم. والدّين ـ على أي حال ـ يصدق عليه وصف (الرجعي) أكثر من (التقدمي والعصري)، أو ما يسميه المنحرفون (الإسلام اليوم)، وما لم يكن دينًا في القرن الأول فلن يكون دينًا أبدًا، سواءٌ نصُّه أو فهمُه. ولكني فرحًا بحسن ظنِّ الشيخ الكريم، واغتنامًا لفضل الله به، وفضله عليه؛ خصَّصْتُ الوقت بين صلاة المغرب وصلاة العشاء في المسجد المجاور لمنزلي لتهذيب تفسير ابن كثير، وكنت أثناء التهذيب أنظر في تفسير ابن جرير لتتبع موافقات ابن كثير الكثيرة له (ومخالفاته القليلة له)، فأجد في تفسير ابن جرير ما لا أجده في غيره، وما يغنيني ويغني غيري عن أي تفسير قديم أو جديد ـ رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته ـ.

وحينما أنهيت تهذيب تفسير ابن كثير شرعت في تهذيب تفسير ابن جرير، وإن عشت حتى أتولَّى طباعته في مجلد واحد، أو مِتُّ أثناء المحاولة فلعل الله أن يتقبل العمل ويعين على إتمامه، وينفع به ويجعله خالصًا لوجهه ويتجاوز عن النقص والتقصير، ولا أحب لإخواني المؤمنين غير ما أحب لنفسي من الثبات على النهج الأوَّل: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ.

 (1432هـ/ مكة).