حقيقة المحبة الشرعية

حقيقة المحبة الشرعية

بسم الله الرحمن الرحيم

حقيقة العبودية وحقيقة المحبة الشرعية: الالتزام بما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرا} [الأحزاب: 21]، ولا سبيل للمسلم إلى تحقيق حبه لله، وتحصيل حب الله ومغفرته له إلا اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].

ومن خالف منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله ورضيه له ولأمته إلى يوم القيامة ـ كما فقهه وعمل به المؤمنون في القرون المفضلة ـ فلن يقبل الله منه، مهما بذل من جهد وما ادعى من حب لله ولرسوله ولدينه، بل ومهما بلغت رغبته في الخير والهدى من مبلغ؛ قال الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115]، وقال الله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُون} [الأعراف: 30].

وقد غلت أمم غابرة وحاضرة في إظهار محبة الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من يُعتقد فيهم الصلاح، وتجاوزت حدود شرع الله لعباده؛ فاستحقت غضب الله ولعنته وعقابه، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30-31].

وقبل اليهود والنصارى غلا البوذيون في (بوذا)، وغلا الهندوس من قبلهم في (براهما) فعبدوهما، بل زاد النصارى غلواً في عيسى فجعلوه تجسيداً لذات الإله وثالث ثلاثة، وبالتالي قالوا عن مريم عليها السلام: والدة الله، وعن الله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:43]؛ فقالوا: الأب.

وقد حذّر الله أمة الإسلام في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من اتباع سبيل الكافرين والغلو في الدين، قال الله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل} [المائدة: 77]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» [رواه البخاري]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» [متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإنه أهلك من كان قبلكم» [رواه أحمد].

وصدق الله عز وجل، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، لقد تبع أكثر خلف المسلمين ـ بعد القرون المفضلة ـ سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى والمشركين في أسوأ أقوالهم وأعمالهم، بقيادة الفاطميين أولاً، والعثمانيين أخيراً، وبتسويل التصوف ووسوسته أولاً وأخيراً.

ووجد أكثر من لم يمشِ في ركاب الضلال من المسلمين أن لا قِبل لهم بمقاومته؛ فقال لسان حالهم: لكم دينكم ولي دين.

وبما أنه لا يكون إسراف إلا ويكون معه حق مضيع؛ فقد صاحب الغلو في ادعاء المحبة تضييع لرجاء الله وخوفه، ولا يزال كثير من الدعاة والخطباء ـ فضلاً عن العوام ـ بعد اثني عشر قرناً ونصف قرن من موت (رابعة العدوية) يتبعون ما إليها من خرافة: (اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأدخلني فيها) وكل ما يميز (رابعة) في أخبار السير ـ لو جاز الاعتماد على التاريخ في أحكام الدين ـ أنها ثابتة عابدة، ولم يدَّع أحدٌ أنها من أولي الأمر والعلم الذين تؤخذ منهم الفتوى في الشريعة مما يحملون من نصوص الوحي والفقه في الدين.

ولا تصدق دعوى المحبة الشرعية دون موازنة بين الرجاء والخوف؛ قال الله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الأعراف: 56]، و«الدعاء هو العبادة».

وقال الله تعالى عن أنبيائه وملائكته وصالحي عباده الذين يتقرب الناس بدعائهم منذ انحرف قوم نوح عليه السلام عن صراط الله المستقيم إلى قيام الساعة: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57]، ولا يتم الإيمان دون الجمع بين المحبة والرجاء والخوف.

وقال المنتسبون للإسلام والسنة في دعائهم النبي صلى الله عليه وسلم ـ غلواً في حبه ومخالفة لهديه: ـ (يا أول خلق الله، ويا أول الأولين وآخر الآخرين).. أما هو فقد قال ـ من وحي الله له ـ: «أول ما خلق الله القلم» [رواه أبو داوود، والترمذي، والبيهقي].

واختار للصلاة عليه الصلاة النارية، وفيها وصفه بما لا يوصف به إلا الله: (الذي تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب، وتنال به الرغائب، وتقضى به الحوائج)، واختار صلى الله عليه وسلم لخير أمته ومن بعدهم ـ من وحي الله له ـ: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» [متفق عليه].

و قال شاعر المدائح المبتدعة مخالفاً أمر الله ورسوله:

وإن من جودك الدنيا وضرتها      ومن علومك علم اللوح والقلم

لو ناسبت قدره آياته عظماً         أحيى اسمه حين يُدعى دار الرمم

وكذّبوا قول الله وقول رسوله أنه بشر وأنه خُلق من طين وصلب آدم، قال أبو الهدى الصيادي ـ الذي جعلته الخلافة العثمانية غير الراشدة وغير المهدية المرجع الديني الأول والأخير في عهد السلطان عبد الحميد ـ: (قبض العزيز جل جلاله من نور وجهه قبضة فخلق منها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم) [قلادة الجواهر].

وقال الرواس الحموي في كتاب (بوارق الحقائق) ص193:

وهو نور أزلي طرزه      صار في وجه وجود الكون شامة

طُوي العالم في جبّته        وعلى العرش علت منه العمامة

وقال عوامهم في الموالد ما يشبه الذم مما لا يليق بمقام النبوة: خده أحمر مورد، ريقه سكر مكرر، بطنه طي الحرير، حين يشتد الزفير.

وجاء المفكرون والكتّاب الموصوفون بالإسلاميين الذين استباحوا حمى العلوم الشرعية ـ وبخاصة التفسير والسيرة ـ وهم من غير أهلها؛ فقال بعضهم: (إن الله أعطى محمداً صفتين من صفاته: رؤوف رحيم).

وما وعوا أنهم أخطأوا إن قصدوا الاشتراك في اللفظ؛ فقد قال الله عن الإنسان شاكراً أو كفوراً: {سميعاً بصيراً}، وارتكبوا شركاً لفظياً إن قصدوا الاشتراك في المعنى المطلق، فلا شريك لله في صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].

وقال بعضهم: إن محمداً خير من موسى عليهما الصلاة والسلام، فقد قال الله عن موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، وقال لمحمد: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وأخطأوا لغة وشرعاً؛ فقد قال الله عمن هو دون محمد صلى الله عليه وسلم: {رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119]، وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21].

وعصوا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته عن المفاضلة بينه وبين نبي معين: «لا تخيروني على موسى ـ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش؛ فلا أدري كان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى ـ وفي رواية: أو كان فيمن استثنى الله ـ» [متفق عليه].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من مثل ما اقترفه هؤلاء العصاة: «هلك المتنطعون» ثلاثاً. [رواه مسلم].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون» [رواه الترمذي].

والإسلام والمسلمون في غنى عن الشطحات الصوفية الضالة والمقابلات اللغوية والفكرية المتنطعة، بوحي الله في كتابه وسنة نبيه المعصومة، قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «أنا سيد الناس يوم القيامة» [متفق عليه]، وفي رواية ابن حبان: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة» [متفق عليه].

ومن لم يكفه ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله فما استسلم لأمر الله وشرعه، ولا صدق في ادعائه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا وجد حلاوة الإيمان، ولن تجد له ولياً مرشداً «فمن رغب عن سنتي فليس مني» [متفق عليه].

وصلى الله على محمد وآل محمد.