لزوم ما لا يلزم في التّعليم
لزوم ما لا يلزم في التّعليم
بسم الله الرحمن الرحيم
بين حين وآخر يُلوّح بعض المسؤولين عن التعليم برأيهم أو عزمهم على فرض تعليم اللغة الإنكليزية (لِطُلَّاب الصّفوف الثلاثة الأخيرة من المرحلة الابتدائية إضافة إلى طلاّب المرحلتين المتوسّطة والثانويّة)، وعلى توفير الحاسب الآلي للطلاب (وبخاصة للمرحلتين الأخيرتين من مراحل التّعليم العام).
وخلال ربع قرن من عملي في التعليم وصلتُ إلى قناعة تامّة بما يلي:
أ) دراسة اللغة الانكليزية ـ وكل لغة أعجميّة ـ في البلاد العربية (في مراحل التعليم العام أو قبلها أو بعدها) لا تصل بالطّالب لأي نتيجة حقيقيّة أو وهميّة يهدف إليها القائمون على التعليم، عدا الاستغناء بالشكل عن المضمون والتّظاهر بالتّطوير؛ للأسباب التالية:
1- اللّغة مهارة لفظيَّة عمليَّة تقوم على التّدريب العملي في بيئة حقيقيّة، ولا تصلح ـ لو صلح غيرها من المهارات العمليّة ـ للافتعال المعزول في الخبرة المدرسيّة النظريّة.
2- إكتشفتُ أثناء عملي مديرًا للبعثات الخارجيّة ثم الإدارة العامَّة للثقافة، ثم عندما جرّبت الدّراسة في الخارج باللغة الانكليزية؛ أن الطالب الذي درس اللغة الانكليزية في المرحلتين المتوسّطة والثانوية بنجاح يستوي هو والطالب الذي لم يعرف من هذه اللغة غير كتيّب (كيف تتكلم الانكليزيّة في أربعة أيام بلا معلم) في حاجة كلٍّ منهما إلى تعلّم الإنكليزية سنة دراسيّة كاملة على الأقل للالتحاق بالجامعات في انكلترا وأمريكا ونحوهما.
ولقد كنت ـ نفسي ـ من الصنف الثاني، ولم أشهد حالة واحدة تخالف هذه القاعدة أثناء دراستي أو أثناء عملي ـ تسع سنوات ـ مشرفًا على الدّراسين في الخارج.
3- أثناء عملي مديرًا عامًّا للتعليم الثانوي ـ بضع سنوات أخرى ـ ووقوفي على المعدّل الحقيقي للرّسوب والتّسرّب (في لغة المؤسسات التعليميّة) تبيَّن لي أن أهمّ سببٍ لترك الطّلاب الدراسة: فشلهم في اجتياز امتحان اللغة الانكليزية (ومادّتي الرياضيات والعلوم).
وإذا فشل الطّالب سنتين أو توقّع الفشل ترك الدراسة إذ لا يوجد له طريق آخر لتحصيل المعرفة في المدارس الأخرى؛ دينيّة أو عامّة أو مهنيَّة؛ فكلّها مبتلاة بالتزام وفَرْض النجاح في هذه الموادّ تقليدًا للدّول الصّناعيّة الأعجمية.
4- عندما حصلتُ على موافقة ولاة الأمر ـ حفظهم الله قدوة صالحة ـ على تجربة نظريّتي للدراسة الثانويّة في أربع مدارس سُمِّيت بالمدارس الشاملة؛ كان من أهم ما تميَّزَتْ به: حصر الإلزام والالتزام بمادّتي الدين واللغة العربية؛ ـ فهما وحدهما ما ألزم الله به الطالب العربي شرعًا أو قَدَرًا ـ وتخييره فيما عدى ذلك من المواد الدّراسيّة.
وكانت النتيجة: أن عاد إلى مقاعد الدّراسة من اضطرّ إلى تركها بسبب عجزه عن اجتياز الامتحان في مادّة ثانويّة لم يفرضها الله عليه بِشَرْعِه ولم يهيّئه لها بِقَدَرِه. ومن جانب آخر: اختار 80% تقريبًا من الطلاب دراسة اللغة الإنكليزية، أمَّا 20% تقريبًا من الطلاب ممن يعجزون عن دراستها أو لا يرغبونها أو لا يحتاجون إليها فقد سَلِمُوا من ظُلْم وطُغْيان وحُمْق القاعدة الفاسدة: لزوم ما لا يلزم.
5- ولو أُلزم الأطفال في الصّفوف الثلاثة الأخيرة من المرحلة الابتدائية أو في صفٍّ من صفوف المرحلة أو جميع صفوفها دراسة اللّغة الانكليزيّة لزاد الهدر في الإنفاق المالي والجهد والوقت، ولزادت نِسَب الرسوب والتّسرّب وهي لا تحتمل المزيد، وَلَقُطِع طريق العلم في وجه عدد أكبر من الطّلاب ونحن نردّد كالببغاء بلا وَعْيٍ ولا صِدْقٍ: (العلم من المهد إلى اللحد).
ب) وإدخال الحاسب الآلي صفوف الدّراسة على أيّ وجه؛ إنَّما مَثَله مَثَل تدريس اللغة الأعجمية (بل هو أسوأ): مجرد تقليد مُسْرف لا يسنده الشرع ولا العقل، والمستفيد الأوَّل من ذلك الشركات الأعجميَّة المنتجة وعملاؤها المحليّون على حساب الأمة والتعليم.
وإذا كان الحاسب الآلي مُهِمٌّ في هذا العصر لبعض الأفراد وبعض الوظائف والمهن؛ فإن من يحتاج إليه ويهتمُّ به يستطيع التّدرّب عليه بضعة أسابيع أو بضعة أشهر قبل (أو أثناء) مباشرة العمل في الوظيفة التي تتطلّبه، والتّدريب أثناء العمل أعقل وأوفر وأنجع أنواع التّدريب لإحاطة المدرّب والمتدرّب بحدود الحاجة والمهارة المطلوب التّدرّب عليها.
والله الموفق.