أُشيقر تضرب مثلاً
أُشيقر تضرب مثلاً
بسم الله الرحمن الرحيم
كتبتُ أكثر من مرة عن أفرادٍ من مواطني هذه البلاد وهذه الدولة المباركة أهّلهم الله ليكونوا قدوة صالحة لبقية المواطنين في أمر من أمور الدين أو أمور الدنيا، بل كتبتُ عن بلاد غربية وعربية، رأيت فيها من العمل الصالح للدنيا ما يُقتدى به في بلاد الدين.
وشجّعني عدد من أبناء شقراء (الأم والشقيقة الكبرى) على اختياري (اليوم) مدينة (أشيقر) قدوة صالحة في بلاد صالحة (ينعم الله عليها ديناً ودنيا):
1) دعاني أحدهم لزيارة مشروع جديدة ابتكره (وموّلـه ونفّذه ويقوم على صيانته والمحافظة عليه وتطويره أبناء مدينة أشيقر: منتزله الجبل) أو: (المطل)، وهو يقوم على مرتفع من الأرض لا تخطئه عين المتجه إلى أشيقر لبروزه، وخضرة الأشجار والنباتات المحيطة به، ونظافته، وجمال موقعه والطريق المؤدية إليه، ويضم عشرات المظلات البيضاء الجميلة من الألياف الزجاجية، وتتكون كل وحدة من مظلتين تسترهما أشجار الزينة ليسهل عزل الرجال عن النساء في الجماعة الواحدة وعزل الوحد عن بقية الوحدات واستيعاب الجماة الكبير، ولك وحدة خزان ماء مُحكم الغطاء، ووعاء للقمامة، ويضم المشروع مسجداً ودورات للمياه، كما يضم قاعة كبيرة للاجتماعات متعددة الأغراض.
وأهم ما يميزه عن المتنزهات السياحية في أكثر مناطق المملكة المباركة أن (أشيقر) لم تُلق مسؤولية اقتراحه وتنفيذه على الإدارة الحكومية كما هي العادة، بل كان استجابةً لتشجيع ولاة الأمر المواطنين على التعاون والمساهمة في المحافظة على تميز السعودية في القرون الثلاثة الأخيرة بالدين، ثم بالدنيا (مع الدين) في القرن الأخير، ويفوق هذه الميزة عندي: حِرصُ (أشيقر) على صيانة هذه المنشأة الجميلة واستمرار رعايتها من أموال المواطنين وبإدارتهم حتى لا تضيع بين إفساد المستفيدين وتضييع الروتين الإداري، كما رأيته في كثير من المنشآت الحكومية (للضرورة أو الترفيه).
2) ودعاني آخر لزيارة قرية (أشيقر) الطينية القديمة، حيث تميّز أبناؤها بمحاولة جادة ومستمرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بويتها ومساجدها ليتبيّن الأولاد والأحفاد الفرق بين ما هم فيه من رغد العيش وما كان عليه أسلافهم من شظف (بالمشاهدة المباشرة لا من الكتب ولا من المتاحف)، وحتى لا تنقطع الصلة الحيّة بالماضي استمر استعمال المسجد الطيني القديم للصلاة مع أن مباني القرية القديمة لا يسكنها أحد، ورغم وجود مسجد حديث (أو مستحدث) بالقرب منه.
إضافة إلى ذلك بنتْ (أشيقر) متحفاً للأدوات والآلات والأواني القديمة التي انقطع استعمالها بل انقطع استعمال أسمائها (على طرف القرية القديمة)، ورأى الأولاد والأحفاد ما لا يعرفون اسمه ولا رسمه ولا فائدته مثل: (الحصّة) وهي مخزن التمر، وكانت أهم مصادر الغذاء قروناً عديدة، وربما جسّم الفرق بين ملئها وفراغها الفرق بين الحياة والموت، ومثل: (القفّان) وهو ميزان الأشياء الثقيلة (الأطعمة بخاصة)، ومثل: (المحماس) وهي التي يُحمَس (أو يحمّص) فيها حب البن، ومع حداثة اسمها ورسمها واستعمالها فقد استعصى فهمها على جيلين جديدين من السعوديّين، ولا يزال القائمون على المتحف من الأهالي يجمعون المعروضات في مخزن المتحف حتى يبدأ تنظيم عرضها.
3) وصلّينا في جامع أشيقر الجديد، وهو مشروع ضخم آخر بُني على نفقة الأهالي كبقية المشروعات الجديدة (والقديمة) لا نقص فيه إلا ما زيد فيه عن الحاجة (مثل المئذنة الثانية) والزيادة عن الحاجة في أمور الدين والدنيا إسراف، وقال الله تعالى عن نفسه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وكثير من عمّار المساجد يقع في مثل ذلك اليوم: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] وصلاح النية لا يغني عن صلاح العمل باتباع السنة (لا الهوى ولا التقليد)، ويقال مثل ذلك عن مسجد العيد (مشروع أهلي آخر في أشيقر) لم تكن في حاجة إلى تسويره ولا إضاءته ولا محرابه.
4) وجمعية أشيقر الخيرية مشروع أهلي آخر، يقوم بجمع الإعانات وتوزيعها على المستحقين فيما يتعلق بالضرورات الثلاث: الطعام والكساء والمسكن، وأضاف إليها القائمون عليها: الإعانة على نفقات الزواج، وجمعُ بضعة آلاف من المخطوطات الخاصة بأشيقر (وبخاصة العقود والأوقاف والوصايا)، وأشهر وصايا أشيقر (وربما جزيرة العرب كلها) بعد القرون المفضلة (وصية صبيح) ويقول التاريخ: (إن صبيحاً بعد أن أعتقه مالكه: عُقبة بن راجح، ملك عقاراً في أشيقر، فوقف جزءاً منه على أبناء زوجة مالكه الحسنة الخُلُق ويسمّيها (الحبيبة)، ولم يُوص لأخيهما لأبيهما من زوجته السيئة الخُلُق ويسميها (النزرة)، وتُعدّ الوصية تحفة أثرية فريدة يوجد نصّها ودراسة عنها في مجلة العرب ـ جمادى الأولى عام 1387 ص51-59 ، وقد كُتبت عام 747 من الهجرة، وصيغت بدقة وعناية أشيقرية.
وتقوم الجمعية أيضاً على تحفيظ القرآن للبنين في الجامع الكبير وللبنات في مبنى الجمعية، وأرجو الله ألاّ يطغى حفظ القرآن (النافلة) والتجويد (مثله) على تدبّر القرآن والعمل به (وهو فريضة أُنزل الكتاب من أجله) قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، أما الانشغال بالحفظ والتجويد عن التدبّر والعمل؛ فمن مكايد الشيطان ومصايده، ومن (النسك الأعجمي) الذي يُغلِّب العدد والشكل والابتداع، وقد جلب جمعيات تحفيظ القرآن إلى بلاد التوحيد والسنة باكستاني لا أشك في حسن نيته ولا يُعرف شيء عن اعتقاده وقدوته، ولا يليق بالمملكة المباركة إلا الاهتمام أولاً بالتوحيد ثم بُحسن التلاوة حسب قواعد اللغة العربية، ثم بالتدبر والعمل، ثم بالحفظ وما صح من التجويد بالسند المتصل، وهذا ما كان عليه فقهاء الأمة في عصر النبوة والصحبة: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً)، (ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم معانيهنّ والعمل بهن)، وكان هو أكبر همّ علماء الدعوة التجديدية، فلما وصلنا التنظيم العصري للتعليم أحدثت وزارة المعارف (مدارس تحفيظ القرآن)، وكان الحفظ والتجويد جزءاً من اهتمامها، أما أكثر اهتمامها فكان مصروفاً للعلوم الشرعية: التوحيد والفقه والتفسير والحديث واللغة العربية والسيرة توفيقاً من الله للتي هي أقوم.
5) ويختص بعض تجار (أشيقر) بعلم من أعمال الخير، وأبرزها ما قام به (أبا حسين) من إيصال الماء إلى جميع أحياء مدينة أشيقر ومساجدها، ولا أعرف له سلفاً غير (الجميح) في شقراء (وابن سليمان) في عنيزة (منذ عشرات السنين)، وقد لا يكون له خلف في هذا العمل العظيم (قبل وجود الإدارات البلدية).
6) وأهل أشيقر متميّزون بميزة خُلُقية كريمة يندر وجودها بين أهالي القرى: التعاون على الخير والتكاتف والتعاضد كأنما هم عائلة واحدة، ويظهر هذا في استقلالهم بسوق خاص بهم يُسمى باسم في الرياض لم يستطع منافستهم فيه حتى الوافدون من حضرموت، مع سمعتهم المتميزة في التعاون بينهم والتعامل التجاري والرضا بالربح القليل، وهي ميزة طيبة شرعاً وعقلاً وعاقبة، ويؤيد زميلي الكريم (رئيس شركة الكهرباء شقراء السابق) انطباعي بأن أهل أشيقر تجمعهم رابطة عائلية أكبر من الرابطة القبلية أو الجغرافية بقولـه: (إن الأشيقري القادم من السفر لا ينتظر دعوةً لزيارة مواطنيه، بل يسأل: من الجماعة اليوم عنده؟ ثم يذهب إليهم دون دعوة) ولا تخلو أشيقر يومياً من (دوريّة) تجمع أهل كل اتجاه في الحياة بأمثالهم، بل يوجد بيت أو أكثر مفتوح صباح كل يومن من أيام العام ينتظر الراغبين في الزيارة والقِرَى من كل اتجاه.
7) ولأشيقر ماضٍ زاهر في أعظم أمر: العلم الشرعي، في زمن كان النادر من النسا من يعرف القراءة والكتابة، ولم تكن أدوات الكتابة والقراءة سهلة المنال، ولكنّ همة أهل أشيقر ونشاطهم ومثابرتهم تتخطى العقبات، حتى رُوي أن أحد طلاب العلم كان يكتب العلم في الليل على ضوء سعف من النخيل تتعاقب ابنتاه على إيقاده.
وتدل وثائق الأوقاف والوصايا المعروفة اليوم على اهتمام الأشيقريين بالمساهمة في حفظ العلم ونشره (وفي وجوه الخير الأخرى) ومن كثرة ما أُوقف من النخيل والعقار على العلم وطلابه، على المدرسة وعلى المسجد، ووقف الكتب والمصاحف والأوقاف والوصايا على الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا.
يقول الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمه الله في (تاريخ بعض الحوادث في نجد): (وكان مركز العلماء في نجد تلك الأيام [قبل القرن الثاني عشر] في أشيقر وسدير والعارض)، ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام في مؤلفه (علماء نجد خلال ستة قرون 1/14-15): (فهذه المدينة [أشيقر] زخرت بالفقهاء حتى كان يجتمع في الوقت الوحد منهم أربعون عالماً كلهم يصلحون للقضاء)، ويقول الأستاذ حمد الجاسر: (في القرن العاشر كانت مدينة أشيقر من أبرز مدن نجد و أشهرها من حيث كثرة العلماء الذين تولّوا مناصب القضاء في مختلف أقاليم نجد) (العلماء والكتّاب في أشيقر لابن بسّام البسيمي ص19).
وبعدُ: فإن أشيقر مدينة صغيرة في وسط صحراء جزيرة العرب على مسافة مائتي كيل شمال غرب الرياض، كانت ـ مثل بقية الجزيرة مُرُوجاً وأنهاراً ـ كما يُفهم من الحديث الصحيح ـ وستعود يوماً كذلك، أما اليوم فأهم ما تملكه أشيقر: أهلها (بصالح أعمالهم وبنشاطهم للخير).
يقول أحد كبار علماء أشيقر الشيخ أحمد القصيّر (ت1124) في خاتمة رسالة علمية منه لعلماء مكة المباركة: (ومَنْ أشكل عليه وطننا فإننا في القرية المسمّاة بأشيقرة يمنة الرّستاق المعروف بالوشم) (علماء نجد خلال ستة قرون لابن بسام 1-167). فهي قرية قد يجهل موقعها كثير من الناس، ولكنها من أمهات القرى في جزيرة العرب المباركة يعرفها العلماء والمؤرّخون والباحثون بعلم رجالها وعملهم وهجراتهم القريبة والبعيدة ضرباً في الأرض وابتغاءً من فضل الله بالدين والدنيا؛ ولذلك اصطفاها الله قدوةً صالحة، زادها الله من فضله واختصها برحمته فإنه {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} [البقرة: 105].
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومتبعي هداه إلى يوم الدين.
الرياض – 1425هـ.