غازي القصيبي يبتغي إلى ربّه الوسيلة بالإيمان
غازي القصيبي يبتغي إلى ربّه الوسيلة بالإيمان
بسم الله الرّحمن الرحيم
يا عالم الغيب ذنبي أنت تعرفـــــــــه *** وأنت تعلم إعلاني وإسراري
وأنت أدرى بإيمانٍ مَنَنْتَ بــــــــــــــــه *** عليّ، ما خدَشَتْه كلُّ أوزاري
أحببْتُ لقياك، حُسْنُ الظّنّ يشفع لي *** أَيُرْتَجى العفو إلاّ عند غــفار؟
هذه أبيات ناجى بها غازي ربّه بعد بلوغه الخامسة والسّتّين من عمره رحمه الله وبدّل سيّئاته حسنات، وأحسن إليه كما أحسن إلى بلده وولاة الأمر فيها وأهلها.
وعن هذه البلاد والدّولة المباركة التي جدّد الله بها دينه ثلاث مرّات قال:
ويا بلاداً نَذَرْتُ العمْرَ؛ زهرَتَــــــه *** لِعِزِّها، دُمْتِ، إنّي حانَ إيجـــــاري
تركتُ بين رمال البيد أغنيتـــــــي *** وعند شاطئك المسحور أسراري
إن ساءلوكِ فَقُولي: لَمْ أبِعْ قلمي *** ولم أُدَنِّسْ بسوق الزّيف أفكـاري
قُلْتُ: صدقْتَ، ليتها فَدَتْكَ الألوف المؤلّفة التي نذَرَتْ حياتها للضّحالة والضّياع، وخيانة الأمّة.. أئمتها وولاة أمرها وعامّتها، السّمّاعون لكذب الخوارج المهاجرين إلى بلاد الكفر من خير بلاد المسلمين والمقيمين فيها يأكلون خيرها ويحمدون غيرها، ويشيعون قالة السّوء، لئلا يُشْكَر الله ولا خلقه بما تفضّل عليهم بهم.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربّه: «لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمّ أتيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة».
وصدق غازي رحمه الله: لم يَبِعْ قلمه بمال ولا بمنصب ولا بجاه ولا متاع؛ فلا أعرف له ندّاً في تعريض نفسه لمفارقة خير منجزاته الاداريّة في الوظيفة الحكوميّة يوم نشر قصيدته النّادرة: (رسالة المتنبّي الأخيرة إلى سيف الدّولة)، وأشهد لله شهادة حقّ أنّ من قال القصيدة ومن قيلت فيه خير من المتنبّي ومن سيف الدّولة ديناً ودنيا.
ولا أعرف لغازي القصيبي ندّاً في وقفته الشجاعة الثابتة شاهراً قلمه في وجه الاعتداء السّافر والظّلم والجور والفجور سواء سُمِّيَ بعثيّاً أو قوميّاً أو علمانيّاً أو إسلاميّاً على دولة الكويت. ولكن (من يُقْنِع الثّور أنّك عنتر؟) عندما قال غازي رحمه الله:
أُغالِبُ الآلام مهما طَغَـــــــــتْ *** بحسبي الله ونعم الوكــيـل
فحسبي الله قُبَيْلَ الشــــروق *** وحسبي الله بُعَيْدَ الأصيــــل
وحسبي الله إذا أسْبَلـــــــــتْ *** دموْعَهَا عيْنُ الفقير العليـــل
ياربُّ أنت المرتجى سـيّــدي *** أنِرْ لخَطْواتي سواء السّبيــــل
قضيت عُمْري تائهاً، ها أنــــا *** أعود إذ لم يبق إلاّ القليـــــــل
الله يدري أنّني مــــــــــؤمنٌ *** في عمق قلبي رهبة للجليل
أنا الشريد اليوم ياسيّــــــدي *** فاغْفِرْ أياربّ لعبد ذليــــــــــــل
قال الجاهل (وتبعه بعض طلاّب العلم): يتوب ويطلب المغفرة؟ هذا دليل على صحّة اتّهامه بالعلمانيّة وما دونها. قُلْتُ: فكيف به لو استغفر ربّه في اليوم سبعين مرّة وتاب إلى الله مائة مرّة، كما صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم.
وأعرفه وقد كان برّاً بِمَكْتَبَي الدّعوة في بَلَدَيْ سفارته: البحرين وإنكلترا بما يتجاوز طلبهما أو حاجتهما، وأكثر مما أطلبه لنفسي أو أعطيه غيري لو كنت مكانه.
وزرته أثناء عمله في البحرين مع أخي د. سعد السّعيد مدير مكتب الدّعوة في البحرين سابقاً، فوجدته كدّس نسخاً من تفسير محمد أسد رحمه الله باللغة الإنكليزيّة لإهدائها الزّوّار غير العرب، وعنْدما احْتَلَّ حزب البعث العراقي وطاغوته صدّام حسين الكويت واستأجَرَت المملكة المباركة القوات الدّوليّة للإعانة على تحرير الكويت طلبْتُ منه ما تيسّر له من كتاب محمد أسد (الطريق إلى مكّة) لاهدائها وعرضها في مكاتب قادة القوّات فأرسل لي عشرات النّسخ ثمّ عزّزها بعشرات على حسابه عوّضه الله الجنّة، وأعانني الفريق مربّع الشهراني جزاه الله خير الجزاء على وضعها في المكان المناسب للاستفادة منها.
وعنما عُيِّن وزيراً للصِّحَّة أعطى كلّ مريضٍ مصحفاً ووضع لافتاتٍ يراها المرضى في كلّ مكان من المستشفيات تحمل قول الله تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين} وأدخل القرآن في علاج الأمراض النّفسيّة. وعندما لجّ الخوارج في اتّهامه ظلماً وعُتُوّاً بالعلمانيَّة غضباً لسخريّته من أشرطتهم المخذِّلة عن مقاومة العدوان البعثي الصّدّامي والمهيّجة للأحداث سفهاء الأحلام على دولة التّوحيد والسّنّة (أمرائها وعلمائها) في زمن الحرب (حرب الإلحاد والوثنيّة القبوريّة للحقّ والعدل)؛ كتب كتابه: (حتى لا تكون فتنة)، وأُسْقِطَ في أيدي الخوارج المتعالمين، إذ قابل تشنّجهم بأسلوب لم يَخْلُ من المرح، وقابل فِكْرَهم بنصوص الكتاب والسّنّة وفقه عمر رضي الله عنه وأبي حنيفة والشافعي وابن تيمية وابن القيّم، وليته اكتفى بها عما قال المحمصاني وفوقه محمد رشيد رضا، رحمهم الله جميعاً، وتأدّب بما أدّبه به ربّه فخاطبهم كما لو كانوا علماء لا متعالمين، مع أنّ الكتاب يبيّن أنّه أقرب منهم إلى الفقه فضلاً عن مصطلح العلمانيّة. وبدأ بخيرهم وأقربهم إلى العلم الشرعي (بعد محاورته الألباني وقبل تحوّله للفكر) ففنّد أدلّته على علمانيّة القصيبي من أقواله في جريدة الشّرق الأوسط، مثل قوله: (لا جدال حول الشريعة؛ لا تحليل لما حَرَّمَتْ ولا تحريم لما حلَّلَتْ، وما عدى ذلك من أمور يظّلّ قضيّة مفتوحة للنّقاش).
وقال متّهمه بالعلمانيّة: (بعض السّذّج يقول: صحيح، أيّ أمر يتعلّق بالشّريعة غير قابل.. في الكتاب والسّنّة خلاص، أمّا غيره فهو قابل للنّظر كما يقول كبيرهم الذي علّمهم السّحر..لأنّهم يريدون أن يأتوا في النّهاية بقضايا ما وردت في الكتاب والسّنّة).
وردّ القصيبي بأنّه لا يجوز له الحكم على ما في الصّدور، وأنّ ما لم يوجد في الكتاب يبحث عنه في السّنّة، ثمّ الإجماع، ثم القياس، ثمّ الاستحسان، أو المصلحة المرسلة أو العرف أو الإستصحاب أو شرع من قبلنا أو مذهب الصّحابيّ أو الإجتهاد مِنَ القادر عليه..وكلّ ذلك مستقى من الكتاب والسّنّة).
قال متّهمه بالعلمانيّة: (ومن أساليبهم ومبادئهم ما يسمّى بالحوار، وهو خطير خطير خطير).
وردّ القصيبي: (أنت تؤمن بالمجادلة بالتي هي أحسن؟ إذاً يا أخي لا تحاوِرْنا، جادلنا بالتي هي أحسن، وهل اتّهام المسلم بالعلمانيّة[وهي الكفر] من المجادلة بالتي هي أحسن؟ فكيف تكون المجادلة بالتي هي أسوأ؟ بالقتل؟
ومن أدلّة متّهمه على علمانيته قوله: (حُسِمَتْ قضيّة التّلفزيون ولكنّ قضيّة البرامج الملائمة للعرض تبقى مفتوحة، وحُسِمَتْ قضيّة تعليم المرأة وعملها ولكن قضيّة المناهج والوظائف الملائمة للمرأة بقيت مفتوحة).
وردّ القصيبي بأنّك أنت ملأْتَ شريطك نفسه (السّكينة السّكينة) بالشكوى من برامج التّلفزيون، وقلْتَ عن مناهج التّعليم العام: إنّ عليها مآخذ، ومناهج الجامعات فيها خلل كبير، أتريد هذه القضايا مفتوحة لك مغلقة عليّ؟
وتحوّل الإتّهام بالعلمانيّة عن القصيبي بمفرده إلى الدّولة كلّها بدليل نظام المرافعات والمحاكم المتخصّصة.
وردّ القصيبي نيابة عن الأمّة: (ياأخي اتّق الله ولا تَصِم الدّولة الوحيدة التي تلتزم بشرع الله وتقيم حدود الله بالعلمانيّة فتطعنها في المقتل، لقد أعزّنا الله بكلة التّوحيد، ومكّننا من بناء دولة التّوحيد، وآوانا وأيّدنا بنصره ورزقنا من الطّيّبات، فاتّق الله وكن من الشّاكرين).
وقالوا: (كذب القصيبي عندما قال: إنّ الفتوى تتغيّر بتغيّر الزّمان).
وردّ القصيبي بأدلّة عامّة من الكتاب والسّنّة وأثرٍ عن عمر رضي الله عنه وعن ابن تيمية وابن القيّم رحمهما الله، وبنقل خاصّ عن القرافي من (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام).
وقال بعضهم: إنّ من يقول بتغيّر الفتوى ينقض عرى الدّين، وقال غيرهم: لم يقل أحد قبل القصيبي بتغيّر الفتوى.
فنقل فصلاً عنوانه: (في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنّيات والعوائد) من أعلام الموقّعين لابن القيّم رحمه الله، أورد فيه سبعة أمثلة لتغيّر الفتوى بتغيّر الزّمان والمكان والحال.
وقارب القصيبي بين قول كبير الخوارج وقول الخميني:
قال الخميني: (لا نريد لشبابنا أن يتصوّروا علماءنا يدرسون مسائل الحيض والنّفاس بدلاً من التّركيز على السّياسة).
وقال الخارجيّ: (ما قيمة العالِم إذا لم يبيِّن للنّاس قضاياهم السّياسيّة؟ أتريد من العالِم أن يبقى محصوراً فقط في أحكام الحيض والنّفاس؟
وأشار القصيبي إلى التّشابه بين ثورة الخميني في إيران وثورة الخوارج في القصيم:
1) كان شريط الكاسيت أمضى أسلحة الثّورتين.
وكان هدف كلٍّ منهما: إسقاط دولة علمانيّة وإحلال حكومة إسلاميّة محلّها، وقامت حركتهما على دعوى: الجهاد بقيادة فقهاء سيّاسيّين. وبدأت الثّورة هناك وهنا بالتّهييج والتّحريض ثمّ التجمّعات ثمّ العصيان.
وكتبْتُ للقصيبي أنهاه عن مقابلة السّوء (العلمانيّة) بالسّوء (الخمينيّة) مع أنّي أعلم أنّ كبير الخوارج قد حاول تشجيع الشباب (بل الشابّات) على الثّورة بصراحة متمثّلاً بتمرّد (يلتسن)في روسيا ونجاحها (بلا رصاصة واحدة).
فردّ بمرحه المعهود: هذا ما ظهر لي من أشرطتهم، وقد أكون مخطئاً بمثل خطأ ركاب الأتوبيس في مصر عندما أضرب سائقوا النّقل العام فأرسلت ثورة الجيش سائقيها مكانهم والشائع عند النّاس أنّهم قاصرون، قال الراوي: قاد أحدهم أتوبيساً فارتكب عدّة مخالفات والتفت خلفه إلى الرّكّاب معتبراً صَمْتهم انتقاداً له، وقال مغضباً: إيْه، هو أنا سقت غلط؟ فأجابوا بصوت واحد: العفو يابيه، يمكن احنا اللي ركبنا غلط.
رحم الله غازي القصيبي، لقد خالفته فيما ظننته ميلاً قوميّاً عربيّاً، وأنا أصدِّق كلام (بكر أبوزيد) رحمه الله في القوميّين العرب أنّهم – دنيويّاً – أسوأ من سلفهم في الجاهليّة أهل النّخوة والشجاعة والحميّة والكرم والشرف. ولكنّي أستثني غازي القصيبي رحمه الله، فهو كما قال إِرِكْ سَفَرايد في تعليقه على خبر موت جمال عبد النّاصر تجاوز الله عنه: كان رجلاً أَحَبَّه كثير من النّاس، وكان رجلاً كرهه كثير من النّاس، ولكنّه كان رجلاً. والقصيبي كان رجلاً أعطاه الله بسطة في الجسم والعلم والعزم والحلم والكرم والشّجاعة، لقي ربّه وهو يلهج بدعائه وذكره والثّناء عليه والتّوبة إليه وشكره على ما منّ به عليه من الإيمان فوق كلّ نعمة وفوق كلّ نقص، وبَقِيَتْ نعم الله تعالى عليه بالإنجاز في التّعليم الجامعي، والكهرباء، والمدن الصّناعيّة، والصّحّة، وسابك، وجمعية رعاية الأطفال المعوّقين، وجمعيّة البرّ، وانتصاره النّادر للأمّة وولاة أمرها وأفرادها في فتنة احتلال البعث العراقي الإشتراكي (وطاغوته صدّام الدّين والدّنيا) دولة الكويت وتهديده بقيّة دول الخليج، فكان قلمه عزاءً يوميّاً للمظلومين وسلاحاً ماضياً في قلوب المجرمين الظّالمين ومَنْ أَيَّدهم وفرح بجريمتهم من الموصوفين زوراً بالإسلاميّين فمن دونهم من العلمانيّين والقوميّين، جزاه الله خير الجزاء.
كتبه/ سعد الحصيّن- 1434/9/7هـ.