لا يقال فلان شهيد، نقد لفكر د.غازي القصيبي
لا يقال فلان شهيد، نقد لفكر د.غازي القصيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتٍ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إِلا اَللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أما بعد:
فقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أُوحي إليه من ربه: «أن الله يقبض العلم ـ في آخر الزمان ـ بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأفضلوا» [متفق عليه].
وقد وصل المسلمون ـ بعد القرون المفضلة ـ إلى حال قريبة من هذا المآل المظلم منذ ظهور دولة القرامطة، ثم الفاطميين، ثم العثمانيين، ولكن الله «يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» بالعودة إلى أصله فضلاً منه وإحساناً.
وفي هذا العصر احتل بعض طلاب العلم والفكر ـ ممن لا يملكون من العلم أكثر من شهرتهم بين العوام وأشباههم بحفظ الشعر، وغرائب الروايات، والأخبار، والأمثال، ولحن القول ـ مجلس العالم بشرع الله، والداعي على سبيله على بصيرة من كتابه وسنة رسوله وفقه أئمة الدين.
وقبل أيام قدمت لنا جريدة (الحياة) في عددها (14268) بتاريخ 1423/1/30هـ نوعاً جديداً من الرؤوس المنتحلة لمجالس العلم والفتوى لم ينتظروا اتخاذ الناس إياهم رؤوساً ولا سؤالهم، فأفتوا بغير علم، بل ونقضوا فتوى كبار العلماء إذ لم توافق أهواءهم.
قال شاعر بعنوان (الشهداء) يخاطب من يقوم بالعمليات القتالية (الفدائية):
يشهد الله أنكم شهداء *** يشهد الأنبياء والأولياء
والله يعلم أن هذا افتراء عليه وعلى أنبيائه وهم خير أوليائه.
ويخاطب كبار العلماء وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
قل لمن دبجوا الفتاوي رويداً *** رب فتوى تضج منها السماء
دون أن يأتي بكتاب، ولا أثارة من علم ينقض ما جاءوا به من محكم الكتاب، وصحيح السنة، وفقه أئمة القرون المفضلة في نصوصهما، بل دعا بدعوى الجاهلية: ارفعوا أقلام العلم الشرعي، واطووا صحفه، وكموا أفواه المستفتين والمفتين والفقهاء، ودعوا الحكم للهوى وحده:
حين يدعوا الجهاد يصمت حبر *** ويراع والكتب والفقهاء
حين يدعوا الجهاد لا استفتاء *** الفتاوي يوم الجهاد الدماء
والعلم بشرع الله يحمله من كل خلف عدوله، وليس منهم شعراء الظنون والعواطف، فقد قال الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون} [الشعراء: 224-226]، ومن الواضح أن الشعراء يتبعون الغاوين ـ أيضاً ـ، فهم في الغواية يعمهون، فلا يصلحون مفتين، ولا ناقدين لفتاوي العلماء، شرعاً ولا عقلاً.
وهذا الشاعر نفسه ـ هدانا الله وإياه ـ حكم على من وصفهم بالعلماء في (صوت الكويت) 1410/5/10هـ:
(أن يبقوا في مجالات تخصصهم، وألا يزجوا بأنفسهم في بحار السياسة حتى لا يغرقوا ويغرقوا شبابنا الحائر معهم)، فما له لا يقبل فتواه لغيره، فيبقى في تخصصه، مع أن السياسة تقوم على الظن، فلكلٍ أن يرى فيها رأيه، وإذا كان من العلم بالسياسة تشجيع التفجير الذي لا يميز بين صغير وكبير، ولا بين بريء ومذنب، فلن يكون الجهل بها أسوأ.
أما شرع الله، فنجد اليقين عنه في كتاب الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، وفي صحيح البخاري: باب 77 من كتاب الجهاد 56: لا يقال فلان شهيد، وحديث: «الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يُكلم في سبيله»، وحديث: الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي عسكره لا يترك للمشركين شاذّة ولا فاذّة إلا اتبعها يضربها بسيفه، حتى قال بعض الصحابة: ما أجرأ منا اليوم أحد كما جرأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه من أهل النار»، لأنه قتل نفسه.
وفي صحيح مسلم: ذكر غلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي قُتل يوم خيبر، فقال بعض الصحابة: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله، فقال: «كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم في الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا»، فكيف بالقتال للأرض والهوية والحزبية؟!
والله الموفق.
(نقلا من مجلة الأصالة – العدد 37، السنة السابعة 15/ صفر/1423هـ – ص 16-18)