للذكر اليقيني علماؤه وللفكر الظني شياطينه
للذكر اليقيني علماؤه وللفكر الظني شياطينه
بسم الله الرحمن الرحيم
أ- قبل ربع قرن كتبتُ في مجلة الدعوة إنكارًا لدعوى أحد الحزبيين الحركيين المبنية على ظنه وهواه: بأن المراد بقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 16، الأنبياء: 21]: هم المختصون في كل فنٍّ.
وفي هذا العام وجدتُ اثنين (من كبار طلاب العلم الذين امتهنوا الفتيا بعلم وبغير علم) يرددون هذه الدعوى المنكرة بلا دليل شرعيٍّ من الوحي أو الفقه فيه من أهله في القرون الخيرة.
ولا شك أن هذا التأويل لكلمات الله قولٌ على الله (وعلى مراده بها) بغير علم، لمخالفته كل المفسرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم (وآخرهم وأشملهم ابن جرير الطبري (ت: 310)، وثبت على منهاجه: البغوي (ت: 510)، وابن كثير (ت: 774)، رضي الله عنهم جميعًا وأرضاهم.
بل هو مخالف لمجرد النظر في سياق الآية الكريمة والتي تليها: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} فاتفق المفسرون على أن المراد بأهل الذكر: العلماء بشرع الله من وحيه، وأن المراد بالذكر: الوحي، وإنما اختلفوا في تعيين الوحي، فالقول الراجح: أنه المنزل على مَنْ قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فالمراد بأهل الذكر هنا: هم مؤمنوا أهل الكتاب، والقول المرجوح: أنه القرآن، فالمراد بأهل الذكر: العلماء بالوحي والفقه فيه من أهله الأول.
وظن الشيعة أن المراد بأهل الذكر: آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحدهم.
وظنَّ المتصوفة أن المراد بأهل الذكر: مشايخهم وأذكارهم المبتدعة.
وظن الفكريون والحركيون والحزبيون أن من أهل الذكر: المهنيون والفنيون! ففتحوا باب القول على الله بغير علم أكثر من الشيعة والمتصوفة.
وبلغ الأمر (من مفارقة منهاج السنة) درجة (أو دركة) أن سيد قطب (وهو كبيرهم الذي علمهم الخروج من منهاج السنة، تجاوز الله عنهم جميعًا) سأل (مِنْ أهل ذِكرهم) موسيقيًّا ورسامًا فيما ابتدع من تفسير أو تصوير أو ظلال ليُعِيناه على ضبط أوصافه الفاجرة لكلمات الله بأوصاف اللهو من موسيقى ورسم وتصوير وتمثيل في كتابيه: (التصوير الفني في القرآن) و(في ظلال القرآن).
ولا شك أن معنى (أهل الذكر) الذين أمر الله المشركين بسؤالهم: هم العلماء بوحيه، وأن الذين أمرنا الله بسؤالهم هم العلماء بكتاب الله وسنة رسوله بفهم أئمة الفقه في القرون الخيرة.
واتفق أهل العلم بالتفسير منهم: أن الآية نزلت ردًّا على المشركين في مثل قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] وقولهم: (الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا)؛ فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزولها.
وقد سمى الله كتابه (ذكرًا) في آيات كثيرة، ولم يُسمِّ شيئًا من أقوال الأولين والآخرين وفنونهم وظنونهم بهذا الوصف، والآية التي لبس أهل الأهواء بإفك تأويلها؛ آية محكمة لا تخفى على غير المتكلفين، وقال الله تعالى للمشركين: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} [الأعراف: 63، 69]، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}؛ فهل يظنُّ المتكلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبيِّن معنى هذه الآية! أم يظنون أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم وأرضاهم كتموا بيان نبيهم كلمات ربه! أم يظنون أنهم جهلوها وعلمها المحدثون المتنطعون المتفيهقون المتشدقون؟! ردَّهم الله إلى دينه وكفانا شرهم.
وقال الجاحدون المكذبون: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: 25]؛ فعرفوا من معنى كلمة (الذكر) ما لم يفقهه بعض المنتمين إلى الإسلام والسنة والدعوة والفتيا؛ لاختيارهم الفكر والهوى على الفقه.
ب- ولاتباعهم ناعق الفكر والهوى: أضلهم عن شرع الله والفقه في دينه فشاقوا ولاة الأمر من العلماء والإداريين؛ وبذروا بذور الخلاف والفرقة والفتنة في بلاد ودولة الوحدة على منهاج النبوة:
1) ظنوا (فأثموا) أن المنجِّمين (الراصدين الفلكيين) هم من أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}؛ فأوجبوا الرجوع إليهم وجعلوهم طبقة أعلى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، حاكمة على شرع الله: مجرد الرؤية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)، توكيدًا أو نقضًا لشهادة الشهود، وتوكيدًا أو نقضًا لقرار المجلس الأعلى للقضاء أو المحكمة العليا، ثم ينشرون شقاقهم في وسائل الإعلام {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وإنما أتوا من قبل انبهارهم بفكر (وآلات) الحضارة الصناعية الغربية، وعجزهم عن مماثلتها فضلًا عن التغلب عليها (صناعة أو إستهلاكًا)، فلم يبق لهم إلا اتباعها وايجاب اتباعها على غيرهم من المسلمين… ولا أتَّهمهم بالمخالفة من أجل الشهرة؛ إحسانًا للظنِّ بهم.
2) واعجب (ولا تسخَرْ) من ردِّهم شهادة الشهود المثبتة عدالتهم في محاكم الشريعة (في بلاد ودولة تحكيم الشريعة)، وقبولهم دعوى الراصد الفلكي (الذي لم تثبت عدالته)، وادعاء وجوب قبولها.
3) واعجب (ولا تسخَرْ) من تخليهم عن لغة القرآن والسنة، ولغتهم الأصلية التي اختارها الله لآخر رسالاته إلى خلقه، واحتضاب لغة الراصدين الفلكيين تقليدًا وترجمة للغة من لا خلاق لهم في الآخرة: ناعقي الحضارة الأوروبية والأمريكية، فهم يعبرون بولادة القمر أو الهلال، ولأنهم لا يتبعون منطق العقل فضلاً عن الشرع: يعبرون باختفائه أو غيابه لا بموته، وكل مولود يموت ولكن الهلال أو القمر لا يولد ولا يموت، بل يظهر أو يهل أو يغيب بتقدير الله منازله.
4) واعجَبْ ممن وكل إليه الثيام بوظيفة دينية للمحافظة على الحكم بشرع الله في دولة الشرع؛ ثم هو يفتح ذريعة للسحرة بتبنيه رأيًا ضعيفًا عن جواز نقض السحر بالسحر، وينشره ويدافع عنه بحماسة لم نعرف مثلها عنه في نشر إفراد الله بالعبادة أو محاربة الشرك بأوثان المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة وما دونها من البدع.
5) ولكن لماذ تعجب؟ وهذا كبيرهم الذي علمهم القول على الله بغير علم (سيد قطب تجاوز الله عنه وعنهم) يصف القرآن بالسحر في قوله: (لقد تلقوه مسحورين، يستوي في ذلك المؤمنون والكافرون، هؤلاء يسحرون فيؤمنون، وهؤلاء يسحرون فيهربون) التصوير الفني في القرآن، ص25، ط:7، دار الشروق، عام 1982، وطبعة 9، عام 2000م. وهذا تحت عنوان: (كيف فهم القرآن)، أما تحت (سحر القرآن) و: (منبع السحر في القرآن) ص 11 و17؛ فالعنوان يكفي للإنكار. ودافع سيد عن وصف مشركي قريش النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن بقول الله عنهم: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]، بأنهم: (لم يكونوا مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر يوم قالوا: إنه شعر! لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع، وسَحَرَ وجدانهم بما فيه من إيقاع جميل، وتلك من خصائص الشعر الأساسية). وقال عن القرآن: (أخذ من الشعر: الموسيقى الداخلية، والفواصل، والتقفية المتقاربة) المصدر نفسه، ص: 102.
ج- وظن المتحولون من الفقه (من أهله) الى الظن (من أهله) أنَّ من أهل الذكر الذين شرع الله (لمن لا يعلم) سؤالهم: الخراصون في ما سمي: التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع مما يقوم على النظرية لا على اليقين، منذ وثنية اليونانيين إلى علمانية الأووربيين والأمريكيين؛ فنبذوا الذي هو خير، وربطوا رقابهم بتقليد الأدنى:
(1) أسس الملك عبد العزيز رحمه الله فور توحيده الأرض المباركة على منهاج النبوة في الدين والدعوة باسم (المملكة العربية السعودية) ثلاثة معاهد دينية أولها: المعهد العلمي السعودي في مكة المباركة عام (1345هـ) للمقيمين في مكة والوافدين إليها. وثانيها: المعهد الشرعي في ينبع (بعد بضع سنين) لأبناء بادية الحجاز. وثالثها: دار التوحيد بالطائف لأبناء نجد خاصة. ولغيرهم عامة، عام (1364هـ)؛ وآتت المعاهد الثلاثة أكلها سنوات عديدة بفضل الله ثم برعاية الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ القائم على إدارة الشؤون الدينية (ومنها: المحاكم) في المنطقة الغربية، والشيخ محمد بن مانع مدير المعارف (قبل تحولها إلى وزارة) والأستاذ حمود البراهيم أمير ينبع رحمهم الله جميعًا. وبموت المؤسسين وأعوانهم أو تركهم العمل؛ تلاشت المعاهد الثلاثة فأغلق باب المعهد الشرعي في ينبع لقلة الراغبين فيه، وذهب اسم المعهد العلمي السعودي في مكة المباركة ورسمه، وحول إلى مدرسة عادية، وذهب رسم دار التوحيد بالطائف وبقي اسمها.
(2) وأسس الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله (المعاهد العلمية) في آخر حياة والده رحمه الله عام (1371هـ)، بعد أن عهد إليه والده بتصريف شؤون الدولة فبل وفاته بثلاث سنين (في رواية عبد الله فلبي) وبخمس سنين (في رواية حمد الجاسر) تجاوز الله عنهما. وأراد الله لهذه المعاهد الدينية البقاء والنماء حتى تجاوز عددها (60) في الداخل والخارج بفضل الله ثم بهمة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة المباركة، ثم الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي حين كان مديرًا لجامعة الإمام محمد بن سعود، أثابهم الله جميعًا.
(3) وأسس الملك سعود (بتفويض من والده رحمهما الله): كلية الشريعة بمكة المباركة عام (1369هـ)، أول مؤسسة للتعليم العالي الشرعي في جزيرة العرب (التي اختارها الله واختار لغتها، ورجلاً من أهلها لتبليغ آخر رسالاته للناس) فكانت نواةً لجامعة أم القرى. ثم أسس كليتي الشريعة واللغة العربية عام (1372 هـ) نواة جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. ثم أسس الملك سعود رحمه الله الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية لتعليم أبناء المسلمين في الخارج (بخاصة): الالتزامَ بالتوحيد والسنة. وفي عام (1380هـ) افتتحت هذه المؤسسة الشرعية الوحيدة من نوعها برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وإدارة الشيخ عبد العزيز بن باز (المفتي بعده) رحمهما الله.
(4) ونفع الله بهذه المؤسسات التعليمية أعدادًا لا تحصى من المسلمين في المملكة المباركة والقادمين إليها من المسلمين من الخارج. وذهب سلفنا الصالح بالثبات على الحق وبالأجر، أثابهم الله الجنة. ثم خلفت من بعدهم خلوف اختاروا التقليد الجاهل على الاتباع، والظنَّ على اليقين، والتطوير الشكلي والعددي على ملازمة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومتبعي سنتهم في القرون الثلاثة الخيرة، وهو بفضل الله وتوفيقه ما كان عليه سلفنا من الأمراء والعلماء في القرون الثلاثة الأخيرة (12 و13 و14).
تسلَّل حزبُ الإخوان المسلمين المبتدع بحجة الاضطهاد في بلد منشئه؛ فعاث قادته وأفراده في أرض التوحيد والسنة فسادًا للدين والدنيا ـ كفى الله الإسلام و المسلمين شرهم ـ؛ ونفذوا توجيهات الحزب كما أشار إليها القيادي في الحزب عبدالله ناصح علوان في كتابه (عقبات في طريق الدعاة) 2/512 إلى 2/601، وعنه: (فكر الإرهاب والعنف في المملكة العربية السعودية للشيخ د. عبدالسلام السحمي الأستاذ بالجامعة ص98 إلى 104)، ومنها: (الاقتصار في تبليغ الدعوة على السرِّ، الارتباط بجمعيات تعليم القرآن ومؤسسات البر والتعليم للعمل تحت مظلتها، استلام درس في مسجد، أو خطبة على منبر، أو تعليم في مدرسة، إلى التدرج مع التنفيذين (ولاة الأمر) من القناعة، فإن لم تُجْدِ فالمدارات، فإن لم تجد فبالدعوة السرية، فتح مدارس خاصة، إقامة حفلات في مناسبات إسلامية، إقامة سهرات مفتوحة مع الشباب، إهداء الكتاب الإسلامي والشريط الدعوي).
واستولى الحزبيون والمخدوعون بهم (خلال عقد أو عقدين منذ تسللهم) على المدارس والمساجد والمعاهد والجامعات والإعلام، فتحول العلم الشرعي إلى ذواقة (لا تسمن ولا تغني من جوع) مما يسمى بلغة الحزب: تربية إسلامية، وتوعية إسلامية، وثقافة إسلامية. وحوصرت اللغة العربية بالانكليزية، وحوصرت العلوم الدينية في معاهدها بالنظريات الكونية، وفي جامعاتها بالطب، والهندسة والإدارة والتجارة، وتنافس إداريوها في كثرة التخصصات، والمؤتمرات، يحضرها غالبًا الحزبيون والمبتدعة، وعلى العلم اليقينيِّ السلامُ.
(مكة: 1432/10/21هـ).