عبدالله فلبي ـ رحمه الله ـ والتميز الدنيوي
عبدالله فلبي ـ رحمه الله ـ والتميز الدنيوي
بسم الله الرحمن الرحيم
1) سألني أخ عزيز (قبل أيام) عن حقيقة إسلام (فلبي) ـ هاري سانت جون ثم عبد الله ـ، ولأن الله وحده يعلم ما يكنه قلب أي منَّا، ولأننا مأمورون بالرد إلى الله والرسول عند التنازع فقد بينت له أنه لا يجوز لنا إعلان الشك في حقيقة إسلام مسلم نطق بالشهادتين، وحج البيت الحرام سنوات عديدة متتالية (في موكب الملك عبد العزيز رحمه الله)، وكان يصوم رمضان في سفره الفريد عبر الربع الخالي رغم معرفته بجواز الفطر في السّفر رغم فطر بعض مرافقيه من البدو، وكان يَؤُمُّ مرافقيه في الصلاة إذا لم يكن في رفقته إمام أثناء رحلاته الكثيرة في جزيرة العرب، وأوصى أن يقبر في مقابر المسلمين لو مات خارج الجزيرة (ربما لأنه يعلم بشك الكثير من المسلمين في إسلامه قبل غيرهم)، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على حِبِّه وابن حِبِّه (أسامة بن زيد رضي الله عنه) لأنه شك في حقيقة إسلام مشرك كان يقاتل في صفوف المشركين ثم نطق بالشهادة (خوفًا من السيف في ظن أسامة رضي الله عنه) فقتله، فردّد النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا شققتَ عن قلبه» حتى تمنَّى أسامة أنه لم يكن أسلم بعد، ليضمن المغفرة.
2) ويُروى عن الشاعر خالد الفرج تجاوز الله عنه أنه خلَّد شكَّه في نَظْمه (يقول ساءَلْتُ فلبي … فقال: سِرِّي بقلبي) وقلب كلمة (فلبي): (يَبْلِفْ) تجاوز الله عنهما (من رواية الزِّرِكلي رحمه الله)، والزركلي ممن يشك (فيما يظهر من كلامه) في (فلبي)، وهو (مثل أكثر المترجمين والمؤرخين) لا يوثق بأحكامه، فلم يضمِّن ترجمته للملك سعود رحمه الله حسنة واحدة في أعلامه، ونسي أوَّليَّاته الدنيوية رحمه الله، ولا تكاد تحصى مثل: أول جامعة، وأول إسكان، وأول طريق عبر الجزيرة في اتجاه مكة المباركة، وأوليَّاته الدينية أعظم (وإن لم يهتمَّ بها الزركلي) مثل: أول جامعة إسلامية عالمية، وأول كلية للشريعة في مكة (نواة جامعة أم القرى)، وأول كلية للشريعة في الرياض (نواة جامعة الإمام)، وأول نشر لفقه ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى)، وأول توسعة سعودية للمسجد النبوي ثم المسجد الحرام، والقائمة طويلة جدًّا.
3) ولا شك أن ما قدمه (فلبي) للأرض والدولة المباركة خير مما قدمه الزركلي أضعافًا مضاعفة، أما الملك سعود رحمه الله فيُعَدّ أحد المجددين في الدين والدنيا بعد محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود وعبد العزيز ابن محمد وسعود بن عبد العزيز وتركي بن عبد الله وفيصل بن تركي وعبد العزيز بن عبد الرحمن، وليس الزركلي وأمثاله أهلًا لقدره حقَّ قدره. وعبد الله فلبي رحمه الله أول وأكثر من كتب عن الأرض المباركة والدولة المباركة، وهداه الله للإسلام وهاجر إلى أرضه وأقام فيها قريبًا من أربعين سنة كما يبيِّن في كتابه (أربعون سنة في البرّيّة) على سوء ترجمته وسوء التعليق عليه فإذا ادَّعى (فلبي رحمه الله) أن قائد الطائرة انحرف عن الطريق الصحيح حتى أرشده إليه كتب المعلق: (كأنَّ فلبي خبير بشؤون الطيران) ص346، نشر مكتبة العبيكان سنة 1424. ولقد رأيت الطيار مرة يستشير (فلبي) عندما ضلَّ عن مطار شقراء قبل أربعين سنة، ولكن بعد أن تجاوز شقراء فلم يرَ العودةَ من أجل راكب واحد (كاتب المقال)، فلا يحتاج الأمر إلى خبرة طيران بل خبرة أرض، ولا أظن سعوديًّا خبر أرضه مثل (فلبي)، والأمثلة كثيرة في هذا الكتاب وغيره تدل على تحامل الأكثرية العربية وعدم اهتمامهم بالتثبت قبل الحكم على الناس كما أمر الله، وسوء ظنهم.
4) بل لقد رأيت كثيرًا من العرب (الإخوان المسلمين ـ الفلسطينيين منهم خاصةً) أثناء احتلال حزب البعث العراقي (لا رده الله) الكويت وتهديد دول مجلس التعاون يرجفون ويفترون على خير ولاة العرب والمسلمين (منذ القرون المفضلة) بأنهم من أصل يهودي، وقد لا يفقهون أصلهم العربي العريق، ولكن كيف يغيب عن مداركهم أن كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا عباد أوثان ولم يبخسهم ذلك من أجورهم شيئًا فالمهم الخاتمة، وهؤلاء الولاة وحدهم ميزهم الله في القرون الثلاثة الأخيرة بإحياء منهاجهم والثبات عليه ونشره. وكيف لا يفقه المرجفون أنهم هم أنفسهم من أصول يهودية أو نصرانية أو مشركة وأنهم جانبوا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يأمروا بإفراد الله بالعبادة ولا بالسنة ولا نهوا عن الشرك بالله في عبادته ولا عما دون ذلك من البدع، وهم يولدون ويعيشون ويموتون بين أوثان المقامات والمزارات وتحيط بمساجدهم وعبادتهم البدع بل يحتفي رئيس (حماس) بوثن الخميني يقرِّب له قربانًا من الزهور ويصفه بأنه أبوهم الرُّوحي، بل أخذوا من أجداده الشيعة: الثورة على الحكام فادعوا أنهم شاركوا في الثورة المصرية، واتهموا بقتل النقراشي قبلها ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر بعدها، وعندما اغتال ابن الوزير الإمام يحيى في اليمن واغتصب الولاية لم تؤيده دولة مسلمة ولا كافرة ولا هيئة ولا جماعة غير حزب الإخوان المسلمين أرسل وفدًا رافقه الشؤم عليه وكان مفتي فلسطين الحزبي الإخواني في ألمانيا يؤيّد النّازيّة حتى سقط الثلاثة.
5) عبد الله فلبي رحمه الله (مثل محمد أسد رحمه الله) أحب جزيرة العرب التي لم تتغيَّر حياتها الدنيوية منذ مئات القرون، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله يعجب من اختيار محمد أسد السفر من الحجاز إلى نجد على الجمل واختيار عبد الله فلبي الانتقال من الطائف إلى مكة على البغل أو الحمار بطريق الهَدَا. وكلا الرجلين تحول إلى الإسلام ـ الأول من اليهودية، والثاني من النصرانية ـ وكلاهما كان مقربًا عند الملك عبد العزيز ومجلس مشورته، وكلاهما لم يتخذ ذلك مهنة ولا وظيفة ولا سبيلًا لكسب معاشه كبقية من اختير من العرب لهذا الشرف عدا كبير المستشارين الأمير عبد الله بن عبد الرحمن رحمه الله. ويخطئ المعلِّق على كتاب (فلبي: أربعون عامًا في البرّيّة) ص19: (فلبي) يؤكد أنه لم يصرف له مرتَّب شهري أبدًا من الحكومة السعودية، والمعلق يخطِّؤه في دعواه بحجة أنه ذكر أكثر من مرة إعانة الملك عبد العزيز له (رحمه الله) أحيانًا، وفرق بين الراتب الشهري وبين الإعانة أحيانًا التي كان يحصل عليها فلبي ومحمد أسد وغيرهما لا يحصي عددهم إلا الله. وتمنَّى كل منهما ألا تؤثر الثروة البترولية الوليدة على استقلال البدوي (والحضري أيضًا) واكتفائه بنمط حياته الفطرية ومعيشته وثقافته وألا يطغى على كل ذلك ثقافة الغرب ونمط حياته الاستهلاكية. وهذه أمنية عظيمة ولكنها لا تقبل التنفيذ، فأكثر الشعوب ساخطة ولو: {أُعْطُوا مِنْهَا} فكيف بهم لو {لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا}، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، ومن شهادة الملك عبد العزيز رحمه لعبد الله فلبي رحمه الله (ومعه السبيعي): (أنّ رجلين اثنين عملا معه عشرات السّنين ولم يطلبا منه أجراً ولا منحةً: عبد الله فلبي وعبد الرحمن السّبيعي) رحمهم الله جميعاً. (أربعون عاماً في البرّيّة ص45 ترجمة ونشر العبيكان)، وعندما اتّفق معه الملك عبد العزيز على بيان حدود المملكة المباركة مع اليمن سأله عبد الله بن سليمان وزير الماليّة ثم سأله الملك عبد العزيز رحمهم الله جميعاً كم يحتاج من المال للتنفيذ وكان جوابه: لا شيء، عندي ما يكفي.
6) ولكن محمد أسد لم يَطل به المقام في الأرض المباركة ولم ينافس أحدًا في التجارة واختار التفرغ للدّعوة بما سُمِّيَ خطأ بالفكر الإسلامي، وبذلك سلم من المنافسة ووراءها المخاصمة. وذكر لي الأمير سلمان وفقه الله أن ولاة الأمر حافظوا على صلتهم به في المغرب ثم بأهله بعد وفاته رحمه الله وكان الملك عبد العزيز رحمه الله يشبِّه فلبي بالمعارضة في البرلمان البريطاني، لأنّه أكثر مستشاريه معارضة له مع فرط إعجابه به.
7) أما فلبي فكان له صفات (إضافة إلى المنافسة التجارية والسياسية) أكسبته العداوة وسوء الظن به والضيق بمقامه في كل مكان إلا قليلاً: وقف ضد الحكومة البريطانية في الحرب العالية الثانية موقفًا أحرجها (وأحرج معها الدولة السعودية التي اختار الهجرة إليها) واتَّهمته دولته البريطانية بالانهزامية وعدم الولاء وتجسست على خطاباته لوالدته وابنته وزوجته وعلى تحركه السياسي وقررت اعتقاله (من وثائق المخابرات البريطانية 1929 – 1948 التي أفرج عنها بعد مرور نصف قرن ونشرت في جريدة الشرق الأوسط بِدْءاً من ذي القعدة 1423).
8) ولد (فلبي) في سيلان (سريلَنكا) لوالده الانكليزي ـ مُزَارع شاي ـ. أرسله والده الثري إلى انكلترا فدرس في جامعة كيمبرج وأظهر مهارة في دراسة اللغات فاختير للخدمة في الهند يوم كانت درة في التاج البريطاني ووصل إلى مرتبة مساعد المفوض البريطاني في منطقة البنجاب، ثم عين مستشارًا لوزارة الداخلية في بغداد أثناء الاحتلال البريطاني، وبعدها مندوبًا ساميًا لانكلترا في الأردن. كان لورنس (العرب) يراهن على الهاشميين (فيصل بن الحسين خاصة) لتوحيد الجزيرة العربية، وكان (فلبي) يراهن على الملك عبد العزيز بن سعود رحمهما الله تعالى، ولم يصدِّقه الساسة في بريطانيا، وفي آخر مرة حاول إقناعهم وصفه اللورد كيرزن بالجنون، فغادر قاعة الاجتماع، وقال في نفسه: سننتظر وستعلمون! ولم يلبث إلا قليلًا حتى وصلت لوزارة الخارجية البريطانية برقيات عاجلة تؤكد أن جيش ابن سعود صار كالسيل الجارف لا يقف في وجهه شيء في جزيرة العرب، فاستدعت الخارجية (فلبي) واهتم كيرزن بالحديث معه وإرساله مبعوثًا بريطانيًا يعرض على ابن سعود منحة (60.000) جنيه ولا يطلب منه في المقابل إلا السلام وضبط النفس (الوثائق المذكورة)، ومن أهمّ ما يحرص عليه الإنجليز في ذلك الوقت عدم مهاجمة العجمان الحدود العراقية والحسين أمير مكة رغم مهاجمتهما رعية ابن سعود، فصبر رحمه الله جازاه الله تعالى بالعز والنصر والتّمكين.
9) يذكر (فلبي) في كتابه (أربعون عامًا في البرّيّة/ص149) أنه استقال من منصب المفوض السامي في الأردن بعد الأخذ برأي (لورنس) تنصيب فيصل وعبد الله ابني الحسين بن علي (رحمهم الله) ملكين على العراق والأردن وبذلك نقضت بريطانيا وعدها بإعطاء الشعب حريته في اختيار حكومته. وتقول الوثائق البريطانية أن ابن سعود تجاهل التحذيرات البريطانية فدخل مكة كما راهن (فلبي)، فقررت انكلترا أن الشخص الوحيد المؤهل لتمثيلها لدى الملك عبد العزيز هو (فلبي)، وفي إحدى زياراته للملك خرج من مجلسه ليبرق إلى لندن باستقالته من الخدمة، وقطع كل علاقة له بها رسميًا. وفي تقييم الداخلية والخارجية والمخابرات البريطانية أن (فلبي) رجل غريب الأطوار، وأنه حرض ابن سعود على التشدد مع بريطانيا في مفاوضات عام 1928 وحَوْل القضية الفلسطينية، وأنه فقد الولاء لبلاده، وألقي عليه القبض أثناء مروره بالهند، وأرسل إلى السجن في إنكلترا قريباً من عام أثناء الحرب الثانية، وأشيع أنّ المخابرات البريطانيّة كلّفت ابنه (كِمْ) بالتّجسّس على أبيه، وقبيل موت فلبي التقيا في لبنان وتمّ الصّلح بينهما ومات الأب بجانب ابنه، وربما كان فلبي أوّل من شهد علانية بأن المهاجرين من أوروبا إلى فلسطين ليسوا ساميّين.
10) ولن يرضَى عنه العرب لأنه رأى لهم قبول التقسيم الدّولي، بل رأى قبولهم (150.000) مهاجر يهودي بشرط وقف الهجرة عند هذا الحدِّ، ولن يرضى اليهود بذلك أيضًا ولو عاش (فلبي) إلى هذا اليوم لقال: العرب بعد خمسين عامًا يتمنون الآن الحصول على أقل من حدود التّقسيم وأكثر من العدد الأقصى الذي اقترحه للمهاجرين، ولو عاش (السادات رحمه الله) لقال: إنهم يتمنون الآن الحصول على أقل مما كان يفاوض للحصول عليه من أجلهم، أما مصر فقد كسبت من مفاوضاته (سيناء) كاملة بأهميتها العظيمة، وبعد ربع قرن حصل الفلسطينيون بمفاوضات (أوسلو) على الجزء الأصغر (في الضفة وغزة)، وتسبَّب الإخوان المسلمون في تقسيمها ليتحقق لهم شبح دولة لا يعترف بها أحد، بعد أن لهثوا وراءها نصف قرن.
11) أحب (فلبي) الملك عبد العزيز وأرضه كما أحبهما (محمد أسد)، وسعى (فلبي) لتعريف العالم بهما أكثر مما سعى غيره من العرب والعجم، وعرفت الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية قدر إنجازه فمنحته ميدالية الشرف. واتهمته (صنعاء) و(حضرموت) بأنه يحاول إقناع الملك عبد العزيز بضم (حضرموت) إلى المملكة العربية السعودية لكثرة تجواله في المنطقة، ولكن النتيجة التي حققها لم تزد عن كتابه: (بنات سبأ) ولا شك في أنه كان يتمنى أن يمتد حكم الملك عبد العزيز إلى اليمن وأثناء محادثات السلام بين السعودية واليمن إثر احتلال الجيش السعودي (الحديدة)؛ وقف (فلبي) في طرف مجلس الملك عبد العزيز يبكي حزنًا على قرار الملك سحب جيشه من اليمن، وإعادة ما أخذه بالقوة إلى الدولة اليمنية بمجرد المفاوضات، لا لأنه يحب الحرب بل لأنه يرى أن الملك عبد العزيز رحمه الله خير لليمن ولبقية العرب من أيّ حاكم منهم أو من غيرهم.
12) و(فلبي) صريح وعنيد ومشاكس، و(مثل الأغلبية) معجب برأيه إلى درجة اتهامه بالغرور، وقد أوردَتْه هذه الصفات سيِّءَ الموارد: وضعت المخابرات البريطانية عام 1940 في ملفه تقريرًا عن نقده واحتقاره الحكومة البريطانية حاضرًا وماضيًا وانهزاميته وعدم ولائه ومعارضته للحرب. في 1939 هبطت طائرة بريطانية اضطراريًا في حضرموت فقتل العرب جميع ركابها، فأيَّد فلبي ما فعله الحضارم بحجة أن الطائرة أرسلت إليهم لقتلهم. وأعلن أنه لم يكن على الحلفاء خوض الحرب، وأنهم لن يحققوا النصر، وأن بريطانيا تحولت إلى دكتاتورية لا فرق بينها وبين ألمانيا، وأنها حاكمت (11.000) مواطنًا رفضوا الحرب لأسباب دينيّة، وأن نشرات الأخبار البريطانية وضيعة ومزرية، وأن الأرقام التي تذيعها عن خسائر العدو في السفن غير صحيحة. وقام بحملة سياسية قوية لتغيير عزم حكومة العمال البريطانية على تقسيم المملكة المباركة الناشئة واحتضان معارضين للملك عبد العزيز. [قلت: وأبرز أولئك المعارضين الطامعين في الحكم وأخطرهم فيصل الدويش وكان آخر ملجأ له: العراق في حماية جيش الاحتلال الانكليزي، ويؤيد ذلك (محمد أسد) رحمه الله في كتابه (الطريق إلى مكة)، وكان الملك رحمه الله قد كلفه التحقيق في هذا الأمر فتابع التحقيق حتى وصل إلى الكويت ورأى بأم عينه دلائل تورط فيصل الدويش وعصابته في مؤامرة الانكليز تقسيم السعودية إلى أجزاء ودويلات ليس لها قدرة الملك عبد العزيز على تحديهم. وأكد هذا الأمر مؤرخ تلك الحقبة: محمد العلي العبيد رحمه الله من مشاهداته وروايات مشاهدي الأحداث المتعلقة بعصيان الدويش وعصابته رحمهم الله. وروى المؤرخ (فيلكس مانجان) في كتابه (تاريخ مصر في عهد محمد علي) ترجم ما يتعلق بتاريخ الحملة التركية الألبانية على الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام عبد الله بن سعود: أ.د. محمد خير محمود البقاعي ص140–188): أنّ فيصل الدّويش الأول جد فيصل الدويش الثاني كان من أكبر معاوني (إبراهيم باشا) بالركائب والمؤن والرجال على غزو دولة الدعوة إلى التوحيد والسنة مقابل وعد (إبراهيم باشا) له بتعيينه حاكمًا للدرعية. ولكن إبراهيم باشا جازاه بما يستحق بعد أن تحقق له هدم الدرعية وقتل ونفي المئات من الأمراء والعلماء، وبدلًا من أن يولّيه حكم الدرعية كما وعده طلب منه دفع ضريبة عن الخمس سنوات الماضية، واستجاب فيصل الداهية ـ ظاهرًا ـ وذهب برفقة ضابطين من جيش إبراهيم باشا لإحضار المال، فلما وصلوا إلى مأمنه قال للمبعوثين: عودوا إلى سيدكم وقولوا له: إن إسهامي في هزيمة الدرعية لا يقل عن إسهام جيشه وأنه قابلني بالجحود، فإذا أراد شيئًا من شيخ مطير فليأت بنفسه ليأخذه منه في وسط قبيلته، ويقول (مانجان) بأنه كان في استطاعة فيصل الدويش هزيمة الأتراك وإنقاذ نجد ولكنه [آثر الخيانة طمعًا في الحكم كما سيفعل حفيده بعد مئة عام] رحمهما الله.
13) وبقى (فلبي) نحو أربعين سنة قريبًا من مجلس شورى عبد العزيز بصفة غير رسمية. ومارس التجارة في السيارات والخيام (التي سميت باسمه بشيء من التحريف: ثلبيات) ولعب الأطفال وغيرها، وأشبع هوايته الجغرافية التاريخية الآثارية. وكان يخالف الملك عبد العزيز بصراحة أكثر من بقية مستشاريه ويتحمل وصف الملك له: مهبول أو كاذب. وكان الملك عبد العزيز يتحمل مخالفة مستشاريه ويصبر وإن ظهر غضبه أحيانًا؛ يروي الزركلي أن أحد المستشارين (حسن الحكيم، ويسمّيه السبيعي: حسن الحكي) أثار غضب الملك بإلحاحه في المعارضة، فقال الملك: أجل أنا ما أفهم. فردَّ مستشاره: بلي يا طويل العمر أنت تفهم ولكننا نفهم كذلك. فغادر الملك المجلس قريبًا من ربع ساعة ثم عاد كأن شيئًا لم يكن. وبعد وفاة الملك رحمه الله (بل قبل ذلك بثلاث سنوات في رواية فلبي، وخمس في رواية حمد الجاسر رحمهما الله، عندما تولى ولي العهد سعود رحمه الله إدارة شؤون الدولة) لم يشارك فلبي المستشارين ولو بصفته غير الرسمية كما يقول. كان فلبي يضيف إلى صفات الملك عبد العزيز المعروفة وأهمها أنه (الزعيم المؤمن بنصوص القرآن ووحد عليها معظم أرض وأهل جزيرة العرب) يضيف إليها ويزيده شغفًا به وتقديرًا له أنه: (يكره الطقوس الاجتماعية، ويشمئز من التدخين ومن قيم العصر المنحلة ومظاهر الترف، ويكون في أقصى سعادته عندما يفترش الأرض بين أهله وأفراد شعبه). ومن حبه للملك عبد العزيز وللحياة الفطرية التي يعيشها البدو (وأكثر الحضر) الذين لا يحتاجون لغذائهم أكثر من اللبن والتمر، ولا يعرفون شيئًا عن كماليات العصر الحديث، لم يعد شيء يرضيه بعده، وبدأ ينشر استياءه على الملأ وهذا أسوأ ما في الأمر.
14) كتب فلبي في صحيفة الشؤون الخارجية في العاصمة الأمريكية مقالًا شهر 4 سنة 1954 بعد أشهر من وفاة الملك عبد العزيز رحمهما الله ملأه بالتشكي والتأفف والتنبؤ بسوء المصير لعهد لم يكد يبدأ، واتهم كبار الموظفين بصرف اهتمامهم لزيادة ثرواتهم على حساب الوطن وتقديم مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة، ولم ينس المقارنة بين شخصية الملك عبد العزيز وشخصيات خلفائه، بأسلوب تنقصه اللباقة بل ينقصه العدل. لا شك أن شخصية الملك عبد العزيز وانجازاته متميزة ومعروفة في العالم كله، ولكن عهد أبنائه مكمِّل لعهده وإعدادهم لتولي الأمر كان انجازًا من خير ما منَّ الله به عليه.
15) والملك سعود رحمه الله أكثر أولاد عبد العزيز شبهاً بأبيهم، وأمضى عشرين سنة في الإعداد لعهده وليًّا للعهد ثم ملكًا (11سنة) وأنقذ الله به والده من خناجر اليمنيّين أثناء الطّواف، وبارك الله في الواردات المالية القليلة نسبيًّا (مليون برميل بسعر دولار وثمانين سنت في أحسن أحوالها) فتحملت همته العظيمة وحماسته المنقطعة النظير للجمع بين: نشر ميزة الدولة السعودية التي فاقت بها جميع دول المسلمين منذ القرون الأولى (تجديد الدين بالعودة به إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم)، وبين: بناء الدولة الحديثة نظمًا ومؤسسات تعليمية وصحية وثقافية واجتماعية، ولا تزال نظمه ومؤسساته شاهدة على بعض إنجازه. يذكر حمد الجاسر (وهو مثل عبد الله فلبي في انصرافه عن العلوم الشرعية إلى البحوث الجغرافية والتاريخية والتجارة بالفكر)، يذكر أن الملك سعود (رحمهم الله جميعًا) كان يلح عليه في التعجيل بفتح المدارس العصرية عندما كان معتمدًا للتعليم في نجد، وعندما اعتذر بعدم وجود مدرسين ذكره بوجود مساجد وأئمة ومؤذنين في كل مكان ولن تحتاج المدرسة في أول نشأتها إلى أكثر من مدرس (الإمام) وخادم (المؤذن) حتى تبدأ كليتا الشريعة في مكة والرياض والمعاهد الدينية بالرياض في تخريج المعلمين.
16) اكتفى الملك سعود رحمه الله بمعاتبة (فلبي) على جهره بالسوء وليس على سوء ظنه بالمستقبل وقلة أدبه، احترامًا لحبه وصداقته والده. ولم يستفد (فلبي) من خطئه ومن صبر الملك سعود عليه فأصدر كتابًا عن تاريخ حياته في المملكة المباركة أول سنة 1955 زاد الطين بلة بل صيّره وَحْلًا. وزادت الهوة بينه وبين زملائه المستشارين الذين شاركهم (وإن لم يكن موظفًا مثلهم) خدمة موطنه وموطنهم الجديد (وإن لم يحصل على الجنسية والراتب مثلهم): وجاءت المصيبة الثالثة (والثالثة ثابتة كما يقول المثل المصري) في آخر الشهر الأول من العام نفسه 1955 فألقى عدة دروس على موظفي شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) عن حياته وتجواله في المملكة المباركة أكثر من 30 سنة (ويتحامل المعلق على ترجمة كتابه: (أربعون عاماً في البرّيّة) فيسفِّه مدحه أرامكو وحسن إدارتها ومساهمتها في تطوير المملكة المباركة حضاريًا ص25، ولا شك أنها كانت قدوة صالحة لم يستفد منها موظفو الدولة وأنا واحد منهم إلا قليلًا، ولا شك أن الله نفعنا بها وبأمريكا من ورائها في اكتشاف البترول واستخراجه وتسويقه، وعندما صفَّق العرب لاحتلال الكويت وتهديد بقية الخليج (إسلاميوهم وعلمانيوهم وشيوعيوهم) أنقذ الله الخليج التعاونيّ بالجيش الأمريكي وحلفائه ـ ولو حمايةً للبترول بمالنا). وبدلًا من الاكتفاء بالعتاب في المرة الأولى وبمنع بيع الترجمة في الثانية طلب من (فلبي) مغادرة البلاد بعد رفضه نشر التراجع عن مقالاته، وإصراره على ذلك.
17) أقام في لبنان قبل أن يتمكَّن حسين العويني من إقناع فلبي بالاعتذار وإقناع الملك سعود بقبول اعتذاره والموافقة على عودته إلى بيته وأهله في المملكة المباركة بعد نحو أربعة أعوام من رحيله عنها. وحسين العويني مثل رفيق الحريري رحمهما الله حصلا على الثروة بعد استيطانهما المملكة المباركة ثم حصلا على رئاسة الوزارة في لبنان، وأشهد أنَّ اللبنانين والعُمانيين هم وحدهم الذين حفظوا الودَّ والجميل فلم يعضوا اليد التي أطعمتهم مثل بقية العرب، وبخاصة أهل المسجد الأقصى المبارك وما حوله الذين نسوا أن المملكة المباركة قدمت لهم من العون ما لم يقدمه غيرها إلى درجة تعيين ممثل الحركة الفلسطينية ممثلًا لها في الأمم المتحدة ليخدم قضيتها قبل أن تحصل على مقعد خاص بها. وقد ساهم فلبي رحمه الله في مفاوضات المملكة المباركة مع شركات البترول، ومع شركة ماركني لربط أجزاء المملكة بالاتصالات البرقية، وفي علاقة المملكة ببريطانيا يوم كانت تحتل أكثر مناطق الخليج وأكثر البلاد العربية، وإن لم يكن المفاوض الوحيد كما يحلو له أن يصف نفسه. ومع أنه عاد للإقامة في السعودية فقد أراد الله له أن يموت ويقبر في لبنان في إحدى رحلاته الكثيرة عام 1380 رحمه الله وأصلح مَنْ بعده ومنهم خالد وفارس تبعاه في الاسلام والإقامة في بلد التّوحيد والسّنّة، والله الموفّق.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن – 1431هـ.