كفى الله المسلمين شرّ الفتن والبدع؛ تعقيب على د.غازي القصيبي
كفى الله المسلمين شرّ الفتن والبدع؛ تعقيب على د.غازي القصيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلني كتاب (حتى لا تكون فتنة) للدكتور غازي القصيبي مع رسالة منه إجابة لرسالة سابقة مني، وبدا لي فيهما ما يلي: 1 ـ واضح لي أن حكمه على طلاب العلم الفكريّين (سفر وزملائه) بالخمينيّة مبني على فهمه لما قالوه في تسجيلاتهم، وأن حكمهم عليه بالعلمانيّة مبنيّ على فهمهم لما قاله في دواوين شعره، وعلى صفحات المجلات والجرائد، ورسالة الفاكس المزعومة، وكلا الحكمين خطأ؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وأنكر على حِبِّه وابن حِبِّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما حكمه المبنيّ على فهمه لواقع نُطْق المشرك المحارب كلمة التوحيد عندما علا السيف هامته «هلاّ شققت عن قلبه»؟
2 ـ لقد كتبت لأقربهم إلى منهاج النبوة قبل اتّباعه للفكر مخالفًا تحليلاته السياسيّة السّاذجة وتوقيعه بيان النصيحة المبتدعة لولي الأمر منذ وصول نسخة منه إليّ، ولقد أظْهَرَت الحركيّة الحزبية الموصوفة زورًا بالإسلامية ـ وأسلوب البيان من أساليبها ـ رغبة في اغتصاب السلطة باسم المطالبة بتحكيم شرع الله بمنشوراتها وهجماتها المسلّحة ونَشْر خارطة في إحدى الصحف العالمية استبدل فيها عنوان (دولة الإخوان المسلمين)ـلا الإسلام ـ بعنوان (الجمهورية العربية السوريّة) أثناء فتنة حماة لا أعادها الله على المسلمين، وبخوضها الانتخابات مستقلّة أو متحالفة مع الأحزاب العلمانية ليحصل ممثّلوها على مقاعد في البرلمان بعد أن يُقسمُوا على الإخلاص للدستور (المخالف لشرع الله)، ووزارة العدل المتخصصة في الحكم بغير ما أنزل الله، ورئاسة البلديات التي ترخّص أو تجدّد ترخيص الخمارات وبناء الكنائس، ووزارة الأوقاف التي تطوّر أوثان المقامات.
وأكبر ظني أن القلة من دعاة السنة ـ في الكثرة من الحركيين ـ قد انساقوا إلى السّير في نهج الحركية والحزبية بتوقيعهم على البيان كما أخطأوا في انسياقهم إلى السّير في هذا النهج المنحرف بتحليلاتهم السياسيّة الساذجة للأحداث في دروس الدعوة الشرعية، وبالتالي الخلط بين الظن واليقين في العبادة التوقيفية منهاجًا ووسيلة كما يرى الشيخ/ بكر أبو زيد وفقه الله في كتابه الفريد: (حكم الانتماء للجماعات والأحزاب الإسلامية).
3 ـ سبق أن رحّبت برأيك (أثناء الأحداث في عرب نيوز أو غيرها): أننا في المملكة المباركة لا نحتاج إلى المنحى الديمقراطي المعاصر فلنا اتجاهنا المستقلّ، وفهمت أنك تقصد أننا محكومون بشرع الله الذي تميّزت المملكة بتأسيسها عليه منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وإن صحَّ فهمي وفهمك فإننا لا نحتاج إلى انفصال مفتعل بين السّلطات وإن تميّزت كلّ سلطة بمسؤوليتها المشروعة، ومع يقيني أن ما لقيصر هو لله من قَبْل ومن بَعْد؛ فإن مرجع الشؤون الدينيَّة الفقهاء المعتدّ بهم من كبار العلماء، ومرجع الشؤون الدّنيويّة الأمراء، ووليّ الأمر العالم بشرع الله مَرْجعٌ فيهما معًا.
4 ـ خير مرحلة مرّت بها المملكة المباركة في رأيي: دولة الأئمة محمد بن سعود وعبد العزيز بن محمد وسعود بن عبد العزيز، والإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلامذته، للفريق الأول السّلطة التنفيذيّة الدنيويّة، وللفريق الثاني الحكم الشرعي والقضائي من الكتاب والسنة والفقه فيهما، رحمهم الله جميعًا وجزاهم خير جزائه عنَّا وعن الإسلام وعن المسلمين عامة. ثم جاءت مرحلة أكثر تعقيدًا بما طرأ من تطوّر دنيويّ وسار الملك عبد العزيز رحمه الله على نهج أجداده من حيث الرجوع إلى العلماء في كل أمر شرعي، وحدث اختلاف في بعض الأمور: أمن الجانب الدّيني أم الجانب الدنيوي: الاستعانة بغير المسلمين في استخراج النفط، الجمارك، وبدرجة أقلّ: استعمال وسائل دنيوية جديدة مثل السيارة والبرقيّة والهاتف، وقامت حرب بين بعض الإخوان غير العلماء وبين الملك، ولم يصل الخلاف بين العلماء وبين الملك إلى مثل هذا الدرك ولله الحمد والمنّة؛ واستمر الرجوع في الأمور الشرعية اليقينية إلى العلماء بلا منازع والتنفيذ في يد الحكَّام بلا منازع.
والخلاف بين ولي الأمر وبين العلماء ليس بجديد فقد حدث في أول وأبرز مظاهره بين أبي بكر وبقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في قضية قتال مانعي الزكاة الذين يقرّون بالتّوحيد ويصلّون ويصومون ويحجّون، وخالف الحاكم رأي الجميع وكان الخير في ذلك، وخالف الملك عبد العزيز بعض الإخوان والعلماء في قضية الاستعانة بغير المسلمين في استخراج النفط ونحوه وكان الخير في ذلك بمشيئة الله تعالى.
يظهر مما تقدم أن على الحاكم الرجوع إلى العلماء لبيان شرع الله والحكم به في القضايا اليقينية: الاعتقاد والعبادات والمنصوص عليه من المعاملات، وللحاكم الفصل في القضايا الدنيويّة التي لم يَرِدْ فيها نصّ بِحِلٍّ أو حُرْمة، وعلى الحاكم استشارة العلماء في الأمور المشتبهة ثم الحكم بما أراه الله دون منازع، قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]. أي: فإذا عزمت على إمضاء ما تريد بعد المشاورة فثق بالله لا بالمشاورة (السيوطي في الجلالين).
5 ـ في مسألة التوحيد (إفراد الله بالعبادة خاصة) لا مجال للتّساهل فقد أدَّى التّساهل في الماضي والحاضر إلى عبادة الأوثان تقرّبًا إلى الله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وطغت الأصنام على المسجد الحرام قبل الفتح الأكبر، ثم طغت أوثان المقامات والمزارات على أكثر بيوت الله وهي أوثان الجاهلية الأولى نفسها، ولكن مع فارق أن الأوّلين كانوا لا يتقربون بها إلى الله إلا في الرخاء: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]، أما الآخِرين فيلجأون إليها في الرخاء وفي الشدة وفيما بينهما، هدى الله الجميع لاتباع شرعه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدرّج في النّكير وفق شرع الله مع من يتبول في المسجد مثلاً ومن يستأذنه في الزنى، ولكن لم يشرع التسامح ولا التدرّج في الإنكار في أمر الشرك فقد صحَّ عنه أنه قال: «أجعلتني لله ندًّا»؟ لمن قال له: ما شاء الله وشئت، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لخطيب الوفد: «بئس الخطيب أنت» لمن قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، وقد تأخّر التشريع في الخمر والزنى والربا وفي الصلاة والجهاد والصوم والزكاة، وتقدم الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك؛ للزنى والرّبا والسرقة دوافعها الغريزية التي قد تدلّ على حكمة التدرّج بشأنها، ولكن لا دوافع ولا موانع طبيعيّة تجيز شيئًا من ذلك بشأن إهمال التوحيد وإقتراف الشرك، وهذا يعني أن نسمِّي الأشياء بأسمائها، ولا يعني ذلك نفي الإحسان في الموعظة ولا يعني ذلك التكفير قبل إقامة الحجة.
6 ـ مخالفتي لمنهج الشيخ/القرضاوي، وبدرجة أكبر الغزالي والبوطي، وبدرجة أكبر فهمي هو يدي ومحمد عمارة، هو مثالٌ لمخالفتي الفكر الإسلامي بعامة، ولا أنكر الاجتهاد من أهله الفقهاء في الدين، وهم غير هؤلاء وأمثالهم، ولكني أنكر الاجتهاد من غير أهله أو مع وجود النصّ فيتفرّق المسلمون بتعدّد الأهواء الفكريّة.
المعيار الصحيح: الكتاب والسنة وسبيل المؤمنين وخاصة في القرون الثلاثة الأُوَل في فهمهما، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [النساء: 59] . وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
7 ـ لم اتّهم أحدًا بتعمّد الخروج على الكتاب والسّنّة، وإنما أتَّهم المفكرين الإسلاميين بالخروج عن سبيل المؤمنين الأئمة الأعلام في فهمهما، حتى ردّ بعضهم الأحاديث الصحيحة إذا خالفت فهمه القاصر للقرآن مثل الغزالي والتّرابي، وإليك رسالة لجمال سلطان (من خير ما كَتَبَ) في الردّ على منهج الغزالي، علّها توضح الأمر أكثر.
8 ـ لا يَغُرّنك ما تقرأ من دعاوى (الباحثين المعاصرين) ـ وأخصّ العرب ـ عن نسبة الاجتهادات البشرية في الفقه مقارنة بالنصوص؛ فدعاوى العرب من كل اختصاص عريضة لأن الرّوادع الدّينيّة والعقليّة والخُلُقيّة ضعيفة جدًّا؛ فنحن نعيش على هامش الحضارة الدّنيويّة المعاصرة وعلى هامش الشرع نجترّ بعض المصطلحات الشرعية أو المهنيّة محاولين الحصول على المظهر إذ أعجزنا الكسل والتّخلّف الديني والدنيوي عن المساهمة الحقيقيّة في القيادة الدينية والدنيوية.
9 ـ لا يمكن فصل النّصوص عن فهم السّلف الصالح لها، وكان لهم زمام اللغة العربية وزمام العلوم الشرعية وما يؤدي إليها، وكان لهم المركز الأول في القيادة الدينية والدنيوية، وحتى النظر في المصالح المرسلة في المعاملات (عند من أقرّه) حيث لا نصّ من أمر ولا نهي صريح لم يكن معزولاً عن الفقه في النّصوص.
هدى الله الجميع لأقرب من هذا رشدًا ورّدهم إلى دينه الحق ردًّا جميلاً.