الفتنة تعْمِي البصائر (نقد فكر المحدِّث الألباني رحمه الله)

الفتنة تعْمِي البصائر (نقد فكر المحدِّث الألباني رحمه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم

فوجئت أثناء فتنة احتلال العراق للكويت (كفى الله الإسلام والمسلمين شرَّها، وشرَّ مَنْ آثارها من الملحدين والقوميين، وشرَّ من أيَّدها من الإسلاميين والشيوعيين والعلمانيين) بعدَّة أشرطةٍ للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (تنتشر في بلاد المسلمين وغيرهم انتشار النار في الهشيم) عن هذه الفتنة؛ لا تنصر للحق المضيع للمسلمين في الكويت، بل تؤيد حزب البعث العراقي الظالم (دون قصد من الشيخ لتأييده)، فكتبتُ له أربع رسائل بعد كل شريط سمعته له ضمنتها ما يلي:

أ- أدعو الله مخلصاً ألا يطول أمد هذه الفتنة وأن لا يتكرر الابتلاء بها وأمثالها، وألا يتسابق علماء المسلمين (فضلاً عن سفهائهم من الفكريين) إلى الحكم عليها اعتماداً على ظنهم (فهم الواقع)؛ فيبنون أحكامهم على الظن وقد هيأ الله لهم علم اليقين من نصوص الوحي بفهم أئمة الفقه في الدين في القرون المفضّلة.

الإسلام والمسلمون في حاجة إلى الشيخ الألباني (وأمثاله) محدّثاً مُمَيّزاً مؤتَمَناً على خزائن السنة وداعياً إلى الله على بصيرة، أما التحليل السياسي الفكري فله فرسانه أو بغاله أو حميره، ولا ينفع الإسلام ولا المسلمين كثرتهم ولا يضرهم قلتهم، ولا وجودهم ولا عدمهم. ولأنه خرج عن سبيل المؤمنين الذي اصطفاه الله له تعثرت خطاه.

ب- ظن أن خطر الغزو العراقي [البعثي الاشتراكي] أخفّ من خطر القوات الدولية التي استُؤْجِرَت لطرده، بحجة كراهية الشعب العراقي قادته وتأييد الأوروبيين والأمريكيين قادتهم؛ لأنه نسي (أو لم يعلم) أن حرية التدين والدعوة والمعارضة مكفولة في أوروبا وأمريكا بقدر ما هي مقيّدة أو معدومة في العراق، ونسي (أو لم يعلم) أن الشعب الأمريكي اضطر حكومته للجلاء المهين من فيتنام، ونسي (أو لم يعلم) أن المعارضة مستمرة في الشوارع والمجالس النيابية الأمريكية والإنكليزية احتجاجاً على الاشتراك في حرب الخليج.

ج- وظن عفا الله عنا وعنه: (أن الأمريكيين والبريطانيين إذا دخلوا بلداً فإنه لن يخرجوا منه لقوتهم ونصرانيتهم واستعمارهم)، ونسي (أو لم يعلم) أن الإنكليز دخلوا الكويت والأردن قبل ثلاثين سنة بطلب من الدولتين لمقابلة تهديد بالاحتلال من العراق ثم خرجوا منهما فور زوال التهديد، ونسي (أو لم يعلم) بأن الإنكليز خرجوا من مصر وفلسطين والعراق والسودان والأردن والخليج بعد احتلال دام عشرات السنين بمقاومةٍ وبدونها.

د- وظن عفا الله عنا وعنه: (أن القوات الدولية صليبية جاءت لنصرة الصليب) ثم ظن في الشريط نفسه: (أنهم يهود جاءوا لاحتلال خيبر). ونسي (أو لم يعلم) أن قادة أوروبا وأمريكا (عدا الفاتيكان لو كانت دولة) علمانيون وأن قوانينهم تمنع أكثرهم من تعليم النصرانية وأن الدولة العبرية ذيل لهم.

هـ- وظن عفا الله عنا وعنه أن أمريكا وأوروبا غائبة عن العالم المسلم وأن هذه الفتنة (ومحاولة ولاة أمرهم إطفاءها) هي الداعي الأول لحضورهم، ونسي (أو لم يعلم) أنها حاضرة منذ عشرات السنين في صناعة النفط والسلاح والزراعة والغذاء والكساء والتجارة والصناعة بمختلف أشكالها، بل في التدريب والتنظيم الإدراي ،بل في مختلف أنماط الثقافة والحضارة الدنيوية في المنزل والمكتب والشارع.

و- واتهم كبار علماء المملكة المباركة وهم (بل أكثرهم) بقية علماء السلف ـ كما يعرفهم ـ اتهمهم ـ رجماً بالغيب ـ بأنهم أفتوا بجواز الاستعانة بالقوات الدولية ـ بعد الله ـ خلافاً لما يعتقدون (عندما وُضعوا أمام الأمر الواقع، ولو استشيروا مِنْ قبل لما وافقوا)؛ فوقع عفا الله عنا وعنه في عدد من المخالفات للشريعة لا يليق به أيٌّ منها:

1) الحكم على ما في الصدور، وهو تعدٍّ على وحدانية الله به.

2) الحكم على خير علماء الأمة ـ في رأيه وأي جميع العالمِين من أهل الحديث ـ باختيار موافقة الأمر الواقع على الحكم بما أنزل الله.

3) الحُكْم على الدولة الوحيدة التي تقوم على شرع الله في الاعتقاد والعبادات وأكثر المعاملات منذ القرون المفضلة ـ في أريه ورأي من يُعتدّ برأيهم من أهل الحديث ـ الحُكْم عليها بمخالفة شرع الله في معاملة غير المسلمين، ونسي (أو لم يعلم) أن شرع الله هو ما وَفَق الله له دولة الدعوة إلى التوحيد والسنة ـ في رأي جمهور فقهاء الأمة منذ القرون المفضّلة ـ كما بيّنه النووي في شرحه لصحيح مسلم (باب كراهية الاستعانة في الغزو بالكافر إلا لحاجة)، وأطلق الحكم بالجواز ليشمل حال الهجوم فكيف بضرورة الدفاع عن الإسلام وأهله، عن دينهم من أوثان (العتبات المقدسة) بل المدنسة، وعن دنياهم من هتك الأعراض وسلب الأموال وسفك الدماء، وعن دينهم ودنياهم من أوثان صدّام الدين وحزبه وظلمه وجوره.

ز- وظن الألباني أن ابن باز (عفا الله عنا وعنهما) نقض فتواه: تحريم الانتماء للقومية العربية (حمية الجاهلية المنتنة) بفتواه في الاستعانة بالقوات الدولية (للضرورة)؛ لأن الألباني اعتمد هذه المرة على عاطفته ولم يعتمد على فقهه في الدين، فلم يتبيّن الفرق بين الانتماء للمنهج الجاهلي وبين الدفاع عن النفس والدين، ولم يتبيّن الفرق بين الولاء وبين المعاملة، ولم يبيتن الفرق بين الاختيار وبين الاضطرار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعامل المشركين واليهود والنصارى ولا يوالي إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وكان يستعين بمشركٍ في الغزو ولا يستعين بآخر حسب الحاجة والمصلحة وانتفائها، وقد ورد عنه أنه دخل في جوار المطعم بن عديّ (وهو مشرك) ليدفع عن نفسه ودينه أذى قريش، وائتمن عبدالله بن أريقط على أسرار هجرته من مكة إلى المدينة ليدفع عن نفسه ودينه مكر الكافرين به ليُثبتوه أو يقتلوه أو يُخرجوه، وزارع اليهود في خيبر وهم المحاربون الناقضون لكل عهودهم معه، وكان حلفاؤه من خزاعة ضمن جيش الفتح الأكبر وانتقم معهم من هوازن لما نقضوا العهد (ولم يكن كل الخزاعيّين ـ يومها ـ مسلمين).

ح- يظهر لي من قوله: (إما أن يكون المستعينون بالكفار من غير المسلمين أو أن يكون المستعان بهم من المسلمين) أنه وقع في تكفير من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، بل من يتميّز برفعهما راية لدولته في القرون الثلاثة الأخيرة، ومن يحكم بشرع الله على المذهب الحنبلي ـ كما ذكر ـ ومن يتميز على جميع دول المسلمين (منذ الفاطميّين) بمنع البناء على القبور ومنع زوايا التصوّف وما دونهما من البدع، ومن يقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الاعتقاد والعبادات وجُلّ المعاملات ـ كما اعترف هو له بذلك كله ـ؛ استثناء من نأيه عن التكفير لدرجة أن بعض الجهلة اتّهمه بالإرجاء، وما كان التكفير ولا الإرجاء من خُلُقه.

واستعانة المسلم بغير المسلم للحاجة لا تتجاوز الصغيرة عند من عدّها معصية خلافاً للجمهور، وهي للضرورة طاعة ومتابعةٌ للسنة، ولا يليق بالألباني أن يلتقط عدوى المرض الفكري والحركي فيصل به الحماس إلى قولٍ يُفهم منه التكفير فيستغله الخوارج المارقون.

ط- أيد الألباني عفا الله عنه دعواه بتحريم الاستعانة بغير المسلمين في فتنة العراق: بأن الحرب ستقتل كثيراً من المسلمين، وليت هناك طريقة للحرب لا تقتل إلا الظالم وحده، ولكن هيهات، وهو أولى من يَعرف بأن الجيش الذي يغزو الكعبة في أيام المهدي يُخسف بأوّلهم وآخرهم وفيهم النساء والذرية ومن ليس منهم ثم يُبعثون على نيّاتهم.

وهنا سؤال: مَنْ هم المسلمون؟ عصاة الموحدين أم القبوريين (سنة أو شيعة) أم النصارى أم الصابئة أم اليزيدية (وأكثرية جيش البعث العراقي الباغي منهم)؟

ي- انتقد الألباني ابنَ باز عفا الله عنا وعنهما باختلاف فتواه في مسألتين مختلفتين (ظنّها واحدة)؛ فوقع الألباني في تناقض فتواه في مسألة واحدة: أمره النسا بأن يكون أحلاس بيوتهم في هذه الفتنة ـ مثل غيرها ـ ثم مخالفة هذا الأمر الشرعي بالقول في الفتنة بغير علم بل الظن وما تهوى الأنفس.

ك- تشبّث عفا الله عنا وعنه: بمطالبة خمسين امرأة متحجبة بقيادة السيارة حتى لا تحتاج إلى سائق أجنبي عنها (لا يُؤمن غدره) دليلاً على صحة فهمه الواقع وتنبّؤه للمستقبل، وهذا الدليل متهافت كبقية دعواه، فالمطالبة بقيادة المرأة سيارتها سبقت الفتنة ببضع سنين وبعض المطالبين بها من خريجي كليات الشريعة، وإذا كان الألباني يرى جواز كشف المرأة وجهها وكفّيها ـ مثل سلفه في هذا الحكم ـ فكأنه سبق الفتنة إلى تزيين قيادة السيارة للمرأة، ولذلك رأى ولاة الأمر من الأمراء والعلماء:

1) إصدار قرار يمنع المرأة من قيادة السيارة، ولم يكن يمنعها إلا العُرف.

2) إصدار قرار يمنع تداول رسالة الألباني عن حجاب المرأة المسلمة.

وكما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (المفتي العام الأسبق) للشيخ عبد الله بن سلميان بن منيع عضو الإفتاء (منذ اللجنة الأولى للإفتاء) عن سبب حدّة إنكاره فتواه بجواز نحر الهدي في أي من أيام العشر: (ليس السبب تكذيب نقله أو دليله، بل إعلان مخالفته ما اتفق عليه علماء الأمة منذ قرون والبلبلة الناتجة عنها).

وأشهد أن رسالة الألباني أفسدت في أمر الحجاب الذي تميزت به المرأة السعودية ما لم يُفسده دخول وخروج القوات الدولية؛ فالمرأة المسلمة قد تتقرّب إلى الله بقبول رأي الألباني ولا يُعقل أن تتقرّب على الله بتقليد القوات الدولية (غير المسلمة غالباً)، وقد فتحتْ دعوة (قاسم أمين) المرأة للتخلي عن الحجاب في حدود الرخصة الشرعية (عند بعض الفقهاء والمحدثين)؛ فتحَتْ باباً من الشر والفتنة نرجو الله أن يغلقه؛ ولذلك رأى ولاة الأمر في دولة التوحيد والسنة الأخذ بالأحوط من آراء الفقهاء والمحدثين في هذا الأمر سدّاً للذريعة.

وقد يسأل عن سبب النشر الآن أحدٌ من أهل الحديث (وهم من يهمّني أمرُهم لما اصطفاهم الله له من منهاج النبوة في الدين والدعوة، دون الانتماء إلى فرد أو منهاج غير معصوم) وإليك الجواب مني، أما التوفيق فمطلوب من الله وحده:

1) أم كثيراً من الموافقين والمخالفين لمنهاجه ودعوته اتّكأ على رأي الشيخ الظني لغرض خاص به: حركيّو الجزائر وعلى رأسهم عباس مدني وعلي بن حاج للوصول إلى الحكم، متحزّبو الإخوان والجهاد للمزيد من التمويل، فكريّو دول الخليج (السعودية بخاصة) لشغل الفراغ الذي ظنوا أن الألباني مهّد له بإسقاط العدالة عن الأمراء والعلماء في خير دولة وخير بلد، بل المجرمون قادة وإعلاميّو حزب البعث العراقي للدّعاية لباطل احتلالهم.

2) أن بعض مقلّدي الألباني من تلاميذه لا يزالون يرون رأيه دون الرجوع إلى رأي من هو أفقَه منه من السابقين والمعاصرين مما لا يليق بهم.

3) ومع احترامي للألباني ودفاعي عنه ودعائي له وشكري لله على نعمته به وعليه فلا يجوز للسلفي معاملته كالمريد للشيخ الصوفي؛ فالحُجّة في روايته لا في رأيه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويردّ غير محمد صلى الله عليه وسلم فيُؤخذ أمره وتُتّبع سنته ولا يُردّ عليه لأنه الوحي من الله.

والحمد لله والثناء عليه أولاً وآخراً، نَصَر الله دول الخليج ومن والاهم وأيّدهم، وخذل أعداءهم ومن والاهم وأيّدهم، وحفظ الكويت وأهله وانتقم لهم من ظالميهم اللصوص سفّاكي الدماء، وحفظ ولاة المسلمين الموحّدين قدوة صالحة.

الرياض – 1426هـ.