القدس بين فتح عمر وفتح صلاح الدين

القدس بين فتح عمر وفتح صلاح الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

لا أحصي كم تردّد على سمعي وثَقُل على نفسي هذا الدعاء غير المأثور: (اللهم فتحاً كفتح صلاح الدّين) في آخر خطْبَة يوم الجمعة، وعجبت لماذا يشترط الخطباء على الله أن يكون فتح القدس القادم على منهاج صلاح الدّين رحمه الله لا على منهاج الخليفة الراشد المهدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن جاز الاشتراط.

كانت غاية الجهاد والفتح على منهاج عمر رضي الله عنه: «لتكون كلمة الله هي العليا»، و{حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال: 39].

أمّا الجهاد والفتح بعد القرون المفضّلة فحريٌّ أن يشوبه ـ في غالب أحواله وأحسنها ـ قصد التوسّع والكسب الدّنيوي من الأرض والمال، إن لم يكن الحقد أو التعصب القومي أو الانتصار لذات الفاتح كما يقول الرّواة عن فتح المعتصم ـ عفا الله عنه ـ (عمّوريّة) وهو المثل الأعلى الآخر للجهاديين اليوم.

وصلاح الدين -رحمه الله- وإن أخذ شيئاً من العلم على مثل أبي طاهر السِّلْفِي الصوفي! على نهج عصره: أشعري المعتقد شافعي المذهب إن لم يكن صوفي الطريقة ـ إنَّما كان عسكريًّا أكثر منه عالماً أو داعياً إلى الله على بصيرة، وقد نفع الله به في استعادة بيت المقدس من الصليبيّين ولكن لم تظهر له همَّة أو محاولة لإعادة المسلمين إلى الدّين الحقّ في البلاد التي حكمها حكماً مطلقاً قبل أو بعد موت آخر ولاة الفاطميين: العاضد الذي منحه الوزارة وعيّنه قائداً لجيشه ولقَّبه (الملك الناصر)، وقد وفى له صلاح الدين فلم يَصْرف عنه الدعاء في خطبة الجمعة (رمز الولاية المبتدع) إلى أحد بقايا العبّاسيين إلا في آخر مرض موته بعد أن فقد الإحاطة بما أحدثه صلاح الدّين رحمه الله، ولم يُظْهر صلاح الدين إنكاراً أو تغييراً لشيء من موبقات الفاطميّين وأشنعها وثنيّة المقامات والمشاهد والمزارات (وأشهرها وثن الحسين في القاهرة)، وقد بناه الفاطميّون قبل ربع قرن من دخول صلاح الدين في ولايتهم ثم وراثة ملكهم.

ولم يُظْهر صلاح الدين تجاوز الله عنَّا وعنه إنكاراً أو تغييراً لشيء من منكرات الفاطميّين بعد استقلاله بالولاية، إلا ما يفعله أيُّ صوفي أو قبوري أو مبتدع ممن ينتمي إلى السّنة: تغيير مذهب الدراسة في الأزهر إلى مذهب الشافعي رحمه الله في أحكام العبادات والمعاملات (ولا يزال اليوم كما تركه) وإسقاط جملة: (حي على خير العمل) من ألفاظ الأذان.

بل ذكر السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء، أن صلاح الدّين هو الذي بنى تربة [قبة/وثن] الشافعي في مصر، ويُذْكر عنه أنه هو الذي بنى ضريح [وثن] الرّاعي في فلسطين، ويَعْتَذِر له من يُحْسن الظنَّ به بأنه بناه مخبأ للسلاح أثناء قتال الصليبيين، ولكن هل يجوز أن يُقَاتَل الصليبيّون بوسيلةٍ وثنيّة؟

ويُذكر عنه أنه تجاوز الله عنّا وعنه أحدث بدعتي إضافة جملة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ألفاظ الأذان، وإضافة الابتهال قبل أذان الفجر ليلتي الاثنين والجمعة، ولم يُتَحْ لي التثبت من ذلك، ولكن إبقاءه وثن الحسين وغيره، وبناءه وثن الشافعي شرٌ منه.

إذن.. لماذا يختار الحزبيون والحركيّون والفكريّون الموصوفون بالإسلاميين مُثُلَهم العليا من بين من عُرف بالقتال والفتح دون الدعوة إلى الإسلام على

منهاج النبوة، مثل المعتصم وصلاح الدين تجاوز الله عنهما، ولا يختارونهم من بين الدّعاة المجاهدين، على منهاج النبوة مثل أبي بكر وعمر ثم ابن تيمية

وابن عبد الوهاب رضي الله عنهم جميعاً؟

لأنهم هداهم الله إنما يقتدون بالأقرب إلى مناهجهم المبْتَدعة التي تُقدِّم قتال الناس على دعوتهم إلى الله على بصيرة كما يقول المثل العامي: (مطوّع الحنشل منهم) أي: يؤم قُطَّاع الطرق أحدهم، ودعوى الجهاد الخيالي تجذب الناس والتبرعات أكثر من الدعوة إلى منهاج النبوة.

أمّا منهاج النبوة في معاملة المخالف (ولو كان كتابياً أو وثنياً) فإن أساسه: الدّعوة إلى إفراد الله بالعبادة وإلى السنة والنهي عن وثنية المقامات والمشاهد والمزارات وما دون ذلك من البدع {بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقد تدعو (أو لا تدعو) الحاجة في المرحلة الأخيرة (لا الأولى ولا الثانية ولا الثالثة) إلى القتال لدرء الفتنة عن الإسلام والمسلمين {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ} [البقرة: 193] لا للحقد ولا للحسد ولا للغضب، ولا لإظهار الشجاعة وتحصيل الشهادة المزعومة، ولا للحميّة الجاهليّة قوميّة عربية أو أعجمية أو ترابيّة.

ولقد بلغ أمر التعصب القومي العربي والتعلق بالوهم والخيال بكاتب أردني إلى ادّعاء أن صلاح الدين عربي (ولو جاء أهله من أذربيجان ولو كان أجداده من الأكراد)، بل بلغ أمر التعصب القومي الموصوف بالإسلامي ببعض الإسلاميين في الأردن إلى بناء صنمٍ لصلاح الدين (فوق صنم لِفَرَسه) في الكرك نكاية في النصارى، (مرَّة أخرى: محاربة أهل الكتاب بالوثنية في أبرز مظاهرها: الصّنم)، وقد وفق الله الملك حسين تجاوز الله عنه إلى قطع هذا الطريق من شرِّ طرق الشيطان؛ فأمر بهدم تمثال بُنِيَ له أمام مجلس الوزراء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ علياً رضي الله عنه أن لا يدع صورةً (أو تمثالاً) إلا طمسها (وأن لا يدع قبراً مُشْرفاً إلا سواه بالأرض؛ فأوصى رحمه الله بعدم البناء على قبره)؛ فسَنَّ في الإسلام سنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولولا أن الله وفقه لذلك، فلربما امتلأت الأردن بالتماثيل بسبب حماس الحركيّين الأهوج.. وقد نوه ابن باز رحمه الله بصنيع الملك (ضمن فتاواه (9/448)، ط: 3).

ودعوى أن صلاح الدّين عربي، إنما هي حلقة جديدة في سلسلة تباهي العرب اليوم بما ليس لهم وتكاثرهم بما لم يُعْطوا، وقولهم بما لم يفعلوا؛ كمثل دعوى بعضهم أنهم أسّسوا الأدب الإنكليزي لأن شكسبير عربي اسم الشيخ زبير، وأنهم أسّسوا الحضارة الغربية بفكر أمثال ابن سينا في الفلسفة والطب والبيروني في الفلسفة والرياضيات والخوارزمي في الرياضيات والفلك، وأنَّهم أسسوا فنّ الطيران بأسطورة عباس بن فرناس، وجُلُّ من تحقّق له إنجاز فكري أو فني أو مهني سواء بالترجمة عن فكر اليونانيين والهنود، أو بالإضافة إليه، فهم من نسل أعجمي وأرض أعجمية، وقد انصرفوا عن العلم الشرعي إلى هذا الفكر برغم انتمائهم إلى الإسلام وليس بسببه، بل لضعف التزامهم بمنهاج النبوة في الدّين الحق والدعوة إليه.

وقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بلسان قومه ليتفقّهوا في الدين وليدعوا إليه على بصيرة، والانصراف إلى الفكر (إسلاميّاً أو يونانيّاً أو هنديّاً) يشغل عن هذه الغاية الربانية العظيمة ويقطع الطريق عليها ويعوق عنها، ولذلك لم يعرفه ولم يسع إلى معرفته خيار المسلمين وقدوتهم في القرون الخيرة يوم كانوا هم القادة وهم السّادة في أرض العرب والعجم، بل كان أكبر همّهم العلم بشرع الله والعمل به وتبليغه، فاستخلفهم الله في الأرض بعد أن فتحوها على نهج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لا على نهج المعتصم وصلاح الدين تجاوز الله عنهما، ولا على نهج الفتوحات العثمانية باسم الإسلام وأعمال الشرك والابتداع والتّعصب القومي الجاهلي والظلم الدّيني والدّنيوي.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، ولعلّ الله أن يهدينا جميعاً لأقرب من هذا رشداً.

(1427هـ).