أيرلندا تضرب مثلًا

أيرلندا تضرب مثلًا

بسم الله الرحمن الرحيم

في بداية العقد السابع من القرن العشرين كان اقتصاد أيرلندا يحتضر، وكان أمام الأيرلنديين في سن العمل طريقان: ركوب السفينة إلى انكلترا، أو ركوب الطائرة إلى امريكا، حيث يوجد السابقون من المهاجرين الآيرلنديين.
يقول (كفن ولن) مدير جامعة نوتردام ـ مركز دبلن: كان الشعور العام أنه لم يبق لآيرلندا إلا أن تطفئ المصابيح وتغلق الأبواب ثم الرحيل، فقد توقفت البلاد عن الحركة. وهذا ما كان يحدث تقريبًا؛ فقد هاجر أكثر من خمس السكان في العقد الثامن وحده، وتركوا آيرلندا في ركودها الاقتصادي والإضرابات والتضخم؛ بل في هاوية اليأس من الإصلاح.
وبعد مرور عشر سنوات، صارت آيرلندا مركزًا عالميًا للصناعة الخفيفة ذات التقنية العالية، واليوم يقدر معدل نموها الاقتصادي بـ 7.25% أعلى من جميع معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا، ومن أسرع معدلات النمو الاقتصادي ارتفاعًا في العالم، وانخفض معدل التضخم إلى 2%، وتدنى معدل البطالة إلى أدنى حد وصله منذ عشرين سنة، وارتفع مستوى المعيشة في آيرلندا إلى مماثلة إنكلترا جارتها (العظمى) وحاكمتها القديمة، وصارت الثانية في العالم بعد أمريكا في تصدير برامج الكمبيوتر وحدها، واختارتها مئات الشركات الأمريكية مركزًا لها في أوروبا.
وأهم نتيجة إنسانية، ودليل عملي على التحول إلى الأفضل: عودة عشرات الألوف من المهاجرين الآيرلنديين إلى ديارهم وأهلهم حيث يمكن لهم الجمع بين النجاح المادي والروابط العائلية الآيرلندية المشهورة بالمرح وحب الحياة والبعد عن تعقيد التقاليد.
ولكن، كيف تحولت آيرلندا ـ في سنوات قليلة ـ من الركود الاقتصادي إلى النمو، ومن الفشل إلى النجاح، ومن هجرة الأموال والأنفس والعقول منها إلى العودة إليها؟
كان وصول آيرلندا إلى هوة الأزمة الاقتصادية التي لا يظهر لها قرار، نقمة، ولكن النقمة دائمًا تخفي نعمة لا يراها إلا من يبحث عنها ويسعى إليها ويجرؤ على استغلالها رغم العقبات التي جلبت النقمة.
لم يحتج الإصلاح إلى (سوبر مان) ولا إلى خبرة أو مهارة مستوردة في الإدارة والاقتصاد، ولا إلى انتظار معجزة أو كرامة أو خارق عادة، بل إلى:
1-إداراك الرعاة والرعية أن الأزمة وصلت إلى حد لا يجوز إهماله.
2-جرأة الإدارات الحكومية على إحداث التغيير على حساب المصالح الفردية.
3-تحمل الأمة ـ على كل مستوى ـ صعوبات التغير دون اللجوء إلى جنون المظاهرات والإضرابات باسم الديمقراطية وحرية التعبير.
4-خفض مستوى الإنفاق العام بتخلي الدولة عن التدليل الشعبي في النواحي الجمالية والفنية والرياضية والاجتماعية ونحوها.
5-إلغاء أربعين ألف وظيفة حكومية لا ضرورة لها (عدد السكان 4 ملايين)، وإنما وجدت لخدمة الموظف وإعاشته ولو على حساب الأداء الوظيفي.
6-إلغاء البدلات والإضافات على الرواتب.
7-خفض عدد الوزارات وتعويضها بالإدارات والمؤسسات عند الحاجة.
8-تخلي الدولة عن كل خدمة لا تعم ـ ولا يضطر إليها ـ كل أفراد الأمة، وتركها لنظرية العرض والطلب والاستثمار الخاص.
9-التركيز في التعليم ـ بعد العام ـ على المواد المهنية والتطبيقية ـ والصناعية بخاصة ـ أما المواد النظرية فقد وفرتها وسائل الإعلام والاتصالات والنشر بطريقة أكثر جاذبية وبأقل جهد ومال.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه ومتبعي سنته.