ثقافة الجريدة تزاحم العلم الشرعي
ثقافة الجريدة تزاحم العلم الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
أ – رويت مرّة عن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أنّه كان مُنْصَرِفاً يوماً للبحث العلميّ في جامعة أم القرى بمكّة المباركة، وأحد زملائه من أساتذة الجامعة منصرف لقراءة الجرايد المحليّة، وبعد أن انتهى الشيخ عليّ من بحثه العلمي سأل زميله عمّا وَجَد في جرايده فأجابه: (تَعْرِف الجرايد؛ لا شيء فيها)، وعَجِبَ الشيخ من سوء اختيار أستاذٍ مسلم يتخذه طلابه في الدّراسة العليا قدوة، ثم هو يضيّع نعمة الله عليه بالوقت والعلم والوظيفة في دولة التّوحيد والسّنّة في قراءة ما يَعْرِف أنه لا خير فيه (محتوى ولا لغة ولا عاقبة)، وليت ولاة الأمر يقضون على الرّوتين غير الموفّق بتقديم الجرايد للموظّفين أثناء العمل، فلم تَعُد الجرايد في حاجة إلى الإعانة، وحق الله وحقّ الدّولة أولى.
ب – وليت سوء الجرايد يتوقف عند الوصف المتّفق عليه: (لا شيء فيها) لكفانا عَنْ خيرها كفُّ شرّها، ولكن شرورها يعجز عنها الحصر، وأراها مطيّة للشيطان، وأنّه لن يَعْلق بها من الخير إلاّ بقدر ما عَلِقَ بِمُرْ تَحلها (الشيطان) في مثل: حَلِفه بعزّة الله، واعترافه لله بقضائه الحياة والموت والبعث والخلق، وخَبَره لأبي هريرة رضي الله عنه أنّ قراءة آية الكرسي عند النّوم تُبْعِد الشيطان عنه.
ومن شرّورها: التّركيز على أخبار الشّرّ كالشيطان {يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء}، وعدم التثبّت في نقل الخبر، وقد أمر الله عباده المؤمنين بالتّثبّت: {يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا}، وعدم ردّ الأمر قبل نشره إلى كتاب الله وسنّة رسوله وأولي الأمر من العلماء والأمراء وقد أمر الله عباده {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} بردّ الأمر إلى شرع الله وإلى أولي الأمر قبل إشاعته: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، بل الجريدة قدوة سيّئة للمواطن الكسول الذي يطالب برزقه دون سعي منه، فلا يتحرّك من الجَرِيْدِيّ إلاّ لسانه وقلمه، و(عقله وربما دينه في أذنيه)، يَصْدُق فيه المثل الشعبي: (افتحْ فمك يرزقك الله)، ورواية الأصمعي عن كسول يتمنى الزواج دون بذل السبب غير:
لعلّ الله أن يــــأتــــي بلَيْلَى***فيطرحها ويلقيني عليها
ويأتي بعد ذاك سحاب مُزْنٍ***يُطَهِّرنا ولا نسْعى إليها
وهذه الصّحافة الجاهلة الكسولة (مثل تابعها الإمّعة الجاهل الكسول) تقود الأمّة إلى الجهل والكسل وإلى المظاهرات والاضرابات والفتن، وإِلْفَ الجريمة والفاحشة والبدعة.
كفى الله الاسلام والمسلمين شرّها وشرّ النّاعقين بفكرها.
واليوم زاد سوء الجرايد الجاهلة بشرع الله لاستغلالها مطالبة المؤسّسات الدّوليّة بحرّية التّعبير؛ فتجرّأت على القول على الله وعلى شرعه بغير علم، وقد قال الله تعالى: {قل إنّما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حقّ وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، بل صارت شوكةً في حَلْق العالم العامل القائم بالحقّ والعدل، والجرايد آخر من يجوز إطلاق الحريّة لها شرعاً أو عقلاً.
ج – ومن أهم ما أفسدته الجرايد من مميّزات هذه الأمّة لُغَتُها (التي اختارها الله لوحيه في كتابه وسنّة رسوله والفقه في دينه) معنىً ولفظاً ورسماً وأسلوباً، إضافة إلى سعيها الحثيث (بجهلها ولا أقول بِسُوْء قصدها) إلى هدم الأُسُس والقواعد التي قامت عليها دولة التّوحيد والسّنّة في الدّين ثمّ الدّنيا باسم (حماية الآثار الدّينيّة وتفعيل دَوْرِ المرأة).
وهذه الكلمات الأخيرة (وإن كانت أسوأ ما شاقّت الجريدة به لُغَةَ القرآن والسّنّة والفقه في الدّين) لهن أخوات لا يُحْصيهنّ إلا الله كفى الله الاسلام والمسلمين شرّهنّ وشرّ أهلهن.
ومن المحاولات النّادرة لمقاومة هذا الفساد اللغوي ما كتبه الأستاذ د.محمد المفدّى الأستاذ في الجامعة جزاه الله خيراً في كتابه عن أخطاء الجرايد اللغويّة، وذكر في مقدمته أنّه ظنّ أنّه في حاجة إلى أعداد كثيرة من عددٍ من الجرايد ليستكمل بحثه، ولكنّه ملأ كتابه بتصحيح أخطاء عددٍ واحدٍ من جريدة واحدة، فكيف به لو حاول تصحيح أخطائها اللغويّة بميزان لغة الوحي والفقه؟ وكيف به لو حاول مكافحة تعدِّيها على شرع الله وعلى العلم والعلماء بشرعه؟ وكيف به لو حاول (ومعه كلّ اللّغويّين والعلماء القاعدين عن الإصلاح) حَصْر أخطاء كلّ الجرايد في عام كامل أو شهر واحد أو أسبوع واحد أو يوم واحد؟ ولعلَّ هذه الإشارة كافية لإيقاظ من تكفيه الإشارة من اللّغويّين والعلماء للإهتمام بمستقبل اللغة العربيّة في جزيرة العرب، ولعلّ هذه الاشارة كافية لبيان جناية الجرايد على لغة القرآن والسّنّة والفقه، وعلى دين الاسلام الذي قضى الله بأن تكون هذه الدّولة هي القائمة به والمسئولة قبل غيرها عن المحافظة عليه منذ منتصف القرن الثاني عشر من الهجرة، وفي غياب وازع القرآن لم يبق إلاّ وازع السّلطان، سلّطه الله على مقترفي الباطل ودعاته.
د – وقد حاولتُ منذ عشرات السّنين إقناع بعض ولاة الأمر (وعلى رأسِهم الشيخ ابن باز رحمه الله، ووزير المعارف ووزير الشؤون الاسلاميّة والمختصّون في تعليم اللغة العربيّة وفقهم الله) بفرض تعليم لغة القرآن والسّنّة في جميع مراحل التّعليم فهي الأصحّ والأوضح والأثبت، وهي التي تعين المسلم على فهم أحكام شرع الله وصحّة العمل به وتبليغه (وهو سبب وجوده)، كما قال الله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون}، بل تعين المسلم إلى صحيح تلاوة كلام ربّه.
وخاطبت عدداً من اللغويّين لعلّهم يحتسبون الأجر فيَهُبُّ كلٌّ منهم بحسب وظيفته وتخصّصه ووسعه ليخدم دينه وأمّته بالدّفاع عن لغته.
وخاطبت عدداً من المؤسّسات العامّة المختصّة لإنشاء مركز لتصحيح اللغة (بالعودة بها إلى الأصل الذي أنزل الله به وحيه على قلب نبيّه صلى الله عليه وسلّم) أو على الأقل تخصيص هاتف مجّاني يلجأ إليه المسلم لتصحيح لغته، كما يتطوّع بذلك غير المسلم لتصحيح لغته.
هـ – وكتبت عدّة مقالات(1) لتصحيح بعض المصطلحات والأمثلة مثل:
1) (وامعتصماه) وهي دعوى جاهليّة لو صحّت أكثر رواياتها، وتردّدت في خطب الجمعة (العبادة المفروضة) فضلاً عن الأشعار والقصص، وفحوى الأسطورة العربيّة أن المعتصم (الذي ابْتَلى الفقهاء الموحِّدين وأبرزهم الامام أحمد بن حنبل – بعد أخيه ثم ابنه – فقتلوا منهم وسجنوا وجلدوا المؤمنين ليفتنوهم في دينهم)؛ استغاثت مُسْلِمَة في بلاد الرّوم به (فأَشْرَكَتْ بدعائها الغائب من دون الله)، فحرّكته النّخْوَةُ الجاهليّةُ لِحَرْبِ الرّوم، تجاوز الله عن كلّ مسلم، واستمرّت الفتنة (14) عاماً وشرّ ولاتها: المعتصم تجاوز الله عنه.
2) (الفكر الإسلامي) ولم يَرِد هذا في القرآن ولا في السّنّة ولا في الفقه الأوّل ولا الأخير، وإنّما انتشر عندما ترأس الجهّال الفِرَق والجماعات والأحزاب، وزين لهم الشيطان والهوى وضع مناهج مُحْدَثة تخالف ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه في الدّين أو الدّعوة إليه، وحذّر منه الشيخ ابن عثيمين والشيخ د.صالح الفوزان والشيخ د.بكر أبو زيد.
3) (المِلْكيّة الفكرية) وهذا تناقض، فالفكر لا يُمْلك وإنما يملك المحسوس (عدا ما اسْتُثْنِيَ في شرع الله كالماء والكلأ والنّار)، وحِفْظ مِلْكِيّةٍ للفِكْر حُكْم بغير ما أنزل الله، بل بالقانون الأوروبي.
4) (لا مشاحّة في الاصطلاح) هذا قول لا يُعْرَف قائله ولا يصحّ، وإذا كان معنى المشاحّة: المجادلة، فقد شرع الله المجادلة بالحسنى في أمر الدّين.
5) (الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز)، وخلفاء النّبوّة أربعة باتّفاق علماء المسلمين أخذاً بالحديث: «الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون مُلْكاً» فآخرهم عليٌّ رضي الله عنهم، ولو جاز إضافة خامس لكان معاوية رضي الله عنه الذي اجتمعت عليه الأمّة ولم تجتمع على صحابيّ بعده، إضافة إلى كتابته الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وروايته عنه وتأمير الخلفاء الثلاثة له.
6) (تواتر القراءات، وإلحاق ما يسمّى قواعد التجويد بها) ووكّد لي الأرناؤوط: عبد القادر، وشعيب أو الألباني (أنّه لا يوجد قراءة متواترة)، أمّا قواعد التجويد فهي محدثة وأكثر ما يسمّى أحكام التجويد لا دليل عليه من الكتاب ولا من السّنّة كما وكّد ذلك ابن عثيمين رحمه الله في كتابه العلم ص171 وعزاه إلى شيخه ابن سعدي وكرّر فتواه بذلك مراراً في (نور على الدّرب) وقال بمثل ذلك ابن باز رحمه، وعندي نسخة فتواه موقّعة بختمه، وحذّر ابن تيمية رحمه الله من الإنشغال بذلك ومثله عن التدبّر والعمل، وكلّ هذا مثبت على موقع باسمي في الأنترنت، وقد حفظ الله كتابه بجمع النّاس على قراءة واحدة ورسم واحد (في عهد عثمان رضي الله عنه) إلاّ ما يحتمله الرّسم العثماني قبل النّقْط ثمّ الشّكْل (مثل: يقولون أو تقولون ويفعلون أو تفعلون).
7) (الرّوحي، بمعنى الدّيني) وإنّما هو مُتَرْجَمٌ عن الانكليزية وعن استعمال المتديّنين بالنّصرانيّة وفَصْلهم الرّوح عن الجسد في الدّين، وهي بدعة في دين الله الذي يَحْكُم الرّوح والجسد معاً، وذكرها بكر أبوزيد في معجم مناهيه.
8) تفسير: {وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم} بقَصْر الخُلُق على المعاملة، وهو يشمل معها الأهمّ منها: الاعتقاد والعبادة، أي: الدّين كاملاً كما في قول الله تعالى: {إن هذا إلاّ خُلُق الأوّلين} وقول عائشة رضي الله عنها: (كان خُلُقُه القرآن).
9) مَدْح النّبي صلى الله عليه وسلّم بمثل: (صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر) غير ما اختار الله له وغير ما اختار النبي صلى الله عليه وسلّم لنفسه بأمر ربّه، بل هو ما اختاره المتصوّفة الجهلة المبتدعة في الموالد: (خدّه أحمر مُوَرَّد، ريقه سكّر مكرّر، بطنه طيّ الحرير، حين يشتدّ الزّفير، خدّه التّفّاح شامي)، وأعظم ما يُمْدح به العبوديّة والرّسالة صلوات الله وسلامه عليه.
10) (بيننا وبينهم الجنائز) يُرْوى مثل هذا عن الامام أحمد بمعنى أن الفصل بينه وبين أعدائه المبتدعة كثرة المشيّعين أو قلّتهم، وهذا حريٌّ ألاّ يصحّ عنه رحمه الله، فالفصل بين المتنازعين كتاب الله وسنّة رسوله، وإلاّ لكان الخميني وجمال عبد النّاصر هما الأَحَقّ بالفضل.
11) (طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلاّ أن يكون العلم له) وهذا حريٌّ ألاّ يصحّ عَمَّن رُوِيَ عنه؛ فالعلم بشرع الله عبادة، والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله وإلاّ كان شركاً يُحْبِطُ العمل: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك}، ويصحّ هذا القول لو خُتِمَ بمثل: (فطلبنا العلم لله).
12) (جوارح حفظناها في الصِّغَر فحفظها الله في الكِبَر)، ومقدِّمة هذا القول مخالفة لأمر الله تعالى: {فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتّقى}، وقد يعطي الله صحّة الجوارح وسلامتها مع طول العمر لأكفر خلقه: {كلاًّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظوراً}.
هذه بعض أقوال تنسب للعالمين أو الجاهلين مما أضربه مثلاً لثقافة الجريدة (وبقيّة وسائل الإعلام)، أي: (سمعت النّاس يقولون شيئاً فقلته) دون رجوع إلى الوحي ولا تمحيص بالعقل، ترديد ببّغائي.
وحتّى يأذن الله لولاة الأمر بإعادة الرّقابة على الصّحف فلعلّ من المناسب أن يُكْتَبَ على صفحاتها تحذير (مماثل لما يكتب على علب الدّخان وهو أخفّ ضرراً): باحتمال ضررها للدّين والدّنيا والعقل والحكمة، هدى الله الجميع لأقرب من هذا رشدا.
(1) مقال: مصطلحات للمسلمين وفيها نظر
مقال: القول على الله بغير علم
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه، تعاوناً على البر والتقوى وتحذيراً من الإثم والعدوان.
1432هـ