الكرم صار ادعاءً عند العرب وحقيقة في الغرب
الكرم صار ادِّعاءً عند العرب وحقيقة في الغرب
بسم الله الرحمن الرحيم
اختار الله لي فاخترت لنفسي محاولة قول الحق ولو على نفسي أو أهلي أو قومي حتى لامَني مرة أخي الشيخ عبد الله المعتاز مؤسس إدارة المساجد على كثرة اعترافي العلني بنقائصي، خشية منه أن أقع في الكفر بنعمة الله تعالى عليّ وهي لا تُحْصى رغم نقصي وقلة حيلتي وتقصيري.
وفي المقابل ـ بل في الاتجاه نفسه ـ لم أتوقف عن مخالفة الكثرة من قومي ومن أهل ديني إذا تبيّنت مخالفتهم للحق مستهديًا بقول الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّه} [الأنعام: 116]، وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ومثلها كثير:
أ) تبيّن لي أنَّ الكثرة منا تتبع الفكر (الموصوف زورًا بالإسلامي) والظن والعاطفة؛ واخترت اتباع الهدى من الكتاب والسنة بفهم أئمة القرون المفضلة المعتد بهم استجابة لهدى الله في كتابه قال الله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36]، وقال الله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
ب) وتبين لي أن الكثرة منا تنشغل بالمهم عن الأهم في الدين: بحفظ القرآن عن تدبره، وبنوافل الليل في رمضان عن فريضة الفجر، بل بنوافل العبادة في رمضان عن النوافل في بقيّة العام، وبالنّهي عن الصغائر عن النهي عن الكبائر؛ فاخترتُ العكس استجابة لهدى الله في كتابه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم: ” لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقُرابها مغفرة“، من الحديث القدسي، ” حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقُّ العباد على الله أن لا يُعذب من لا يشرك به شيئًا“ من صحيحي البخاري ومسلم؛ وانشغلتُ بالأهم (الذي لا يكاد أكثر الدعاة يعرفونه أو يهتمون به) أكثر من المهم أو غير المهم الذي يُفْرِطون فيه.
جـ) وتبيّن لي أن الكثرة منا ـ بنزغٍ من الشيطان ـ تُغلِّب التشاؤم على التفاؤل وتغلب تذكّر جوانب الشر على تذكّر جوانب الخير في الحياة (حاضرها ومستقبلها) كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، والنتيجة: شَغْل ألسنتهم بالشكوى عن الشكر، وإغراق أفئدتهم بالأسى والشقاء وسوء الظن عوضًا عن الفرح بنعم الله التي لا تحصى؛ فاخترت حُسْن الظن بالله وبقَدره، وركّزت نظري على جوانب الخير من الحياة فسَعِدت بما اختار الله لي.
د) وتبين لي أن الكثرة منا تعلمتْ من الصحافة الجاهلة انتقاء ونشر أخبار الشر من أفسق مصادرها الظنية، والانشغال بدعوى إصلاح الغير عن إصلاح النفس، ولا أجد هذا بعيدًا من أن يحق عليه قولُ الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} [النور: 19]، وهي لا تتحرى إشاعة خبر الفاحشة وحدها في بلاد التوحيد والسنة بل تضم إليها مختلف معاصي الشبهات والشهوات، وقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44]؛ فاخترت تجنب قبول ـ فضلًا عن نشر ـ أخبار وسائل الإعلام إذْ ينافي ذلك أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتثبت قبل قبول الخبر أو نقله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وقوله: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. ولا أستثني من وسائل الإعلام أكثر الموصوف منها بالإسلامية.
هـ) وعنوان هذا المقال مَثلٌ آخر لانتقائنا وتلقينا ونشرنا خبر الشر وإعراضنا عن خبر الخير عن الغير من جهة، وادعائنا ومَدْحنا أنفسنا بما لا نفعل مخالفة لشرع الله قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8]، {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]، وإليك تفصيل البيان بقدر الإمكان والمكان:
1- الكرم من أهم صفات الخير التي ندَّعي تميُّز العرب بها عن العجم، ولدينا شواهد نادرة على ما في هذا الادعاء من حق من الجاهليين: حاتم الطائي من بلاد نجد (بصرف النظر عما ألحق التاريخ والأدب العربي بسيرته من مبالغات) ومن الملوك: الملك سعود ابن عبد العزيز آل سعود أول ملوك آل سعود الذين أدركْتُهم بعد تجاوزي مرحلة الطفولة (رحمهم الله جميعًا)، ورأيت بأم عيني كرمه بالخُلُق والمال والوقت، وأعرفُ كهلًا ضعفت ذاكرته عن تذكّر أسماء أولاده فإذا قيل له: (أبو خيرين) تذكر اسم أحدهم (سعود)، وهو لقب خاص بالملك سعود، وميّزه الله على حاتم الطائي بإفراد الله بعبادته، وعندما زار جامعة عليكره بالهند غطّتْ دولتها جميع التماثيل والنصب والأصنام في طريقه للجامعة، وميزه الله على حاتم الطائي بخدمته للإسلام ـ عالميًا ـ بتأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة في قصره الخاص به، وخدمة العلم الشرعي ـ عالميًا ـ بجمع وطبع فتاوى الإمام ابن تيمية لأول مرة في التاريخ، وخدمة الإسلام في جزيرة العرب بتأسيس (كليتي الشريعة واللغة الأولى والثانية من جامعة الإمام محمد بن سعود فيما بعد)، ومن كرمه بالمال أنه يزور (ولا ينتظر الزيارة مثل حاتم) يزور مدينة مثل تيماء فلا يغادرها وفيها رجل أو امرأة أو طفل لم ينل جائزته، وأعلمُ من كرمه بنفسه ووقت راحته أنَّ أحد مواطني شقراء رحل إليه يطلب إعانةً لعلاج شلل ابنه، فلم يصل إلى قصره إلا بعد أن أوى إلى فراشه في الثلث الأول من الليل، ولم يكن للمواطن مكان يأوي إليه في الرياض، فلم يكن الناس يومها عرفوا الفنادق، ولما أُبْلغ الملك سعود رحمه الله بقدومه خرج إليه بثياب النوم وأخرج له من جيبه خمسة آلاف ريال (تساوي اليوم خمسين ألفًا على الأقل)، وممن عرفت من نوادر كِرَام العرب حقًا من العلماء العاملين الدعاة إلى الله على بصيرة: الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ كان ابن باز يسع الناس بصبره وحلمه وكرمه وعلمه (من يوافقه منهم ومن يخالفه)، وكانت يده مثل يد الملك سعود (مخروقة كما يقول المثل المحلّي) وكان ـ مثله ـ يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وقد فَوَّض أخي إبراهيم رحمه الله في ذلك بلا حساب.
وكتبت من قبل عن تميّز آل الجميح بإيصال المياه إلى كل بيت في شقراء، وأبا حسين بإيصال المياه إلى كل مسجد في أشيقر، وابن سليمان بتزويد بعض آبار عنيزة بالمضخّات ليسهل على الناس الحصول على مياه الشرب والطهارة والنظافة (رحمهم الله وأثابهم جميعاً) وغير ذلك من أنواع الكرم والإحسان، وتميّز آل الجميح أثابهم الله بكفالة نَحْو(200) من الدعاة إلى الله على منهاج النبوة حتى اليوم منذ (20) سنة ولا عبرة بالدعوة والدعاة على المناهج المحدثة.
2- ولكن من نَصِمُهم بالمادية والبُعْد عن العدل والكرم والإحسان من نصارى الغَرْب يُقدمون أمثلةً نادرة للكرم والإحسان لا يعرفها عرب العصر، ولا يصلون إليها بل ولا يبحثون عنها ولا يتناقلونها جريًا على عادتهم الانشغال بأخبار الشر عن حكامهم وغيرهم، واحتكار دعوى الكرم لأنفسهم، مع أنَّهم بلغوا مبلغًا من الشح يليق به أن يُضرب به المثل، وليكون القارئ على بيِّنَة في متناول يده وبصره فليجرّب إيقاف سيارته إلى جدار أخيه في الإسلام والعروبة (ولو لم يكن له ظل، ولو لم يمنع أهله من الاستفادة منه بأي حال) فضلًا عن طلب عونه أو ماله أو طعامه.
3- تبرَّع (أندروكارنيجي) من عام 1902م إلى عام 1919م بما يعادل سبعة آلاف مليون دولار.
4- تبرَّع (جون ركفلر الأب) من عام 1889م إلى 1937م بما يعادل سبعة آلاف مليون دولار.
5- تبرع (جون ركفلر الابن) من عام 1927م إلى 1960م بما يعادل خمسة آلاف وخمسمائة مليون دولار.
6- تبرع (بِلْ كيتز) في خمسة أعوام ماضية بعشرة آلاف مليون دولار، ويقوم مع زوجته على مؤسسة للإحسان بثلاثين ألف مليون دولار، وأعلن التقاعد ليتفرغ لمحاولة القضاء على الملاريا والسل والإيدز في قارتي أفريقيا والهند، وتطوير المكتبات والمدارس الثانوية في أمريكا، (لاشيء يذكر لمجلس الكنائس العالمي كما يدعي الحركيون والحزبيون الإسلاميون عذرًا للحصول على فوائد البنوك العالمية وزيادة التبرعات لمؤسسات الإغاثة الإسلامية في مجلس دول التعاون الخليجي التي تصب في خزائن أحزابهم، هداهم الله وكفى الإسلام والمسلمين شرورهم وفتنهم).
7- قبل أيام أعلن (وَرنْ بَفِتْ) التبرع بخمسة وثمانين في المئة من ثروته (تقدر 85% اليوم بسبعة وثلاثين ألف مليون دولار أمريكي) ويترك لورثته 15% الباقية توفر لهم مستوى من العيش لا يغريهم بترك العمل، وأكثر تبرعاته ضمن مؤسسة (كيتز) للإحسان وتُصْرف في مصارفها لمكافحة الأمراض وللتعليم.
و) وللكرم بالنَّفس والجهد والوقت (والمال) في الغرب أمثلة لا تحصى أختار للقارئ منها نماذج مختلفة تيسَّر لي الاطلاع عليها على قلة اطلاعي:
1- أصيبت فتاة أمريكية ليلة زواجها في حادث مروري بالشلل، فانتظرها زوج المستقبل سبع سنوات حتى تمكنت من المشي متكئة على أبويها لإتمام إجراءات الزواج بعد أن فقدت أهم مزاياها في الحركة والنطق والشكل.
2- داوم متبرع مجهول على إعانة مطبخ للفقراء في نيويورك، ولما بلغت تبرعاته (15) مليون دولار، حقق صحفيٌ الأمر حتى عرف اسم المتبرعة ونشره في صحيفته؛ فخيّرته بين تكذيب الخبر أو المحاكمة، فاضطر إلى تكذيب نفسه احترامًا لها وخوفًا منها.
3- طالبَ طفل (11سنة) مدْرَسته بالإذن له بتقديم فائض الطعام للمحتاجين فاعتذرتْ بتعقيد الأنظمة خشية التسمم، فرفع شكواه للإدارة التعليمية في المنطقة، وبعد عدة محاولات وافقت إدارة الصحة على تخفيف الإجراءات ـ في مقابل إلحاحه ـ عدا شرط التعليب الصحي، وأجاب مصنع لتعليب الطعام طلبه فزوده بكمية كبيرة من علب الطعام، ولما بلغ (16سنة) كان قد تم له توزيع (375.000) وجبة غذائية؛ فرشحته مدرسته للتكريم في البيت الأبيض، وبعد أن وضعت زوجة الرئيس الأمريكي (كلينتون) المدالية على قميصه سألها عن أهم ما يشغل باله: (ماذا تفعلون بفائض الطعام في البيت الأبيض؟).
4- خرج مواطنٌ أمريكي في يوم إجازته لصيد السمك فوجد من سبقه إلى فُرْضة الصيد، وبعد فترة قصيرة من التعارف تبين أن أحدهما يأخذ راتبًا من (الضمان الاجتماعي) لحاجته يوميًا إلى (غسيل) لعطل كليتيه عن أداء وظيفتهما، وتلاقيا بعد يومين أو ثلاثة وقد وصل الآخر إلى قرار منح إحدى كليتيه لمواطن لا يكاد يعرفه، لماذا؟ خشي ألا يجد في مستقبل حياته ما يقدمه للغير خيرًا من ذلك.
5- عَرفتْ مقدمة برنامج تلفزيوني في (شيكاكو) عن عاملة متميزة بحسن الخلق يقصد الناس محل الوجبات السريعة الذي تعمل فيه من أجل حُسْن خُلُقها، وعرفت أنها ـ براتبها الضئيل ـ تسكن في شقة صغيرة (3 غرف وحمام ومطبخ) وقد اضطرت لكفالة ستة أطفال لبعض أقاربها (مع أطفالها الثلاثة) إنقاذًا لهم من الحياة في الملجأ؛ فأهدتها بيتًا كامل التأثيث يتسع لحاجتها وكرمها وخلقها.. أيهما أكثر كرمًا؟.
ومقدمة البرنامج التلفزيوني هذه تقوم على مؤسسة للإحسان، وتقدر تبرعاتها في خمس سنوات مضت بمئتين وخمسة وسبعين مليون دولار أمريكي، ومن أمثلة تبرعاتها: تقديم الملابس والأدوات المدرسية لجميع الأطفال في منطقة فقيرة في جنوب أفريقيا، وبناء بيوت لعدد ممن فقدوا بيوتهم في إعصار كترينا، وإهداء كل حضور إحدى حلقات برنامجها نوعًا من كل ما تحبه لنفسها من الكسوة والطعام، وفي حلقة أخرى أهدت سيارة لكل من حضر الحلقة بما لا تقل قيمته عن خمسة ملايين دولار.
6- (تايكَرْوُد) أول زنجي يشتهر في لعبة الكولف، ابتكر مدرسة للنشاط الإضافي توفر جميع أنواع الآلات والأدوات والتجارب والتدريب للأطفال (وبخاصة المحتاجين) كلَّفه إنشاؤها وتجهيزها خمسة ملايين دولار في ولاية كلفورنيا، ويرغب في إنشاء مثلها في كل الولايات الأمريكية ثم في المناطق الأكثر حاجةً في العالم، لماذا؟ لأنه حُرِم منها في صغره، ولحفظ طلابها من شرور الأسواق بعد الدّراسة، وليقدم لهم نوعًا حرًّا ومسلّيًا ومفيدًا من الفكر والعمل يشغلهم عن مغريات الشر.
7- أحد القائمين على مؤسسة ناجحة للتسوق والتسويق بالأنترنت أهمَّه أمر الفقراء المضطرين للعمل فيما سمَّاه جمال عبد الناصر بالإقطاع الزراعي بما يشبه الرق المنتشر في الهند؛ فعمل حتى الآن على كفالة أكثر من سبعين ألف فرد بما يغنيهم عن الرِّق العملي المزعوم.
8- موسيقيٌ لم يتوفر عنده من المال ما يتبرع به فوظف مهارته الوحيدة في محاولة تخفيف أثر الأسى عن قلوب ووجوه (60) من الأطفال المرضى الذين لا يُرجى بُرْؤهم، يزور الطفل ويعرف أحب أسمائه وألقابه إليه وأحب الألعاب والحيوانات وأنواع الطعام والشراب والناس إليه، ويغيب عنه يومين أو ثلاثة فيؤلف أغنية باسمه تذكّره بكل ما أحب في دنياه ويسجل ذكرياته الطيبة في حياته القصيرة، ثم يلحنها ويغنيها ويفاجئه بها مسجلة، ثم يودّعه متمنيًا له الشفاء بعد أن يغنيها أمامه على آلته الموسيقية.
9- شابّ مات في سيارته بسبب شاب آخر لم يستجب لإشارة المرور بسبب السُّكر، وهو وحيد والديه اللذين لم ينجبا ولن ينجبا غيره، وكانت مصيبتهما كبيرة لا يخففها الغضب ولا الحزن ولا محاولة الانتقام من القاتل؛ فاختارا التنازل عن كل حق لهما عليه بشرط ابتعاده عن السكر وبالتالي عن قيادة السيارة تحت تأثير المسكر، وأن يقبل مراقبتهما له للتأكد من ذلك.. قالا: (لله حكمةٌ فيما حدث لا نعلمها، ولن يعزينا عن فقد ابننا الوحيد إلا أن نجعل موته سببًا في شفاء قاتله من إدمانه حتى لا يؤذي نفسه ولا غيره).
10- زوجان عجزا عن الإنجاب وخسرا مدخراتهما في العلاج ثم محاولة التبني، وبعد أن غلبهما اليأس إلا من الدعاء فوجئا بإحدى مؤسسات التبني تخبرهما بأن متبرعًا لا يريد أن يُعْرَف اسمه تكفّل بمصاريف تبنيهما طفلًا من رومانيا تبلغ بين 10.000و 12.000دولار أمريكي، وحقق الله رغبتهما بعد أن وَطَّنا نفسيهما لمستقبل بلا ولد.
11- موظفة في إدارة شركة الطيران الأمريكي فقدت أباها فجأة فصُعقت، ولما أفاقت من أثر الصدمة المفاجئة تبين لها أن مدى الحياة قد يكون قصيرًا أكثر من المتوقع فطلبت النزول من وظيفة الإدارة إلى (مضيفة) على الطائرة حيث يتوفر لها ـ براتب أقل ـ السياحة والوقت وبالتالي: معرفة سُبُل النفع العام، وبدأت بجمع قطع الصابون والشامبو التي تقدمها الفنادق وإيصالها إلى اللاجئين البوسنيين، ورأت بعضهم يبكون من الفرح بهذه الهدية الصغيرة؛ فأسست منظّمة تطوعية بلغ عدد أفرادها (3000) لنقل الأدوية والغذاء والكساء، بل مرافقة (20) طفلًا شهريًا للعلاج في أمريكا أو للتبني، ولما طلبت من مدير أحد فنادق (هِلْتُن) أن يسمح لها باستعمال حَيِّز للتبريد في فندقه وافق على طلبها وزاد بإعطائها ما لم تطلب: إسكان العاملين معها في فندقه مجانًا، كما أعطتها شركة الطيران حَيِّزًا مجانيًّا للشحن الجوي، وكان تعليقها على هذا ومثله كثير: (اعمل الخير ينفتح لك من الأبواب الموصدة ما لم تَقْرعه).
12- جاءت راهبة أوروبية شابة للاعتكاف في دَيْر بإحدى المناطق الفقيرة النائية بالهند، وأثناء سفرها بالقطار شاهدت ما لم تتخيله من المرض والجهل والفقر؛ فاقتنعت بأنها سترضي الله بخدمة عباده (ولو على غير دينها) أكثر مما ترضيه باعتكافها وعزلتها عن العالم لعبادته، فقضت 60سنة (حتى ماتت) في علاج المريض وتعليم الجاهل وإطعام وكسوة الفقير، وعُرفت باسم (الأم تريزا).
13- وجاءت راهبة أوروبية شابة وأقامت مع الزبالين على أكوام الزبالة في طرف صحراء مصر الغربية، وبدأت بتعليم الأطفال جميعًا (لأول مرة في حياتهم) القراءة والكتابة والحساب، والخياطة للبنات، والدين الذي تعتنقه للنصارى منهم.
وبعد عشرات السنين حصلت من إعانات المؤسسات الدولية على ما مكّنها من بناء مدرسة مهنية في العباسية وبقربها كنيسة، وبنت أول مسجد في منطقة الزبالين، وزُرت المنطقة بعد 30سنة من معرفتي بها، فوجدتها منطقة سكنية بعد أن نقل مكبّ الزبالة إلى منطقة أبعد في الصحراء، وبالمناسبة فإنّ أول مسجد بني للجيش الأردني بناه قائد الجيش العربي – يومها – أبو حنيك، جون كلوب، ومات نصرانيّاً – فيما نعلم والعياذ بالله – فما بال من منّ الله عليهم بالاسلام لا يشكرون نعمة الله عليهم بالاسلام فينافسون من لم يمنّ الله عليهم به في الكرم.
14- صاحب مطعم أسماك أصيب بنوبة قلبية اضطرته للانقطاع عن العمل مما يهدد بالقضاء على مصدر رزقه، فتطوعت شابة تشترك في ملكية مطعم منافس للقيام بعمله حتى شُفي، فجعلها شريكة في ملكية مطعمه؛ إذ لا يقدر على مكافأتها بأكثر ولا أقل من ذلك، يقول: (قبل أيام توقفت لإعانة سائق نفد من سيارته الوقود؛ فقال لي: سيكافئك الله على ذلك، ولم أتوقع المكافأة بهذه السرعة)، ولم تتوقع الشابة أيضًا مكافأة منه في حال مرضه وعجزه وكبر سنه وحاجته.
15- مُغَنٍّ مشهور لم يكتف بإقامة الحفلات وجمع التبرعات للمحتاجين بل استغل شهرته لإقناع قادة الدّول الثمان الغنية بإلغاء أربعين ألف مليون دولار من ديونها على الدول الفقيرة.
16- طفلة لم تكد تصل سنّ التمييز بلغ بها الحزن على أيتام مرضى الإيدز إلى تجاوز مجرد الحزن إلى ما ينفعهم من جمع التبرعات لتعليمهم، ولما بلغت حصيلتها مائة ألف دولار دعتها (أوبرا وِنْفري) للظهور في برنامجها مع الرئيس السابق (كِلنْتُن) وتقوم مؤسَّسته على إعانة مرضى الإيدز، وسألتها (أوبرا) عن هدف حملتها فأجابت: (جمع مليون دولار لهؤلاء الأيتام)، وعندما عاد البرنامج إلى البث بعد فترة الدعاية التجارية دعا (كلينتون) الطفلة ليخبرها أن أحد أصدقائه تبرع لحملتها بنصف مليون دولار بشرط إخفاء اسمه.
17- (أندريه أَكَسِي) لاعب التنس المشهور الذي يتعاون مع مؤسسة (كلنتن) لمكافحة الإيدز وإعانة مرضاه وعائلاتهم أسس مدرسة نموذجية (حقًّا) بعد تقاعده للأطفال في الأحياء الفقيرة تجمع بين أحدث النظريات التربوية (وأعْقلها) وبين أحدث الوسائل التعليمية التي لا تحلم مدارس أحيائهم الحكومية بمثلها، وفي رأيي أنّ ما فعله (أكاسي) و (تايكروُدْ) من ذلك خير من إقامة المدارس الجيدة للموهوبين أو النابغين مسايرة لمثل أشعب أو هبنقة ـ الخيالي غالبًا ـ إطلاق الغنم السمينة في المرعى الجيد وحجز الهزيلة عنه بدعوى: متابعة قدر الله عليها.
وأحسب أن النبوغ لا يفيد في البلاد المقلِّدة؛ لأنها ستبقى في دَرْك التقليد والتبعية بالقَدْر الذي يتقدم به المقَلَّد في صناعته وإدارته وخدماته ومبتكراته، ولا يزعجني ذلك فلن نسأل عنه في القبر، وإنما ميزنا الله بالدين والدعوة إليه ولن نُسْبَقَ إلى هذه الميزة العظيمة لو التزمنا بها، فنحن الأصل وغيرنا المقَلِّد إذا وُجِد.
تلقّيت مرة تقريرًا من إحدى أرقى الجامعات في أمريكا عندما كنت قائماً على الادارة العامّة للثقافة ومن بين إدارتها: (البعثات الخارجية) بأن طالبًا سعوديًا حصل على (درجة الشرف) للمرة الرابعة بين (36) طالبًا في تاريخ الجامعة، ولما عاد للعمل في المملكة المباركة لم يتميز في أدائه الوظيفي عن غيره.
لعلّ للتراب الذي نعيش عليه أو البيئة التي نعيش فيها أثرًا بالغًا:
البخاري والهندي والتركي والعربي الذي يفد إلى هذه البلاد المباركة ويقيم في مكة أو المدينة سيكتسب – غالبًا – خُلُق المكي أو المدني (في علاقته بالناس منذ عهد النبوة)، ولا يزال العُمَانيون محتفظين بالخلق الذي مدحهم به النبي صلى الله عليه وسلم، (ولعل الله كسنته دائمًا اصطفى الكافرين للدنيا، واصطفانا لحمل دينه).
18- شابة جميلة في مقتبل العمر (رأسمالها جسدها) تسبّب تفجير قطارات لندن (الجهادي الإجرامي) في بتر رجْلها، ولما استيقظت من غيبوبتها وحولها الجثث شغلها شكر الله على الحياة عن الحزن لفقد رجْلها، وعن الغضب على المجرمين الذين ظلموا وقتلوا وجرحوا بدون حق ولا شرع ولا عقل، بل أسَّسَتْ جمعية تدعوا إلى مسامحة المعتدي بحجّة أن الغضب والرغبة في الانتقام لن يَرُدَّا حياة مفقودة أو عضوًا مبتورًا، وإنما يساهم في استمرار حالة الاعتداء بربط المعتدى عليه بالمعتدي حِقْدًا في القلب وضيقًا في الصدر ومكابدة للذكرى المؤلمة.
19ـ أمريكيتان امتهنتا التسلية بالفكاهة والغناء في (هُلِي وُدْ) استأجرهما الجيش الأمريكي للترفيه عن الجنود في جنوب شرقي آسيا، وأثناء عودتهما في ليلة عاصفة إلى غرفتهما بالفندق وجدتا عددًا من الأطفال يرتعشون من البرد والمطر في زاوية أحد الشوارع. وبعد السؤال عنهم تبين لهما أنهم أيتام لا أهل لهم، ولا مأوى لهم غير الشارع، فأصرتا على أخذهم إلى غرفتهما، وقدمت إحداهما قميص الأخرى الحريري رشوة لخادمة الغرف لإقناعها بحفظ سرهما الذي كشفه كثرة طلباتهما من المناشف والسندويتشات. وبدأتا تجمعان التبرعات من الجنود فهددتا بالطرد خشية التسبب في مشكلة سياسية بين أمريكا والبلد المضيف، ولكن إصرارهما أقنع المسئولين في الجيش بإعانتهما بالمال والطعام والأيدي العاملة والأدوات لتهيئة ملجأ لهؤلاء الأطفال، وحصلتا على الإعانات من داخل أمريكا لبناء عدة ملاجئ لأمثالهم في آسيا ثم في أمريكا نفسها لرعاية الأطفال، بعد تفرغهما لهذا العمل. وبعد تقديمهما العون لثلاثة ملايين طفل في العالم تقريبًا رشحتا لنيل جائزة نوبل للسلام. وهذه الجائزة واحدة من خمس جوائز أوصى بها (ألفرد نوبل) وترك لها معظم تركته (التي بلغت عند موته أكثر من ثمانية ملايين دولار أمريكي). لمن يقدم خير عمل لصالح الإنسانية، وكان سخيًا في حياته لأعمال الإحسان وأراد أن يستمر ذلك بعد موته مدفوعًا بخوفه أن يستعمل اكتشافه الديناميت في زيادة الحروب (ت: 1896 م).
20- تِرِي فُكْس: شاب كندي أصيب بالسرطان فقطعت رجله، ولكن المرض انتشر وأخبره طبيبه أن أيامه الباقية لا يحتمل أن تتجاوز بضعة أشهر، رغب في أن ينتفع الناس من بقية حياته إلى أقصى حد ممكن؛ فقرر المشي (أو الركض) من شرق كندا إلى غربها على رجل طبيعية ورجل صناعية في حملة مركزة لإثارة الاهتمام بمرض ومرضى السرطان وجمع التبرعات للأبحاث والعلاج.
وكندا أكبر دولة من حيث المساحة (قريبًا من عشرة ملايين كيلو متر مربع)، ولا يتجاوز عدد سكانها (30 مليونًا).
وكان من الأهداف الجزئية للحملة جمع تبرعات بمعدل دولار واحد لكل مواطن كندي، وعندما أعياه المرض عن متابعة حملته كان قد حقق هذا الهدف، وبعد موته جمعَتْ مؤسسته مئات الملايين من الدولارات لتحقيق طموحه لإعانة أبحاث السرطان في سعيها لإيجاد علاج ناجع لمرضاه ولقاح للوقاية منه.
وحققت حملته هدفه لإثارة الاهتمام بهذا الأمر فتناقلت وكالات الأنباء أخبار مشروعه وتجمع الناس في طريقه لتحيته وتشجيعه (وبعضهم للاشتراك في حملته ومشيه أو ركضه). وخرج رئيس وزراء كندا وعدد من الوجهاء لملاقاته وتكريمه. ولم يستطع تحقيق هدفه قطع المسافة بين شرق كندا وغربها (وطول حدودها مع أمريكا: قريبًا من تسعة الآف كيلو)، ولكنه قطع أكثرها (5000 خمسة الآف كيلو) على رجل صناعية ورجل طبيعية.
21- وِلْيَمْ سّمِثْ: شاب أمريكي أسود اضطر لحضانة ابنته أُلِيْفْيا (11 شهرًا) منذ أن تنازلت والدتها عن الحضانة بعد انفصالهما. وكان قد عمل في البحرية سبع سنين ويعمل مدربًا رياضيًا ويطمح لإتمام دراسته الجامعية، وكان يصحب ابنته إلى كل مكان يذهب إليه، وأحبهما الناس لما ميزهما الله به من أريحيَّة وعزم. قُبل للدراسة في كلية (بُودْوِن) واستأجر شقة صغيرة قرب الكلية تؤويه مع ابنته، وكان يصحبها إلى صفوف الدراسة فتضفي بهجة على الدارسين والمعلمين والعاملين وفي المقابل غض الجميع الطرف عن وجود الطفلة في غير مكانها.
ومرضت أوليفيا فأنفق كل مدخراته على علاجها وإعالتها، ثم تأخر في الدراسة بسبب ذلك فاضطر للاعتذار عن تأخره الدراسي بما يعانيه من جهد ونقص في النفقة.
وبحث المشرف على دراسته الأمر مع إدارة الكلية فوافقت على إسكانه مع طفلته في مساكن طلابها والأكل معها في مطعمها، وعلاجه معها على نفقتها، وحضورها معه إلى الصف، وتبرع له محسن رفض الإفصاح عن هويته بخمسة وعشرين ألف دولار تعينه على تحمل أي نفقات تتطلبها حضانة طفلته. وبعد أربع سنوات تخرج (وليم سمث) من الكلية، وفي حفل التخرج نادى عميد الكلية اسم (وليم سمث) و(أليفيا سمث) لتسلم شهادة التخرج فوقف جميع الحاضرين يصفقون ويهتفون للاثنين. وأعطي الأب وظيفة في الكلية.
22- بِلِيْ بيكر شاب أمريكي أبيض (35 سنة) كان يقود سيارته بعد منتصف الليل عائدًا إلى بيته من عمله (مهندس ديكور) في برنامج تلفزيوني فكاهي (دارْمَا وكْرِكْ) الذي استمر (16) ساعة متواصلة، وفي حاجة ماسة إلى الوصول إلى بيته وزوجته.
لاحظ أن سيارة (سبقته) خرجت عن الطريق السريع وتدحجرت إلى أسفل التل على شاطئ كلفورنيا، فأوقف سيارته ونزل للبحث عن ناجين فوجد السيارة المنكوبة مدمرة خالية ووجد سائقها ملقى على وجهه وحوله تناثر زجاج السيارة وبعض أغراض سائقها: مسدس ومحفظة. أزال الرمل عن فم السائق وأنفه محاولًا إبقاءه حيًا بالتنفس الصناعي وقبل أن يبدأ في ضخ أنفاسه في فم المصاب تذكر المسدس ومعه احتمال علاقة المصاب بعصابة مجرمة، وتذكر أن زوجته أصيبت بالسرطان وشفيت وها هو يعرضها ويعرض نفسه لاحتمال عدوى الأيدز إن كان المصاب ناقلًا للفيروس. ولم يجد بدًا من محاولة الإنقاذ واستمر يتابعها (20) دقيقة حتى وصل المسعفون، ولكنهم بعد محاولة جادة توقفوا عنها لأنه قد فارق الحياة.
ولم يبخل المتفرجون المطلون من الطريق باظهار امتنانهم وشكرهم وتحيتهم وتشجيعهم لشاب أبيض يخاطر بحياته لانقاذ شاب أسود لا يعرفه ولا يربطه به غير الرابطة الآدمية.
وتبين أن السائق المصاب شرطي لم يستطع مقاومة النعاس. ودعي بلي بيكر إلى احتفال أقامه الشرطة وحضره والد الميت لذكرى زميلهم وتحية لمن دفعه الكرم والشهامة لمحاولة انقاذه.
23- باتي شُبَر فتاة أمريكية وصفت منذ طفولتها بالبنت الصغيرة ذات القلب الكبير، كانت تحب المرح وتحب الحياة وتحب كل من تلقاه من مخلوقات الله، بل كانت لا تكاد تعود من المدرسة إلا ويتبعها حيوان مشرد أو طفل منبوذ، وكان يبدو أنها ولدت وولد معها التعاطف مع الآخرين وأن خير هدية تقدمها: نفسها، وهكذا كان قدر الله لها وعليها.
أثناء متابعتها خبرًا في التلفزيون عن حادث مرور كان فيه قتلى قالت لمن حولها: إن أنا قتلت في حادث مماثل فإني أهب قلبي لأبي (وكان يعاني من أمراض القلب منذ ولادتها) وكررت ذلك مرارًا، وعندما بلغت (18) سنة وقعت وثيقة تتبرع فيها بأعضائها بعد موتها للمرضى المحتاجين لها (ليس لبيض النصارى مثلها وحدهم بل لأي مريض بالقلب أو الكبد أو الكلية ونحوها). ولكن والدها رفض (في شدة حزنه لفقدها في حادث وعمرها 22) هِبَتَها قلبها له ووقع إذنًا بنقل جميع أعضائها لمن يحتاجها غيره.
ثم قلب الأمر واستشار زوجته (منذ سبع وثلاثين سنة) وأولاده واستقر رأيهم على تحقيق رغبتها لأنها رغبتها أولًا، ثم ليبقى جزء منها حيًا يعيش معهم ويذكرهم بما كانت عليه من كرم وأريحية. واستأجر المستشفى الذي يرقد فيه جسدها طائرة صغيرة خاصة تنقل أعضاءها للمحتاجين إليها في أماكن متفرقة، ولمثل هذه الطائرة الأوّليّة في الإقلاع والهبوط لأن الأعضاء المتبرع بها لا تبقى صالحة بين الجسد المنقولة منه والمنقولة إليه غير بضع ساعات. وكانت شُبَر واهبة في حياتها وواهبة بعد مماتها.
24- طفلة عمرها (12) سنة، متميزة في دراستها وأخلاقها، مصابة بمرض نادر ومميت من سرطان العظام، اتصلت بها جمعية للإحسان اسمها: (اختر ما تتمناه)، اختصت بمحاولة تحقيق أمنية للطفل الذي يتوقَّع موته قبل البلوغ، فاحتارت الطفلة بين أمنيتين كانت تتمناهما، وأثناء ترددها في الاختيار وجدت أن خيرًا لها، ولأمثالها من الأطفال في منطقتها ـ وعددهم (155) ـ أن تختار تقدمهم جميعًا عليها في الحصول على ما يتمنون. ولما كانت الجمعية غير قادرة على تحقيق أماني الجميع؛ طلبت تعاون الأهالي على جمع مليون دولار لهذا الغرض، وبدأ جمع التبرعات، وصرف ما يجمع على الأطفال المستحقين للإعانة، على أن تكون هذه الطفلة آخرهم. وكان أحد المتبرعين طفلاً جمع (1100) دولار من بيع مشروب الكاكاو الساخن. وقبل (12) يومًا من جمع كامل المليون ماتت الطفلة، ولم يتحقق لها إلا هذه الأمنية، فحصل أحد الأطفال على حصان، وحصل آخر على رحلة مع عائلته إلى جزر البهاما، وهكذا. فتنافس على الكرم والإحسان: طفلة تنتظر الموت في أي وقت، وطفل بذل ثمرة جهده من المال لإعانة غيره وهو محتاج إليه، وجمعية تحاول إسعاد مرضى السرطان المميت من الأطفال بتحقيق أكبر أمانيهم، فلا نامت أعين البخلاء ومنهم من لا يرون الكرم إلا في أليات الأغنام تزيَّن (ولا تؤكل بل ترمى في الزبالة) موائد الطعام لإطعام من ينتظر منه المقابلة بالمثل، وهم غير المحتاجين، والله تعالى يقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 7-9].
25ـ بُوْب ثومبسون بدأ شركته لتعبيد الطرق في أمريكا بمبلغ (3500) دولار من راتب زوجته في التعليم في ولاية ميتشكن. وفي الخمس سنوات الأولى لم يضع لنفسه راتبًا في الشركة لقلة المال. وكان يشارك عماله في عملهم إذا طلبوا منه ذلك؛ ولو كان يلبس أنظف ثيابه، فلم يكن يطلب منهم أداء عمل يأنف من القيام به هو نفسه طيلة أربعين سنة. وعندما تجاوز الستين، وأغناه الله؛ رأى أن يُشرك عمَّاله ـ وعددهم: (550) ـ في ثروته، فباع شركته، وخصَّص من ثمنها (128) مليون دولار لمن عمل معه، ولعائلات من توفِّي منهم. فصار (9) منهم من أصحاب الملايين في ساعة واحدة، والباقون حصلوا على مبالغ كبيرة بقدر سنوات عملهم معه. واختار عدم الحضور عند توزيع الشيكات لتفادي الإحراج. وعندما سئل عن سبب مشاركة عمَّاله في ثروته؛ قال: لأنهم شاركوني في جمعها.
26- ماري كلارك طفلة أمريكيّة جميلة زرقاء العينين لم تعرف – منذ ولادتها غير التّرف ونعومة العيش ورفاهيته في حيٍّ هوليوديٍّ في بفَرْليْ هِلْز أغنى وأغلى وأشهر مناطق الأثرياء في لوس انجلس.
كان والدها يملك متجراً لأدوات المكاتب يحقّق لعائلته ما يشتهون من متاع الحياة الدّنيا.
1) كانت تحْلُم بالزّواج وإنجاب الأولاد والانتقال إلى بيت أجمل وأوسع، وتحقّق الحلْم؛ تزوّجت وأنجبت (7) أطفال وسكنت في بيت جميل رحيب في منطقة كرانادا هِلْز الغنيّة، وأدارَتْ متجر والدها بعد موته (17) سنة، ولكنها لم تجد رغبة في توسيع تجارة العائلة.
2) وبعد ربع قرن من الزواج والانجاب والإدارة، وبعد انتقال أولادها من البيت والمنطقة إلى مناطق أخرى للعمل أو الدّراسة التفتَتْ لخدمة مَنْ هم في حاجة أكثر إلى جُهْدِها وعَطْفها، فوجدت أنّ القوّة والجهد التي كانت توظّفهما في متجر العائلة كافية لتحصيل آلاف السُّرُر إعانة من الشركات الكبرى لمستشفى في جمهورية البيرو، وآلاف من الأسنان الصّناعيّة والنّظّارات لفقراء المكسيك لم يعرفوا فُرَش الأسنان ولا النظّارات، وأطنان من الأدوية لتخفيف الألم وتطهير الجراح من شركات الأدوية للمساجين.
3) ومنذ ربع قرن انتقلت للعيش في زنزانة ضيّقة في القسم النسائي مِنْ سِجْن (لامِسَا) بتيوانا على الحدود المكسيكيّة الأمريكيّة، وكنت أسمع بمدينة (تيوانا) أنّه يَحِلُّ فيها كثير مما حرّمه الأمريكيّون.
وجدَتْ أنه لابدّ لها من الإقامة في سجن القتلة واللصوص وتجار المخدّرات لتضمِّد جراحهم وتزوِّدهم بالضّروري من الأدوية وتغسِّل موتاهم، واقتنع أولادها بِبُعْدها عنهم لترعى من هم أحوج إليها منهم بعد أن أعطتهم حقّهم من الرّعاية عندما كانوا هم محتاجين إليها.
ز) كيف يتميز الغربيون بالإحسان في بلاد المادية والرأسمالية والعلمانية؟
1- قال الله تعالى عن النصارى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27].
2- وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه فيما رواه مسلم: (إن فيهم لخصالًا أربعا: إنَّهم لأَحْلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرَّة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك) ولا يزالون على ذلك إلى يوم الناس هذا.
3- يقتدي (ورن بفت) الذي تبرع بـ 85% من ثروته و(بل كيتز) الذي تبرع بأكثر ثروته كذلك؛ يقتديان بـ(كارنيجي) الذي سبقهما إلى الإحسان في أول القرن الماضي بتبرعه بما يعادل اليوم أكثر من 7000 مليون دولار أمريكي؛ إذ يقول: (الثروة التي ساعَدنا الناس على جمعها يليق بنا أن نعيدها إليهم)، وهذا أقرب إلى العدل والعقل من فكر سيد قطب واقتداء جمال عبد الناصر به (تجاوز الله عنهم): أخذ أموال الأثرياء وممتلكاتهم بالباطل عنوة وتوزيعها ـ مخالفة لشرع الله ـ على الناس.
4- ويقتدي المحسنون بالعمل والقول بحكمة شرعية: (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
حـ) لماذا أخص حسنات النصارى بالذكر هنا؟
لأني اخترت لنفسي التفاؤل على التشاؤم والتركيز على الخير أكثر من الشر، ولأن أكثرنا يحصي سيئات غيرنا ويبالغ (ويكذب على من يَعُدُّه عدوًّا ولا حرج مخالفةً لشرع الله)، وينقل أخبار السوء ويتجنب أخبار الخير، خُذ مثلًا من مجلة توصف خطأ بالإسلامية (اسمها نون)، ومن العدد السّابع الذي جاءني دون سعي إليه، وقد خُصِّصتْ صفحة (11) لأخبار العالم بالعناوين التالية: (دبلوماسيون يبيعون الخمور في البرازيل)، (معركة زوجية بالقنابل والمسدسات والسكاكين)، (سجون سرية أمريكية للصحفيين على الأرض الكرواتية، نقلًا عن برنامج تلفزيوني روسي)، (الحكم بسجن ألمانية لتسميمها ابنة زوجها بالملح)، (جنون الصرعات)، (لص أفرج عنه للتّوّ يسرق سيارة من مركز للشرطة)، وتصف المجلة اللص المزعوم بأنه (صاحب طموح)، (تنزانية تغفل عن طفلها لدقائق فتفاجأ به يرضع من كلبة)، وتصف المجلة الكلبة أنها (أحسن من الأم)، (إدانة جزّار امتهن جراحة التجميل)، وتقف المجلة في صف المجرم المزعوم بقولها: (يستاهلون أهل جراحة التجميل)، (رقم قياسي للانتحار الجماعي عبر الإنترنت في اليابان).
هذه هي أخبار المجلة الإسلامية كما (زعموا) من أولها إلى آخرها، ومع أنها أحدث مثيلاتها لم تستفد من التجارب السابقة خيرًا لانشغالها بالقدوة الفاسدة: أسْرفتْ في الورق والألوان والصور، والله {لا يحب المسرفين} [الأنعام: 141]، تكلَّفت (12) صورة للشيخ ابن جبرين رحمه الله (وهو وحده العالم بشرع الله بين عدد من مفكريها الإسلاميين): صورتان لتطييب لحيته، وست صور لجلوسه، وأربع صور لوقوفه، وأعطت المفكرين الإسلاميين نصيبهم من الصور بمختلف اللفتات والسكنات وكأن المحرر خاطبة تعرض عرائسها على طالبي القُرْب، أو ما هو أسوأ من ذلك.
ولا أعرف لهم قدوة قبل دواوين نزار قباني وهي ـ فيما أعلم ـ أول منشور عربي بالألوان، وعندما ظهر أولها منذ نصف قرن كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يقول: (ظهر ديوان جديد لنزار قباني كالمومسة مزوّقٌ بالأحمر والأصفر)، والألوان قد تليق بديوان شعر إباحي، ولكنها لا تليق بمجلة توصف بالإسلامية.
ولأن المجلة لم توفق للقدوة الصالحة خرجت عن منهاج الوحي والفقه واليقين، ووقعت في مناهج الفكر والظن والعاطفة، لم يكن أكبر همها الأمر بأعظم ما أمر الله به: إفراد الله بالعبادة واتباع السنة، ولا النهي عن أعظم ما نهى الله عنه: الشرك بالله في عبادته وما دون ذلك من البدع ـ فيما ظهر لي منها ـ وفي المقال الوحيد الأقرب إلى السنة للشيخ ابن جبرين رحمه الله، نقلت عنه ما لم يرد في كتاب ولا سنة، ولا عن خليفة راشد، ولا صحابي، ولا فقيه معتّدً به من التابعين أو تابعيهم في القرون المفضلة عن الرقية من العين: (بسم الله أرقيك من كلّ حبس حابس وحجر يابس وشيئ قابس، رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه)؛ فليس في سند هذه الرقية ولا متنها ما يوثق به، وهي أقرب ما تكون إلى سجع الكهان، وفيها من الاعتداء في الدعاء ما يخالف شرع الله، كيف يؤخذ أحب الناس إلى العائن بجريرته، وأحب الناس إليه أبواه بعد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ـ وقال الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
ولمحتُ إشارةً إلى ضيق المجلة من (نقد) الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لها، فوُصِف الناصح ـ احتمالًا ـ بمحاربة المجلات الإسلامية.
وليس بمستغرب على مثلها عدم التفريق بين إشاعة الفاحشة في المسلمين للتسلية أو التشفي أو الترويج وهو المحرم، وبين بيان المنكر المخالف لشرع الله إذا قُدِّم للناس بدعوى أنه الحق ليلبس به الشيطان عليهم دينهم؛ فإن هذا هو النهي عن المنكر الذي ميز الله به هذه البلاد وهذه الدولة المباركة.
وهذا لا يعني اتهام النيات فعلمها عند الله وحده، والعدل في إحسان الظن بالنية، والصّدع بالأمر، وبيان الباطل ومحاربته، والدعاء للجميع بالهداية لأقرب من هذا رشدا.
ط) مرة أخرى لعلنا نَفْهَم ونُفْهِم: لا يجوز اتهام النيات ولا تجوز الغيبة، ولا تجوز الشماتة بالمخطئ، ولا الغرور بدعوى الانتماء للإسلام والسنة والدعوة والإصلاح، وفي الوقت نفسه لا يجوز السكوت عن الخطأ الظاهر من القول والعمل، وإعلانه إذا صدر عمن يُخشى الاقتداء به (بخاصة)، على أن يجمع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بين بيان الحق وبين رحمة الخلق.
ي) ومرة أخيرة لعلنا نَفْهَم ونُفْهِم: أكبر خطر على الإسلام والمسلمين أحرى به أن يأتي من الدعاة إليه على ضلالة أي: على غير منهاج النبوة المعصومة؛ فاحتمال أن يأخذ المسلم دينه عن أخيه الداعي إلى الإسلام (على الابتداع وهو لا يدري) أكثر ـ بكل المعايير ـ من احتمال أن يأخذه من يهودي أو نصراني أو وثني أو علماني.
ك) وظُلم العربي للعربي وظلم المسلم للمسلم اليوم فاق كل ظلم، قارن ما سماه جمال عبد الناصر وأظنه صدق بالاستعمار الغربي في الكويت ـ مثلًا ـ عشرات السنين، وكان من آثاره: استخراج النفط، وسفلتة الطرق، وإدخال الكهرباء والماء والغاز والهاتف للبيوت، وانتشار التعليم العصري، وتحقيق أفضل بنية تحتية ومستوى دخل في العالم العربي والإسلامي بل في أكثر بلاد العالم، قارنه باحتلال العراق المنتمي للعروبة أولًا (ثم للإسلام) سبعة أشهر من جحيم القومية والاشتراكية العربية والسلب والنهب والفجور والظلم الديني والدنيوي وانتهى بحرق (700) بئر نفط حقدًا وحسدًا وعدوانًا، وصفّق له كل العرب والمسلمين إلا الأقلون في الخليج أو في دول قليلة لم تعلن تأييد الإجرام مثل مصر وسوريا لأسباب مختلفة، وكان أكثر مؤيدي الإجرام المفكرون والحركيون والحزبيون الموصوفون زورًا بالإسلاميين، ومعظم العلمانيّين والملحدين.
هدى الله الجميع لدينه الحق وردهم إليه ردًا جميلًا.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه تعاونا على البر والتقوى وتحذيرا من الإثم والعدوان. 1428هـ.