دولة الرئيس الميقاتي يضرب مثلا

دولة الرئيس الميقاتي يضرب مثلا

بسم الله الرحمن الرحيم

1) في إحدى زياراتي للبنان طلب منّي بعض الإخوة السّلفيّين زيارة رئيس وزرائها الأستاذ نجيب الميقاتي لأنه يتميز بميزة نادرة: أنّه يعطي السّلفيّين – مثل أيّ طائفة أخرى حقّها منه، والسّلفيّون – عادة – لا يهتمّ بهم السّياسيّون لأنّهم لا يطمعون في تصويتهم لهم ولا يخشون من تصويتهم لغيرهم، وفي المقابل لا يهتمّ السّلفيّون بالسّياسة العصريّة ولا بالسّياسيّين اكتفاءً بالسّياسة الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة واكتفاءً بفقه الفقهاء في الدّين من السّياسيّين الشّرعيّين من الصحابة وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم (الموقعون عن ربّ العالمين) بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم ابن القيم رحمه الله وأثابه.

2) واعتذرْتُ بعزوفي عن لقاء الرّؤساء والأمراء والمشايخ وكبار الموظّفين بحجّة انشغالهم بما ولاّهم الله فلا أضيّع وقتهم. ولمّا دعتني وزارة الإعلام العمانيّة لزيارة مهرجان صلالة قبل بضع سنوات استجبت للدّعوة الكريمة، وطلبت مقابلة بعض صغار الموظّفين بدلاً من كبارهم، والسّكن في أحد بيوت الطلبة بدلاً من الفنادق الكبيرة، والطعام الشعبي بدلاً من الأكل الغربي، وأن يعفوني من زيارة مهرجان صلالة لأني تعوّدت النّوم بعد صلاة العشاء (في رمضان وغيره).

وميّز الله أهل عُمان بحسن الخلق كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ” لو أنّ أهل عُمان أتيت ما ضربوك ولا سبّوك رواه مسلم، وكتبْتُ مقالاً أشهد لهم بذلك وكتب سمير عطا مثله بعد أسبوعين.

3) ونجيب الميقاتي يذكّرني بما وصف الله به المَلِك طالوت: زاده الله بسطة في الخَلْقِ والخُلُق، ولا يمكن أن يقال عنه ما قيل عن طالوت: {لم يؤتَ سعةً من المال}، فهو من أكثر العرب (بل النّاس) مالاً.

فجمع الله له التميُّز في الخُلُق والجسم والمال، وفي السّياسة والادارة التي تؤتي كلّ ذي حقّ حقّه على كثرة الطوائف اللبنانيّة التي تطالب بحقّها، وتطلب منع الحقوق عن غيرها، والله قد أعطى الحقّ لكلّ عباده، {كلاًّ نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا}، وأمر بأداء الحق إلى أهله والحكم بالعدل: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}، وحثّ عباده المؤمنين على العدل في معاملة العدوّ: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى}، ونهى عن الاعتداء على العدوّ ولو أنّه قد صدّهم عن المسجد الحرام: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا}، ولم ينه الله المؤمنين عن معاملة غير المسلمين بالبرّ والعدل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}، ونهى عن مجادلة النّصارى بغير الحسنى (فكيف بمن ينتمي إلى الإسلام): {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم} قال الله تعالى عنهم في آية أخرى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، أي: لا تزد على المثل، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم وَفْقَ وحي الله له: العفو عمّن قاتلوه وأخرجوه من المسجد الحرام فعفى عنهم يوم فتح مكّة إلا النّادر ممن استمرّ في الاعتداء.

4) وكما أحببْتُ زيارة عُمَان مرة ثانية لما رأيته من تميّزها بحسن خُلُق أهلها أحْبَبْتُ زيارة رئيس وزراء لبنان نجيب الميقاتي لما سَمِعْتُهُ عنه من تمييز الله له بحسن الخُلُق وهو خير ما ميّز الله به عبده المسلم.

5) ورأَيْتُ فيه خيراً مما سمعْتُ عنه من حُسْن الخُلُق والكرم بوقته ونفسه وتحمُّل ضيفٍ لم يتعوّد زيارة مثله (ولا مَنْ دونه في الوظيفة والوجاهة وسموّ المنزلة الاجتماعية والاقتصادية) جاء لغير حاجة إلاّ لمجرّد الزّيارة.

والزّيارات لرئيس الوزراء فمن دونه في وقت العمل ومكانه عادةٌ سيّئة تعوق العامل والعمل، والأولى بها عدم قبولها.

6) ودخلت مكتبه في الرئاسة وكعادتي بدأت بالسّلام على من يقف على اليمين حتى وصلت إليه فأجلسني معه واثنين من الإخوة السّلفيّين في ركن من غرفة مكتبه لا على مكتبه.

وقدّمت له كتابين لي عن سيرتي في الدّعوة إلى الله وفي سفري عامّة فأصرّ على أن أكتب إهداءً مني إليه على كلّ منهما.

وكنت ألبس كعادتي ثياباً متواضعة (وفي نظر اللبنانيّين العاديّين أكثر ضَعَةً فتصدّق عليّ أحدهم بألف ليرة – ريالين ونصف – وبعدها بأسبوع أو أسبوعين تصدّق عليّ آخر بمثلها لا حرمهما الله أجر النّيّة ولا العمل)، واستوقفني مرّة أمريكي نَزِل في نيويورك ليسألني: هل أنا قسيس من طائفةjesuit؟ فقلت: لا، أنا مسلم، وسألته: لِمَ ظننْتني مِنْ هذه الطائفة بالذّات؟ فقال: لتواضع مَلْبَسِك.

ولو قال: لتركيزك على التربية وتضمينها حُسْن الخُلُق فلعلّه صدق؛ فقد دَرَسْت التربية ضمن دراستي في كلّية الشريعة بمكة المباركة أربع سنوات قبل 60سنة ثم في أمريكا ثلاث سنوات قبل 45سنة وعملت على إدارة التعليم العصري نحو ربع قرن وإدارة التّعليم الدّينيّ (الدّعوة إلى الله على منهاج النّبوّة) من أول القرن(15) حتى اليوم، والتربية على الدّين والخُلُق من أهداف الجزويت المعلنة، ولهم دينهم ولي ديني.

وزرت الأستاذ/ نجيب الميقاتي في منزله العامر أثناء تكليفه بالرئاسة ثم بعد تركه العمل، فوجدته كما عرفْتُه مضيفاً كريماً لا يقيس النّاس بلباسهم ولا بوظائفهم ولا بأموالهم ولا بجاههم وإنما يقيسهم بأخلاقه فيعاملهم بما تمليه عليه أخلاقه الكريمة، وبهذا أعلى الله مقامه في الدّنيا وأرجوا الله أن يعلي مقامه في الآخرة ومَنْ يسّر لي معرفته وزيارته.

7) واعتمر في رمضان كعادته كلّ سنة (تقبّل الله منه) وكنا نودّ اجتماعه بأكبر عدد من الشيوخ السّلفيّين فقضى الله لي وله أن نكون ثلاثة: نجيب الميقاتي ود. عبد المحسن بن عبد الله بن محمد آل الشيخ رئيس المجلس البلدي في مكة والاستاذ بجامعة أم القرى قبل ذلك وهو عن(1000).

اتصل الأستاذ نجيب بعد وصوله مكة بابني ياسر لأني لم ألْحَقْ بعصر الجوال، وربما خشي أن يتأخّر وصول رسالته إليّ فاتّصل بي على هاتفي الثابت، وشجّعني الشيخ د. عبد المحسن على ضعفي ومرضي فاجتمعنا في جناح فخامة الرئيس بقصر المؤتمرات وقضينا معه وقتا طيّباً ومرافقيه الكرام في بيان المنهاج السّلفيّ، وأحرَجَنا بعادته التّجاوز في إكرامنا الحدّ الذي تعودناه منّا أو لنا أكرمهم الله بطاعته، ورضاه.

8) وزُرْتُ لبنان فاتّصل الأستاذ نجيب بابني ياسر فيسّر الله لي مهاتفته واقترحت أن يكون اللقاء بعد عودته من الحجّ (وهو يحجّ كلّ عام)، ولكن قضى الله لي العودة إلى مكة قبل عودته إلى لبنان، وكنت راغبا في زيارته هذه المرّة في مكان إقامتي في ضواحي بيروت تكملةً لفضله وتواضعه، ولتكون خاتمة طيّبة لزياراتي للبنان التي لا أحصي لها عدداً، فقد جعلتها منذ عام 1374هـ. المحطة الأخيرة قبل المملكة المباركة سواء كنت قادماً من الشرق أو من الغرب، وقد ميّزها الله بجوّها ومكانها، وبأهلها فوق كلّ اعتبار، ولو لم يكن فيها غير نجيب الميقاتي لكفاها فضلاً، وفي الطائرة احتجت للتزود بالأكسجين، فسابق اثنان من الشباب اللبناني – لم أرهما قبل تلك الليلة، – سابقا ابني لتزويدي به وألزما المضيفين بنقلنا إلى الدّرجة الأولى رغم إلحاحي بعدمه، أثابهم الله.

كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه. مكة المباركة – 1436/1/10هـ.