العزة والكرامة بين المتنبي ومتأخري العرب

العزة والكرامة بين المتنبي ومتأخري العرب

بسم الله الرحمن الرحيم

1) نشر في بعض وسائل الإعلام العربية خبر عن اكتشاف منزل للمتنبي والحث على اتخاذه مزارًا يذكر العرب بالعزة والكرامة التي كان المتنبي رمزًا لها، فطلبت ممن اطلعني على الخبر وهو أحد الدعاة على منهاج النبوة أن يتولى الرد عليه مذكرًا الكاتب والمكتشف والقارئ بأن المتنبي آخر من يصلح رمزًا للعزة والكرامة الحقيقية، وقد قضى الله تعالى في محكم كتابه أن العزة (ومرادفها الكرامة) إنما هي لله ولرسوله وللمؤمنين في قوله تعالى: {وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].

وسيأتيك نبأ المتنبي من خير نقاده: د. طه حسين تجاوز الله عنه في كتابه: «مع المتنبي» (دار المعارف، ط 12) بعد قليل إن شاء الله.

2) وقد اشتهر الجمع بين المترادفين (العزة والكرامة) في خطب جمال عبد الناصر تجاوز الله عنه، بل ادعى أنه مصدرهما إثر محاولة اغتياله (واتهم فيها حزب الإخوان المسلمين وحكم على عدد منهم بالقتل أو السجن): «دعهم يقتلونني فقد خلقت فيهم العزة وخلقت فيهم الكرامة.»، وأذيعت هذه الكلمات أكثر من مرة ثم أخفيت فلم تسمع مرة أخرى تجاوز الله عنهم. ودعاوى عرب العصر (مثل دعاوى المتنبي) عريضة – لو أعطي كل مدعٍ بدعواه – ولكن أكثرها جوفاء. على أن الرمز للعزة والكرامة العربية اليوم بحال المتنبي لا يبعد عن الصواب؛ فلا يتجاوز الدعوى بالقول شعرًا أو نثرًا.

وقد عاش المتنبي «يبيع ماء وجه على ممدوحيه» في لفظ طه حسين (ص 13)، وقال شاعر قبله عن المتنبي:

أي فضل لشاعر يطلب الفضل من الناس بكرةً وعشـــيًّا؟

عاش حينًا يبيع في الكوفة الماء وحينًا يبيع ماء المحـيَّا

ولا يجوز مؤاخذته على مهنة أبيه (سقّاء) وإنما يؤاخذ على بيع ماء وجهه.

وليس من العزة أو الكرامة أن يتجنب منتمٍ إلى العروبة أو الإسلام ذكر أبيه أو أمه أو أحد من أهله (غير جدته) ولو لمزه اللامزون، «بينما يفاخر جرير بأبيه النكرة الشعراء ويقارعهم فيغلبهم» (ص 13 نقلًا عن كتاب الأغاني).

3) ويذكر المؤرخون أن المتنبي درس في مدرسة شيعية لبعض العلوييين وأخذ منها أسس ثقافته ونهج حياته المقبلة (ص 34). وثقافة الشيعة تكاد تضمن الضعة والذلة مع فساد المعتقد، (وإن نقل عنهم أكثر المنتمين إلى السنة عدوى الانحراف عن صحيح المعتقد وصحيح العبادة والتصوف والتعلق بالقبور وتقديس المشايخ، والابتداع في الدين عامة، والفتنة.)

4) ويستنبط طه حسين من شعر المتنبي أنه «تعلم في البادية العراقية أصول القرامطة وعرف مذاهبهم؛ فصار في شبابه قرمطي الرأي متحفزًا لأن يكون قرمطي السيرة» (ص 42). ومنهج القرامطة يجمع بين الإلحاد في الدين، والخروج على المسلمين، واسمع قول المتنبي:

إلــــــــى أي حين أنت في زي محرم *** وحتى متى في شقوة وإلى كـــــــــــــــــــم؟

فثب واثقًا بالله وثبة مــــــــــــــــاجد *** يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم

وطه حسين يرى في البيت الأول: كراهة صفة الإحرام عما حرم الله، وفي البيت الثاني: الحث على الخروج وشق عصا الطاعة، (ص 44).

وهو يرى أن المتنبي جمع في الأبيات التالية مهنة التزلف والتسول التي لازمته بقية حياته وصريح القول بالحلول:

يا أيها الملك المصفى جوهرًا *** من ذات ذي الملكوت أسمى من سما

نور تظاهر فيك لاهوتيّــــــــه *** فتكاد تعلم علم ما لن يعلــــــــــــــما

أنا مبصر وأظن أني نائــــــم *** من كان يحلم بالإله فأحلـــــــــــــــما

بمعنى: أن ممدوحه قبس من ذات الله، وأن  هذا القبس نور لاهوتي استقر فيه فكاد أن يظهره على الغيب، وأن الشاعر يرى الله تعالى في يقظته وإن ظن حينًا أنه في نومه، لأن الله لا يرى في الأحلام (ص 45).

وطه حسين باحث محقِّق لا يتهم المتنبي بما اتهم به من ادعاء النبوة، ولا يشكك في نسبه كما فعل غيره، ولا يحكم عليه إلا بما أثبته في ديوانه.

5) إذن: «نشأ المتنبي في بيئة شيعية ساخطة تنتظر الفرج ثم عاش في بيئة قرمطية هادمة لأصول ونظام الاجتماع المعنوية والمادية. ولما انهزم القرامطة وجلوا عن الكوفة إلى البحرين جلا المتنبي عن الكوفة إلى الشام وآثر الحيطة والحذر فأخفى قرمطيته ودعوته إليها، وجارى ممدوحيه وداراهم وخصهم بمدحه واستجدائه وإن أبغضهم (غير علي الحمداني)، وأعلن عن بغضه ومقته لعامة الناس (غير نفسه)» ص 47.

6) وليس من العزة والكرامة أن يضحي الشاعر بدينه وخلقه استجداءً للمال والوجاهة أو الإمارة فيقول لبعض ممدوحيه:

إن كان مثلك كان أو هو كائــــن *** فبرئت حينئذ من الإســـــــــــلام

لم يخلق الرحمن مثل محمـد[1] *** أحدًا وظني أنه لا يخلـــــــــــــق

لو كان ذو القرنين أعمل رأيــــه *** لما أتى الظلمات صرن شمـوسًا

أو كان صادف رأس عازر سيفه *** في يوم معركة لأعيا عيســــــى

أو كان لج البحر مثل يمينــــــــه *** ما انشق حتى جاز فيه موسـى

أو كان للنيران مثل جبينــــــــــه *** عبدت فكان العالمون مجوسًـــا

ويقال: إنه أعطي عشرة دراهم على هذه السينية وشفع له فأعطى عشرة دراهم أخرى (ص 77)، وأعطي مالًا وإقطاعًا على بعض قصائده، ولم يعط على بعضها شيئًا ومهما أعطي فهو ثمن بخس لدينه وكرامته.

7) وكان يكره الخمر لأنها لا تلائم طموحه إلى الجهاد القرمطي:

أَلَذُّ مِنَ المُدامِ الخَندَريــسِ *** وَأَحلى مِن مُعاطاةِ الكُـؤوسِ

مُعاطاةُ الصَفائِحِ وَالعَوالي *** وَإِقحامي خَميسًا في خَميسِ

ولكنه يشربها إرضاء لمن حلف عليه بالطلاق ليشربن:

فَجَعَلتُ رَدِّي عِرسَهُ كَفّـارَةً *** عَن شُربِها وَشَرِبتُ غَيرَ أَثيمِ

ويشربها لأن ممدوحه حلف بحقه ليشربن:

سَقاني الخَمرَ قَولُكَ لي بِحَقّــي *** وَوُدٌّ لَم يُشَبْ يومـــــــاً بِمَذقِ

يَمينًا لَو حَلَفتَ وَأَنتَ نـــــــــاءٍ *** عَلى قَتلي بِها لَضَرَبتُ عُنقي

وَإِذا طَلَبتُ رِضا الأَميرِ بِشُربِها *** وَأَخَذتُها فَلَقَد تَرَكتُ الأَحرَمـا

8) ويكاد المتنبي أن يثوب إلى رشده بعد أن ألَمَّ ضيف الشيب برأسه:

إِلى كَم ذا التَخَلُّفُ وَالتَوانـــــــي *** وَكَم هَذا التَمادي في التَمادي

وَشُغلُ النَفسِ عَن طَلَبِ المَعالي *** بِبَيعِ الشِعرِ في سوقِ الكَسادِ

ثم يعود إلى الانحراف الديني ودعوة الخروج القرمطي:

ما مُقامي بِأَرضِ نحلَــــــــــــة إِلّا *** كَمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهـــــــــودِ

فَاِطلُبِ العِزَّ في لَظى وَذَرِ الــــــــذُ *** لَّ وَلَو كانَ في جِنانِ الخُلــــــودِ

أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَـــــــــــــــــ *** ـهُ غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمـــــــــودِ

لَقَد تَصَبَّرتُ حَتّى لاتَ مُصطَبَـــــرٍ *** فَالآنَ أُقحِمُ حَتّى لاتَ مُقتَحَــــــمِ

لَأَترُكَنَّ وُجوهَ الخَيلِ ساهِمَـــــــــةً *** وَالحَربُ أَقوَمُ مِن ساقٍ عَلى قَدَمِ

بِكُلِّ مُنصَلِتٍ ما زالَ مُنتَظِــــــــري *** حَتّى أَدَلتُ لَهُ مِن دَولَةِ الخَــــدَمِ

شَيخٍ يَرى الصَلَواتِ الخَمسَ نافِلَةً *** وَيَستَحِلُّ دَمَ الحُجّاجِ في الحَــرَمِ

9) وقد تكون هذه الأبيات التي يظهر فيها الرغبة عن الدين القويم والرغبة في سفك الدم (دم الرعاة ودم الرعية) هي التي سببت سجنه، ومثلها:

أُفَكِّرُ في مُعاقَرَةِ المَنــــايا *** وَقودِ الخَيلِ مُشرِفَةَ الـهَوادي

زَعيمٌ لِلقَنا الخَطِّيِّ عَزمي *** بِسَفكِ دَمِ الحَواضِرِ وَالبَوادي

ويهدد الأمراء الذين يمنعه حجّابهم من ذبح كرامته على أعتابهم بذبحهم:

فَإِنَّهُم قَد أَكثَروا الحُجّابـــا *** وَاِستَوقَفوا لِرَدِّنا البَوّابــا

وَإِنَّ حَدَّ الصارِمِ القِرضابا *** وَالذابِلاتِ السُمرَ وَالعَرابا

يَرفَعُ فيما بَينَنا الحِجابـــا

ميعادُ كُلِّ رَقيقِ الشَفرَتَينِ غَدًا *** وَمَن عَصى مِن مُلوكِ العُربِ وَالعَجَمِ

فَرُؤوسُ الرِماحِ أَذهَبُ لِلغَيــــ *** ظِ وَأَشفى لِغِلِّ صَـــدرِ الحَقــــــــــــودِ

ويرفع نفسه (بالادعاء الفارغ) عن بقية الخلق:

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِــــم ***   وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَّغامُ

10) وفي أول عهده بالسجن أظهر التجلد والمحافظة على كرامته الزائفة:

كُن أَيُّها السِجنُ كَيفَ شِئتَ فَقَد *** وَطَّنتُ لِلمَوتِ نَفسَ مُعتَرِفِ

ثم بدأ يستعطف الوالي التركي متشفعًا بغربته ودموع جدته:

بيدِي أيُّها الأميرُ الأريــــبُ *** لا لشيءٍ إلّا لأنّي غريــبُ

أو لأُمٍّ لها إذا ذكَرتْنــــــــي *** دمُ قلبٍ بدمع عينِ سكوبُ

إن أكُن قبلَ أن رأيتُكَ أخطَأ *** تُ فإنّي على يديكَ أتــوبُ

ثم استعطفه بقصيدة أخرى يذكر فيها أنه متهم بالنية لا بالتنفيذ:

وَكُن فارِقًا بَينَ دَعوى أَرَدتُ *** وَدَعوى فَعَلتُ بِشَأوٍ بَعيدِ

فأطلق ابن كَيَغْلَغ سراحه بعد أن استتابه في مجلس لبعض أهل الحل والعقد فتاب وأشهد على نفسه أنه جحد ما كان من أمره وعاد إلى سبيل المسلمين (ص 103).

ودبَّج قصيدة في مدح الأمير التركي ادعى فيها أن نوره يبهر أكثر من الشمس، ولعله بعد حصوله على عفوه طمع في حظوته وماله:

يا مَن أَلوذُ بِهِ فيما أُؤَمِّلُـــــــــــهُ *** وَمَن أَعوذُ بِهِ مِمّا أُحـــــــــاذِرُهُ

لا يَجبُرُ الناسُ عَظمًا أَنتَ كاسِرُهُ *** وَلا يَهيضونَ عَظمًا أَنتَ جابِرُهُ

فرفض الأمير استقباله أو سماع قصيدته، وأمره بترك الإقليم، فانتقل إلى حياة جديدة ليست بأقل بؤسًا وشقاء وبيعًا للكرامة وبذلًا للكبرياء، ثم البكاء على ما بذله وفرط فيه، وكان ينفي الدّين والناس جميعًا ولا يثبت إلا نفسه في ادعاء سمج كاذب هو أول من يعلم سماجته ويكذِّبه:

وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ اللهُ وَما لَم يَخلُقِ *** مُحتَقَرٌ في هِمَّتي كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

واقِفًا تَحتَ أَخمَصَي قَدرِ نَفســــي ***  واقِفًا تَحتَ أَخمَصَيَّ الأَنــــــــــــامُ

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِــــــــــم ***   وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَّغــــــــــامُ

12 ) وقد يرجع عن غيه حينًا فيبكت نفسه مدركًا ما وصل إليه من الذل والهوان:

ذَلَّ مَن يَغبِطُ الذَليلَ بِعَيــــشٍ *** رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ مِنهُ الحِمامُ

مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ *** ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيـــــــــــلامُ

وَإِذا ما خَلا الجَبانُ بِـــأَرضٍ *** طَلَبَ الطَعنَ وَحدَهُ وَالنِــزالا

ثم يعود إلى سوء ما كان عليه لا يتوب ولا يدّكر:

يمدح الوالي الفارسي فيجعل الفُرس فوق كل ذي أصل شريف وخير قدوة:

فارِسِيٌّ لَهُ مِنَ المَجدِ تاــــجُ *** كانَ مِن جَوهَرٍ عَلى أَبـــــرَوازِ

نَفْسُهُ فَوقَ كُلِّ أَصلٍ شَريفٍ *** وَلَوَانّي لَهُ إِلى الشَمسِ عـازي

وَبِآبائِكَ الكِرامِ التَأَسِّـــــــي *** وَالتَسَلّي عَمَّن مَضى وَالتَعازي

ويمدح الوالي ابن طفح الإخشيدي وقومه:

حَمَتهُ عَلى الأَعداءِ مِن كُلِّ جانِـــــــبٍ *** سُيوفُ بَني طُغجِ بنِ جُفِّ القَماقِمِ

هُمُ المُحسِنونَ الكرّ في حَومَةِ الوَغى *** وَأَحسَنُ مِنهُ كرّهُم في المَكـــــارِمِ

ويمدح من يطمع في نواله بما يغضب الله؛ فيقول لأحد العلويين:

وَأَبهَرُ آياتِ التِهامِيِّ[2] أَنَّهُ *** أَبوكَ وإِحدَى ما لكُم مِن مَناقِبِ

ويقول لبدر بن عمار:

لَو كانَ عِلمُكَ بِالإِلَهِ مُقَسَّـــــمًا *** في الناسِ ما بَعَثَ الإِلَهُ رَسولا

لَو كانَ لَفظُكَ فيهِمِ ما أَنزَلَ الـ *** قُرآنَ وَالتَوراةَ وَالإِنجيــــــــــلا

طَلَبنا رِضاهُ بِتَركِ الَّـــــــــــذي *** رَضينا لَهُ فَتَرَكنا السُجـــــــودا

مع أنه ذمه ومن معه من قبل ليمدح عدوه:

فَوَلّى بِأَشياعِهِ الخَرشَنِيُّ *** كَشاءٍ أَحَسَّ بِزَأرِ الأُسودِ

ويذم كافور الإخشيدي بما لا يذم به فهو من قدر الله عليه لا من كسبه:

مَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةً *** أَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيــــــــــدُ

وَإِنَّكَ لا تَدري أَلَونُكَ أَســــــــــوَدٌ *** مِنَ الجَهلِ أَم قَد صارَ أَبيَضَ صافِيا

وَأَسوَدُ مِشفَرُهُ نِصفُـــــــــــــــــهُ *** يُقالُ لَهُ أَنتَ بَدرُ الدُجـــــــــــــــــــى

مع أنه مدحه من قبل بمثل قوله:

وَلَكِنَّكَ الدُنيا إِلَيَّ حَبيبَـــــــــــةً *** فَما عَنكَ لي إِلّا إِلَيكَ ذَهـــــــــابُ

وَأَمضى سِلاحٍ قَلَّدَ المَرءُ نَفسَهُ *** رَجاءُ أَبي المِسكِ الكَريمِ وَقَصدُهُ

وَأَيُّ قَبيلٍ يَستَحِفُّكَ قَــــــــــدرُهُ *** مَعَدُّ بنُ عَدنانَ فِداكَ وَيَعـــــــرُبُ

قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيــــــرِهِ *** وَمَن قَصَدَ البَحرَ اِستَقَلُّ السَواقِيا

وأعلن طمعه في الحصول على ضيعة أو ولاية من فضل كافور وتحت إبطه:

إِلى الَّذي تَهَبُ الدّولات راحَتُهُ *** وَلا يَمُنُّ عَلى آثارِ مَوهـــــــوبِ

إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً *** فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسلُبُ

فعزة المتنبي وكرامته أبدًا يضعها في المزاد كما في سوق الحمير يركبها من يزيده ثمنًا.

13) وقد وازن طه حسين بين كبرياء المتنبي التي قادته إلى الذلة والهوان، وبين كبرياء خلفه المعري التي قادته إلى التواضع مع أن كلًا منهما متهم في دينه: «كان المتنبي عبدًا لشهواته: المال والمتاع والجاه، وأنفق حياته كلها في إرضاء هذه الشهوات، واحتمل في سبيلها ذل السؤال وباع شعره في سوق الكساد، ومدح من كان يحتقرهم وتملق من كان يزدريهم، وباع نفسه وحريته لكل من طمع في نواله عربيًّا أو فارسيًّا أو تركيًّا أو مولًى، وظل يهيم في هذا الفساد الخلقي والسياسي حتى أدركه الموت.

فأين هذا من أبي العلاء المعري الذي لم يدع لنفسه شهوة إلا أذلها، ولا عاطفة إلا أخضعها لسلطان عقله، واعتد بنفسه فارتفع بها عن السؤال، وآثرها بالعافية، وألزمها القصد والاعتدال، وضن بها على الكذب والمين وعلى البيع والشراء ولم يطمع في ولاية أو لذة رخيصة، وإنما أراد ما هو أرفع من ذلك مكانًا وأجل خطرًا؛ التوحد:

توحد فإن الله ربك واحد ** ولا ترغبن في عشرة الرؤساء» (ص 71).

ووازن إن شئت (في مثال واحد) بين تواضع أبي العلاء حين شفّعه صالح في قومه؛ فأنقذهم الله به منه:

نجى المعاشر من براثن صالح *** رب يفرج كل أمر معضل

ما كان لي فيها جناح بعوضة *** الله ألبسهم جناح تفضـــل

وبين كبرياء المتنبي الفارغة:

أقل فعالي بله أكثره مجد *** وذا الجد فيه نلت أو لم أنل جد

وانتقاص غيره من الناس وهو أبدًا يمد يده إلى ولاتهم وأغنيائهم:

أذمّ إلى هذا الزمان أهيلـــــه *** فأعلمهم فدم وأحزمهم وغـد

وأكرمهم كلب وأبصرهم عم *** وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد

ووازن إن شئت (في مثال واحد) بين حبس المعري نفسه في داره خمسين عامًا وبين سفر المتنبي الدائب في طلب المال والمتاع والجاه بذلّ السؤال، حتى وافاه أجله في سفره الأخير بسبب قصيدته البائية في هجو ضبة وأمه، وهي أرذل قصائده وأسقطها وأكثرها فحشًا وظلمًا وجهرًا بالسوء من القول فيما بينه وبين الناس، أما فيما بينه وبين الله وشرعه ورسوله وكتابه، فأمر آخر يتولى الله جزاءه فهو وحده العليم بما تخفي الصدور وما تختم به الأعمال، تعالى الله، وتقدست أسماؤه، وطهر شرعه ووحيه، وصلى الله وسلم على رسوله وعلى جميع رسله وأوليائه. ولكن ظاهر الأمرين ينفي دعوى العزة ودعوى الكرامة عن حياة المتنبي وعن حياة المقتدين به من دعاة العصبية والوطنية والقومية العربية في هذا العصر. قال عنهم الشيخ د. بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه الفريد «حكم الانتماء للفرق والجماعات والأحزاب الإسلامية» وهو في رأيي خير كتبه: «وهي [أي: عصبية وحمية الجاهلية الأولى] تشابه في النتيجة – إلى حد بعيد – تلكم الصيحات المعاصرة في وسط ديار المسلمين  إلى الوطنية والقومية، إلا أن عصبيات ما قبل البعثة فيها من الأنفة والكرم والشجاعة ما يفوق ما لدى هؤلاء الأخلاط والأوباش المجتمعين باسم القومية، فلا هم للإسلام نصروا ولا للنعرات الغثائية كسروا» (ص 13، مهذب حكم الانتماء لكاتب هذه السطور، ط دار الإمام أحمد بالقاهرة 1426.) بل لم نر في المتأخرين من (أنَفَة) الجاهلية الأولى إلا دعوى العزة والكرامة الكاذبة، ولا من الكرم إلا بذل الطعام لغير مستحقه للسمعة وطلب المقابلة بالمثل، (لا للمسكين ولا لليتيم ولا للأسير كما شرع الله)، ولا من الشجاعة إلا التهور وقتل النفس بغير حق في سبيل التراب والحقد والحسد والعاطفة. وعلى كل حال؛ فسفر المتنبي وشعره التسولي، وحبس المعري نفسه في داره ابتكارًا أو اتباعًا لفلسفة وثنية، وأنفة وكرم وشجاعة الجاهليين الأول، ودعوى الكرامة الحديثة والقديمة لا قيمة له في موازين الآخرة، هدانا الله جميعًا لأقرب من هذا رشدًا.

كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن- في 1429 هـ