والدي عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصيّن رحمه الله

والدي عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصيّن رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

 أ- ولد عام 1306 وتوُفّي عام1386، وكان يقيم مع جدّي عبد العزيز رحمه الله في الوقف إحدى قريتي القراين، على بُعد أربعة أكيال ونصف من شقراء حين كان جدّي رحمه الله إمام مسجد الوقف، ولا يفصل بين الوقف وغِسْلة (القرية الثانية من القراين) غير وادي العنبري لا يتجاوز عرضه عشرة أمتار فيما أذكر (وذاكرتي ضعيفة في الحساب)، ولكن لا تَسْلم القرى من الخلاف.

 ورُوِي أنّ أهل غسلة كانوا يصلّون الجمعة في شقراء حتى يُحْرم مسجد الوقف من العدد المطلوب لصلاة الجمعة في الفقه الحنبلي.

 ورُوِي أنّ خطيب مسجد الوقف كان إذا دعا: (وعن بلدنا هذه خاصّة) أشار إلى الوقف وحدها حتّى لا يشمل الدّعاء غِسْلَة.

 وربّما تجاوز الخلاف هذه الأسطورة، فرأى جدّي رحمه الله أن يسري بأهله بقطع من الليل خشية أن يَثْني النّاس عزمه عن الانتقال بأهله إلى شقراء عاصمة منطقة الوشم، ولم يَعُدْ يربطنا بالقراين غير نخلٍ نستفيد منه الرُّطب كلّ عام، يتولى تزويدنا به الشيخ عبد الله بن حمد السّالم أسكنه الله الفردوس من الجنّة؛ وحِرْصاً من والدي رحمه الله على إكرامه كان أوّل من يُقَدِّم له الرّطب كله في صحن كبير، وحرصاً من ابن سالم على المكافأة كان لا يأكل إلاّ النّقادة (الرُّطَبَة التي أكل منها الطّير) والرُّطَبَة الرّديئة، وعندما وُلد له ولد أوصى بأن يقوم ولده بنقل الرّطب إلينا بعد موته، ولكنّ ابنه أتمّ دراسة الشّريعة وعُيِّن قاضياً وتوفّاه الله مبكِّراً في حادث بسيّارته، رحمهما الله تعالى وحفظ من بقي من أهلهما، وكان ابن سالم رحمه الله إذا عزم على شراء ثمرة نخلٍ إضافيّة لنا يعتني مبكراً بحرث أرضها وسقيها جزاه الله بالجنة.

ب- لم أعرف جدّي رحمه الله ولا اثنين من أعمامي (عبد الله ومحمد) رحمهما الله (وكان الجميع يسكنون منزلاً واحداً في شقراء مبنيّاً بالطّين مثل كلّ البيوت منذ نحو سبعين سنة. وكلّ عائلة تسكن غرفة واحدة: الأمّ والأب وأولادهما)، ولكنّي فرحت بمعرفة ما تميّز به جدّي رحمه الله من حُسْن الخلق أسكنه الله الفردوس من جنّته.

 أمّا والدي وعمّي (عمر) رحمهما الله فقد سعدت بالعيش معهما في بيت شقراء بضع عشرة سنة حتى انتقلْتُ إلى الطّائف ثمّ مكّة للدّراسة من أوّل صفوف الدّراسة المتوسّطة حتى آخر سنوات كلّيّة الشريعة، ثمّ إلى مصر للدّراسة العليا حتى عام 1380، وفي العام نفسه انتقل الوالد ببقيّة الأهل إلى المدينة النّبويّة وعاش فيها بقيّة حياته ومات قائماً على باب المسجد النّبويّ لصلاة العصر رحمه الله ودُفِن بالبقيع.

 ج- وعُرِف والدي رحمه الله في شقراء بأمرين: الاحتساب للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وخدمة المحتاج إلى خدمته؛ كان عدد من يقرأون ويكتبون قليلاً، وعدد من يخدم الأمّيّين بما علّمه الله لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وكان الوالد رحمه الله أبرزهم (كما أشار العلاّمة أبو عبد الرّحمن ابن عقيل في جريدة الجزيرة (العدد/14839/في 1434/7/5 بعنوان: بل أوردتها يا سعد) ومما قاله عفا الله عنه: (آل الحصيّن شجرة مباركة وارفة الظّلال شهيّة الثّمار، ومنهم الشيخ عبد الرّحمن الحصيّن وذرّيته، جعل الله كلّ الخير إرْثاً في أعقابهم، وقد أدركته [يعني: الوالد عبد الرحمن] رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بشقراء[وكان محتسباً قبلها أكثر من عشرين سنة ولله الحمد والمنّة]، وله ثلاث ميزات لم أجدها مجتمعة عند غيره:

 أولاها: الاجتهاد في العبادة، وثانيتها: القيام بالاحتساب؛ فهو يفتح دكّاناً لا للتّجارة؛ بل ليكتب التّوثيقات الجديدة وينسخ القديمة [للنّاس] مجّاناً، وثالثتها: ذكاء ودهاء خارق يُلْجِمه وَرَعه).

 لم أدرك تميُّز والدي رحمه الله بالذّكاء والدّهاء (كما أدركه العلاّمة ابن عقيل جزاه الله الفردوس من الجنّة)، ولكن أهل شقراء يذكرون مُلْحةً للشقاري (إمام جامع عفيف فيما بعد): كان شقراويٌّ يصيد الذّئاب وينقلها (ميتة غالباً) إلى بيته في شقراء ليراها الأطفال بأجرة زهيدة، وفي إحدى المرّات رأى الشقاري رحمه الله جمعاً من الأطفال متّجهين إلى بيت صائد الذّئاب رحمه الله، فقال لهم: لا تحتاجون إلى رؤية ذئب ميّت بأَجْر، تعالوا أريكم ذئباً حيّاً بدون أجر، فقادهم إلى دكّان الوالد، والذّئب يُضْرب مثلاً للذّكاء والدّهاء في شقراء، رحم الله صاحب حديقة الحيوان ورحمهم، وأما الاجتهاد في العبادة فأشكر الله وأثني عليه وأحمده؛ أكثر ما أذكر من والدي رحمه الله في المنزل: قراءة القرآن قائماً وماشياً وقاعداً وعلى جنبه، وصلاة التّهجد آخر الليل في ركن من السّطح خُصِّصَ للصلاة.

 د- وعُرِف والدي رحمه الله في شقراء بخدمة المحتاجين، وكان بين منزلنا ودكّان الوالد بيت يسمّى: (بيت الغرباء) يتولّى الوالد رحمه الله اسكان الغرباء المعدمين فيه كما يتولى إطعام جائعهم وتكفين ميّتهم وتشييع جنازته ودفْع أجرة حفّار القبور، ولا أظنّه فوّت تشييع ميّت صغير أو كبير، غنيّ أو فقير، معروف أو مجهول، ولقد رأيته يشيّع ميتاً وحده مع حفّار القبور.

 وربما كان أكثر الغرباء من حجّاج العجم (على أقدامهم) من إيران والقارّة الهنديّة، وأكثرهم لا يتكلّم اللغة العربيّة، سمع شقراويٌّ احَدَهم يردّد ما ظنّه: (يا علي شال المِدَاد) لا يقول غيرها، فقال: يا ناس قولوا لعليّ الفريح يعطيه مْدَاده [حُصُره]، وهو غالباً يدعوا عليّاً رضي الله عنه من دون الله تعالى بنحو: (يا عليّ شي لله، مَدَد) ليُقرّبه إلى الله عزّ وجلّ أو يشفع له عنده.

 هـ- وعُرِف والدي رحمه الله بالرّغبة في طلب العلم، فلم يفوِّت واحدة من حِلَق العلم التي كان يتطوّع بها أكثر قضاة شقراء في المسجد الجامع في صباح كلّ يوم (وربما كان الوالد رحمه الله مساوياً لبعضهم في العلم)، وقد طلبه الشيخ محمد بن براهيم رحمه الله للقضاء، فأرسل أخي عبد الله رحمه الله على بعير إلى الرّياض (مسيرة خمسة أيّام فأكثر) لينقذه الله من القضاء. وكان لا يفوّت ما دون ذلك من حِلَق العلم: القراءة في رياض الصّالحين بعد صلاة العصر كلّ يوم، وتلقين جواب أسئلة القبر: (من ربّك وما دينك ومن نبيّك؟) فالجلوس في الحلقة عبادة صحيحة.

 و- وكانت مكتبته أوّل ما رأينا من المكتبات وكتب العلوم الشرعيّة، أذكر منها: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيّم رحمه الله، وتفسير ابن جزيّ رحمه الله (مطبوع على الحجر في الهند)، وأعاره الأخ صالح رحمه الله لأحد زملائه في المدرسة الابتدائية، وهو حييّ كريم صار فيما بعد من كبار العلماء فأعاد شيئاً منه وهو يكاد يذوب خجلاً فقد أكلت البقرة ما كُتِب لها منه، وهَوَّن عليه الأخ صالح رحمه الله الأمر، ولكنّه قال لي: الله يهديه أعرناه -هو- الكتاب ليستفيد منه لا لتستفيد منه البقرة، عفا الله عنه.

وكان في مكتبة الوالد نسخة من البداية والنّهاية لابن كثير رحمه الله وانشغل بها الأخ صالح يتدارسها مع أحد زملائه (أذكر صورته ولست متأكّداً من اسمه) فنهاه الوالد عن ذلك فالعلم الشرعي لا يؤخذ من التّواريخ والسِّيَر، وأعجبت بزاد المعاد حتى قلت: بأنّه خير كتاب طُبِع بعد كتاب الله وهو خير كتاب في السّيرة – وإن لم يُعَدّ من السِّيَر – لأنه يرجع فيه إلى الكتاب والسّنّة والفقه الأوّل  فيهما بخلاف جميع السِّير، فقراءته عبادة صالحة وتقرّبت إلى الله بتهذيبه لترتيبه شرعيّاً: الأهمّ فالأهمّ شرعاً وحذف ما لم يُسْنَد أو ما لم يصح إسناده وفقاً لتحقيق الأرنؤوطِيَّين أثابهم الله.

 ز- وكان في مكتبة الوالد رحمه الله بعض المخطوطات، وقد أهديناها لمكتبة الملك عبد العزيز في المدينة النّبويّة لاهتمام المكتبات بالمخطوطات أمّا نحن فلم نُصَبْ – فضلاً من الله ونعمة – بحمّى المخطوطات، بل كَتَبْتُ وزُرْتُ د. يحيى الجنيد السّاعاتي أوّل المشرفين على مكتبة الملك فهد الوطنيّة بالرّياض أُحَذِّرُه من الانزلاق في فوضى جمع المخطوطات دون تمحيص، فقد كمُلَ الدّين بدونها، والمطبوع خير من المخطوط وأيسر للباحثين وهم القلّة (لا أقول النّخبة)، وأكثر ما لم يُعْرف أو يُحْفظ أو يُطْبع فهو صوفيٌّ أو فلسفيّ أو عَبَثِيّ، وقبْل أن أبارح مكتبه دخل اثنان من الباحثين المحترفين لا يظهر عليهما أثر التّديّن، أرْسَلَتْهما المكتبة للبحث عن المخطوطات في الخارج، فقالا جواباً على سؤاله: وجدنا كثيراً من المخطوطات كلّها صوفيّة.

 ولعلّ من مخطوطات مكتبة الوالد: أحد أجزاء صحيح البخاري ذكره جدّنا العمّ عبد العزيز بن عبد الله الحصيّن رحمه الله في وصيّته، وهو من كبار تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله وكان أوّل وثاني رسول للدّعوة والدّولة السّعوديّة للأشراف في مكّة لمناظرة علمائها في مسائل الاعتقاد (هدم أوثان الأضرحة بخاصّة)، الأولى عام 1185هـ ذكرها العلاّمة ابن غنّام في تاريخه، والثانية عام 1204هـ ذكرها ابن غنّام وذكرها العلاّمة ابن بشر في تاريخه رحمهما الله، وأخذ عنه العلم أخوه العمّ محمد بن عبد الله الحصيّن رحمهما الله وكلاهما ولي القضاء في عهد ثلاثة من أئمّة آل سعود رحمهم الله جميعاً.

 ح- ومما يُضَيَّع فيه نعمة الله بالمال: ما يًسَمَّى بالآثار الاسلاميّة: ورقة من المصحف مكتوبة على جلد غزال – بزعمهم – تباع بمئات الألوف وهي لا تكاد تقرأ، وكانت سنّة القدوة من الصّحابة حَرْق أو دَفْنُ ما لا يصلح للقراءة من أوراق المصحف المخطوطة كما فعل عثمان رضي الله عنه بمصاحف الصّحابة رضي الله عنهم يوم جَمَع القرآن، وأذكر أنّ الأخ صالح رحمه الله وصلته دعوة أمانة مدينة الرّياض على جلد غزال بمناسبة مرور (50)سنة على وجودها، فهاله الإسراف ثم انقطع شسع نعله فأصلحه بدعوة الأمانة.

 ومن الإسراف الشّنيع شراء الكتب والمقتنيات الأثريّة الموصوفة زوراً بالإسلاميّة، تقليداً لأثرياء العالم في تنافسهم على النّوادر لمجرّد نُدْرتها.

 وكان أكثر تجارة والدي الدّنيويّة مع البادية بالبيع إلى أجل، ثمّ يقوم عمّي عمر وأخي عبد الله رحمهما الله بملاحقتهم للسّداد عند صرف مرتّباتهم السّنويّة من بيت المال، ويلقون عنتاً من تهرّبهم وتحايلهم، عفا الله عنّا وعنهم.

 وكان أكبر همّ والدي في رأيي: الدّين والدّعوة إليه، وقد ورثه في الحرص على إنكار المنكر: أخي ابراهيم رحمه الله وابنه عبد الله بن ابراهيم وفقه الله أكثر ممّن عرفتهم من الأهل، وكاد الوالد والأخ ابراهيم رحمهما الله يفقدان حياتهما في سبيل ذلك، فقد انتقم بعض أبناء البادية هداهم الله من المنتسبين للمدرسة العسكريّة من إلزامهم بالصّلاة في المسجد وحبسهم على تفريطهم في ذلك، بأن كمنوا للوالد والأخ في طريقهما إلى درسٍ دينيٍّ في منزل الشيخ عبد الله أبوبطين حفيد العلاّمة عبد الله بن عبد الرّحمن أبوبطين رحمهم الله جميعاً ومعهم قِطَع من الحديد (رِيَش سِسَت سيارات) وكانَ الظّلام دامساً، وكان والدي يتّقي الضّرب على رأسه بمهفّة خوص (مِرْوَحَة يدويّة)، ولم يكن مع أخي ما يقي به رأسه، وكان أضعف جسماً من الوالد رحمهما الله، كان وزنه(38) كيلاً، أمّا الوالد فاستطاع المشي إلى البيت، وأمّا الأخ ابراهيم فحُمِل إلى البيت بين الحياة والموت.

 وكان الأخ صالح رحمه الله في الرّياض يستعدّ للسّفر إلى مصر عام1377، فلمّا علم بالمصيبة ذهب إلى الشيخ عمر بن حسن رمز الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في المنطقة الوسطى من المملكة المباركة، فنقل الشيخ الخبر للملك سعود رحمه الله فأرسل عدّة أطبّاء في طائرة خاصّة، وكان الطيران جديداً على المنطقة فلم يهتدوا إلى مطار شقراء التّرابي الصّغير، وعادت الطّائرة إلى الرّياض، فطلب الأخ صالح سيّارة من والدة عبد الرحمن السّبيعي رحمهما الله إذ لا توجد سيارات أجرة في ذلك الوقت وقدم الأخ صالح بمجموعة الأطباء وأبرزهم د. الشافعي من مصر، وفي الطّريق قدّم لهم الطعام ولكنّه نسي شراء أوعية الطعام مع الطّعام، فقام السّائق (وهو من رقيق السّبيعي) بفكّ أغطية عجلات السّيارة وغسلها وقدّم فيها الطعام، ولما حاول الأطباء خياطة جراح الوالد تبيّن أنّهم نسوا ما هو أهمّ من أوعية الطعام: البنج (المخدّر)، فكان الوالد رحمه الله (مع قوّة تحمّله وصبره) يردّد: رفقاً بالشيخ الضّعيف، والأخ ابراهيم يكاد يطير فَرَقاً: إذا كان هذا حال الوالد فكيف بي؟ ولكنّ الله أعانهما فتحمّلا نتيجة الإهمال العربي، وجاءت الطائرة فحملتهما ونحن معهما إلى مستشفى الشميسي بالرّياض، وخُصِّص لكلّ منهما جناح كبير أقمنا فيه جميعاً قريباً من ثلاثة أشهر للعلاج وكان المتّهمون محبوسون في انتظار شفائهما وحضورهما المحاكمة، وكان القاضي هو الشيخ سليمان العبيد رحمه الله، وبعد جلوسهم دقائق – وكانت أول وآخر مرّة يدخل أيّ المحكمة – فاجأ الوالد القاضي بالعفو عنهم، عوّض الله الوالد والأخ عن حقّهما بالفردوس.

 وكان الوالد يأمرنا منذ الصِّغّر بالصّلاة في المسجد ولكنّه لم يحتج إلى ضربنا عليها، وكان الطّريق اليها في البيت وخارجه مظلماً وموحشاً وكان يخيّل لي رؤية حيوانات لم أرها من قبل ولكن الله حفظنا بمنّه وكرمه.

 ولما كان كثير من الأهل سبقوا إلى الإقامة في المدينة النّبويّة فقد ألحّوا على الوالد بالانتقال إليها، ثم عُيِّن الأخ ابراهيم رحمه الله مديراً للامتحانات بالجامعة الاسلاميّة بطلب من الشيخ ابن باز (رئيسها) رحمه الله، فقَويَ عزم الوالد رحمه الله على الانتقال عام 1380، والأخ ابراهيم رحمه الله خير من خَدَم الوالد رحمه الله في شقراء، ولم يفارقه منذ عرفت نفسي وعرفتهما وما كان للوالد رحمه الله أن يحول بين ابراهيم رحمه الله ووظيفته التي ما كان يحلم بها، وأهمّ من ذلك ما كان للوالد رحمه الله أن يحرمه من خدمة الشيخ ابن باز رحمه الله وبالتّالي: خدمة الاسلام والمسلمين تطوّعاً في المدينة النّبويّة، ثمّ انتداباً إلى أيّ مكان يذهب إليه الشيخ رحمه الله، وامتدّت خدمته للشيخ ابن باز أربع سنوات في المدينة وربع قرن في الرّياض، ونَعُدُّها من نِعَم الله العظيمة عليه وعلينا جميعاً.

 وأَصِف والدي رحمه الله بأنّه كان كتاب رياض الصّالحين يمشي على الأرض في دينه وخُلُقه وسَمْته بميزان الابن الذي لا يُسْتَبْعَد تحيّزه، ولكن أثنى عليه قَبْلي الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل والشيخ ابن باز والشيخ عبد الله البسّام والشيخ د. محمد الشويعر وغيرهم، جمعهم الله جميعاً في الفردوس من الجنّة.

 لم أسمع والدي مرّة واحدة يصخب أو يقهقه أو يرفع صوته لأيّ سبب، ولا أعرف أنّه ضرب أحداً من أولاده إلاّ نادراً لسبب موجب، وكانت وسيلته الغالبة للتّربيّة: الدّعوة والدّعاء.

 وكان يمشي الهوينا فلا تسمع لخطواته صوتاً، بل لا تحسّ بقُرْبِه منك إلاّ بقراءته القرآن بين الجهر والمخافتة كما أمر الله نبيّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومتّبعي سنّته وسلّم: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}، وقد أنعم الله عليه بحفظ القرآن وتلاوته عن ظهر قلب نحو سبعين سنة، ولا يرجع إلى مصحفه إلاّ قليلاً، يقرأ وهو يمشي وقائماً وقاعداً وعلى جنبه، وعندما تفرّغ للعبادة في المدينة النّبويّة في السّتّ سنوات الأخيرة من حياته صار يختم القرآن كلّ ثلاثة أيّام، لا أقلّ من ذلك لنهيه صلى الله عليه وسلّم عن الأقلّ.

 وكان قلبه منذ عرفته معلقاً بالمسجد، وفي المدينة النّبويّة كان عبد العزيز بن صالح رحمه الله (إمام المسجد النّبويّ) يراه كلّ يوم خَلْفَه في صلاة الفريضة إلاّ مرّة واحدة في حياته حين توفّاه الله على باب المسجد الذي أحبّه في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلّم.

 وكان يمشي يوم السّبت من كلّ أسبوع على قدميه إلى مسجد قباء ويعود راكباً تأوّلاً لما ورد عن النّبي صلى الله عليه وسلّم، وآخرها يوم السّبت الذي توفّاه الله في آخره.

 وكان إذا ازدحم المسجد النّبويّ بالحجّاج أو المعتمرين زوّار المسجد يصلّي في غرفة في الطّرف الغربي من المسجد تُخَصَّص لكبار الضيوف، وكان مرّة يصلّي في هذه الغرفة وبجانبه أبو بكر بليوه رئيس وزراء الاتّحاد النّيجيري رحمه الله فأعجبه انصرافه للعبادة فوضع مائة ريال تحت مصلاَّه ولمّا انصرف والدي من صلاته أعادها إليه ودعا له وقال بالإشارة: إنّ الله قد رزقه أكثر من حاجته، وعاد إلى صلاته فوضع أبوبكر رحمه الله مائة وخمسين تحت مصلاّه وانصرف، ولعلّ أبوبكر ظنّ انّ والدي في حاجة لما رأى من زهده في المظهر فقد كانت والدتي تخيط ثوبه حتى توفّاه الله، وعلى هذا مات ابن باز والأخ ابرهيم رحمهما الله، فلم يدخل أحد منهم دكّان خيّاط أبداً، ولم أفعل ذلك تأسّياً بهم ولم أدخل دكّان حلاّق منذ (45)سنة، أمّا الثياب فتخاط في الصّين تسخيراً من الله ويتراوح ثمن الثّوب بين (10و14)ريال، وأَحْلق نفسي ومن رغب من أهلي، ولا يزال عمر جمجوم زميل الدّراسة في لوس أنجلس يعرفني بأنّي الزّميل الذي يحلق نفسه وأولاده (قَرْعة) يوم كانت (القرعة) مستنكرة هناك قبل (برايز) و(جُورْدَنْ).

 وهدوء والدي رحمه الله في مشيه ولفظه أوقع الأخ صالح رحمه الله مرّة في الحرج، وكان يستحيي من الوالد رحمهما الله ولا يكاد يتكلّم في حضوره كما يفعل آل سعود أعزّهم الله: لا يتكلّم ولا يتقدّم أحدهم بين يدي من هو أكبر سنّاً ولو بيوم أو يومين.

 (في ساعة تجلّي كما يقول الصّوفيّة كفى الله الاسلام والمسلمين شرّهم) كان الأخ صالح رحمه الله يتفقّد نفسه في المرآة فقال: (الحمد لله عِنْقِي كأنّه عِنْق تكروني) ولم يحسّ بدخول الوالد تلك اللحظة فسلّم الوالد وقال: (تِنْغِبِط)، ولعلّ صالح رحمه الله قضى شهراً لا يتكلّم حياءً وحرجاً.

 لم أكتب عن أحد من أهلي خشية المحاباة، ولكنّ الشيخ د. محمد الفريح، وابن أخي ابراهيم: إسحق، وعبد الرحمن عيروض (أبو الزبير) طلبوا منّي هذه الأسطر عن الوالد رحمه الله، وطلب ابن أخي صالح كتابة أسطر عن والده رحمه الله ففعلت، جزاهم الله خير الجزاء. وصلى الله وسلّم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومتّبعي سنّته.

 كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن  عفا الله عنه في 1435/4/18هـ.