إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم
إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم
بسم الله الرحمن الرحيم
أ- (الخُلُق) يعني: أكثر من أسلوب المعاملة بين البشر ـ خلافاً لما يظن أكثرهم ـ، يبين ذلك قول الله تعالى عن لسان الكافرين: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137] أي دينهم، ويؤكده قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان خُلُقه القرآن) أي كان القرآن منهاجه في حياته؛ اعتقاداً وعبادة ومعاملة (لا في المعاملة وحدها)، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] أي: دين.
وإذا قُصد بالخُلُق أسلوب المعاملة فإنما ذلك من باب تخصيص العام، ولو أصلح العبد خُلُقَه فيما يتعلق بحق الله عليه وفيما يتعلق بحقوق الخلق عليه لرضي الله عنه وأرضاه وأرضى عنه الناس:
وحق الله على عبده محكوم بأقدار الله الشرعية، وأولها وأهمها أن يعبد الله وحده لا شريك له فيُخلص لله نيّته وقوله وعمله، صلاته ونسكه، محياه ومماته، وحياة العبد فيما دون ذلك محكومةٌ بأقدار الله الكونية، فلا بد له من الرضا بقسمة الله له منها ” فإن رضي فله الرضا، وإن جزع فله الجزع“.
والرضا بالقسمة (من قدر الله الكوني) ضمان للسعادة الدنيوية وباب من أبواب السعادة الأخروية، والرضا بالقسمة (من قدر الله الشرعي) ضمان للسعادة الأخروية وباب من أبواب السعادة الدنيوية فضلاً من الله ونعمة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 30ـ 36].
ونعمة الله على عبده (بالخُلُق العظيم) أعظم من نعمته على عبده بالمال والمتاع، فالأُولى خيرٌ محضٌ، ولا يمنحها الله إلا من يحبّ، والثانية قد تكون خيراً وقد تكون شرّاً، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15ـ 16]، {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] فهذه يمنحها الله من يحب ومن لا يحب.
ومنذ أدركتُ هذه الحقيقة لم أجدْ في أقدار الله الشرعية والكونية إلا الخير وحسن العاقبة، وكثيراً ما ذكرتُ نفسي ومن ابتلاهم الله بتذكيري (مع كثرة خطئي ونقصي) أنّ الحياة مثل قطعة النقد المعدنية لا تخلو من وجهين، وجهٌ قد يريده العبد ووجه قد لا يريده، فإن وجه نظره وفكره إلى الوجه المرغوب فيه لم يرَ في الحياة إلا ما يسعده، وإن وجّه نظره وفكره إلى الوجه المرغوب عنه لم يَرَ في الحياة إلا ما يشقيه وكان حريَّاً أن لا يشكر نِعَم الله عليه {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وأكثر شقاء العبد بدنياه مصدره: التطلع إلى ما لم يقدّره الله لـه والانشغال بذلك عن ذكر وشكر ما أسبغ الله عليه من نعمة.
ب- تذاكرنا مرة هذا الأمر العظيم الفارق بين السعادة والشقاء؛ فوَكَّد الفريق مريِّع الشهراني – زاده الله من فضله – ببيتين من الشعر :
هبَّـت الرّيحُ فملاّح شكا***طول مسراه وملاَّح شكر
ليس في الريح سرورٌ أو أسى***إنما في النفس ما ساء وسرّ
قدرُ الله واحد على الملاّحَيْن؛ كلاهما منَّ الله عليه بإرسال الريح تسوق السفينة ولو شاء لأسكن الريح فظلت راكدة على ظهر البحر، ومع جريان السفينة يطول المسرى والسهر والتعب، فأحدهما وجه نظره وفكره إلى السّهر والتعب فشكا، ووجّه الآخر نظره وفكره إلى مِنّة الله بإرسال الريح والانتفاع بالسفينة التي أجراها الله بها فشكر.
ج- وقرأت مرّة مقابلة مع شيخ تجاوز الثمانين وشابٍّ في الثلاثين يرويان ذكرى اشتراكهما في رحلة مع الملك خالد رحمه الله بين مكة والرياض، وكان الشيخ المثقف المترف لا يذكر إلا الهواء النقي وسماء الليل الصافية ونجومها المتلألئة والحياة الفطرية العزيزة المنال، وكان الشاب المثقف المترف لا يذكر إلا التعب والغبار والتخلف الحضاري للبدو.
د- وقبل سنوات انتشر في أمريكا كتيّبٌ صغير كأنما كُتِب للأطفال (ولكنّه صالح للجميع)، يروي قصة فأرين كانا يرتادان مكاناً تحت الأرض وجدا فيه قطعة كبيرة من الجبن ظلاّ يأكلان حاجتهما منها، وفي أحد الأيام لم يجدا بقية طعامهما؛ أما أحدهما فظل في مكانه يتميّز غيظاً وهمَّاً وأسفاً على ما فات (ولا سبيل لعودته) حتى هلك جوعاً، وأما الآخر فانشغل عن الغيظ والهمّ والأسف (للماضي) بالبحث عن طعام آخر (للمستقبل) حتى وجده في مكان آخر.
هـ- بين يدي مثال أقرب إلى الحقيقة والواقع، ربما كنت أولى بحكايته: أقامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض ندوة عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه لله دعت للاشتراك فيها قليلاً من العلماء وكثيراً من المفكرين والحركيين والحزبيين الموصوفين بالإسلاميين، وكان خير ما أنتجتْ جمع وطبع مؤلفات المجدد رحمه الله، واختار أكثر العلماء وطلاب العلم الدعاة إلى الله زيادة التعرّف والتعريف بهذه الدعوة المباركة، واختار أكثر الحركيين ما يختاره أكثر المشاركين في الندوات والمؤتمرات: مجرد الحضور.
وكان من خير الفئة الأولى:
1) الأستاذ محمد بهجت الأثري من العراق، عضو المجمع العلمي العراقي والمصري والسوري والمغربي، ورِثَ من شيخه الآلوسي تصحيح الاعتقاد، ولم يفرّط فيه ـ فيما أعلم ـ حتى لقي ربه وقد بلغ من العمر تسعين عاماً، شارك في الندوة عارفاً بقيمة ما شارك فيه، وساهم فيها ببحث نادر عن دعوة ودولة التوحيد والسنة الأولى في الأرض وفي خير بقاعها (جزيرة العرب) منذ ألف سنة، بحث نادر في لغته الجميلة الرصينة، ونادر في دراسته العلميّة الموجزة للدعوة التجديدية منذ نشأتها حتى استوت على ساقها دعوةً ودولة تعجب الدعاة على منهاج النبوة ليغيظ الله بهم المنحرفين عنه (وهو اليقين من الوحي) إلى مناهج الظن من الفكر البشري.
قال رحمه الله: (وجَدَ محمد بن عبد الوهاب القدوة الحسنة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله وجهاده وصبره، فالتزمها بكل [قواه] مثابراً ستين عاماً إلى أن لقي وجه ربه، وقد أطبق جفنيه وراية [الإسلام] ترفرف على جزيرة العرب، ودولة التوحيد قائمة تنتظم البلاد) ص37 مجموع دار البشير في الدعوة إلى الله على منهاج النّبوّة 1417- الأردن.
وقال رحمه الله: (واقع التاريخ يقرّر أنه رجل التوحيد والوحدة [الرجل] الذي رفض التفرق في الدين رفضاً حاسماً، فلم يكن من جنس مَنْ ينشئون الجماعات والأحزاب ليضيفوا إلى أرقام المذاهب والطرائق المزق رقما جديداً، ولكنه دعا لتحقيق الرقم الفرد الذي لا يقبل التجزئة ألا وهو الإسلام، والإسلام طريقة واحدة لا تتفرّع ولا تتعدّد) ص14.
وقال رحمه الله: (وكأنّ الله ادّخر الخير كله لمن هو أهله من أمراء الجزيرة… الأمير محمد بن سعود فبايعه على أن ينصره ويُعِزّ الإسلام ويحميه، وأنشأ الله على يده الدولة المسلمة التوحيدية في جزيرة العرب بعد غياب عنها دام أكثر من ألف عام، لتعود جزيرة العرب كما بدأت مركز إشعاع على العالم، وليبقى الملك في عقب هذا القائد إماماً بعد إمام ما لزموا نهج الإسلام الصحيح… لقد كان التقاء [المحمَّدَين] توفيق قدرٍ لقدر لينفذ أمر الله على يديهما معاً) ص47-48، مجموع البشير (الدعوة إلى الله على منهاج النبوة – ط. عمان).
2) الأستاذ د. وهبة الزحيلي من سوريا، أستاذ الفقه وأصوله في كلية الشريعة من جامعة دمشق؛ شارك في الندوة عارفاً بقيمتها وأهلاً للمشاركة فيها، وساهم فيها ببحث شامل عن تجديد الدين في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية منذ بدء التجديد حتى أذن الله بقيام دولته في عهد محمد بن سعود وخلفائه في المرحلة الأولى، وحتى أذن الله بتجديدها في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله وأبنائه من بعده نصر الله بهم دينه.
قال أثابه الله: (كان ابن عبد الوهاب ـ بحقّ ـ زعيم النهضة الدينية الإصلاحية المنتظر، الذي أظهر موازين العقيدة الشرعية الناصعة، وأبان حقيقة التوحيد الخالص لله عز وجل، وأن العبادة هي التوحيد، وحوّل الشراع للعمل الكامل بالقرآن والسنة ونبذ [الشرك] والبدع، والعودة إلى الحياة الصالحة الأولى… فكانت أعمال ابن عبد الوهاب وثبة جبارة وقفزة رائعة لتصحيح خطأ الناس في العقيدة والعبادة)… وتلقى ابن عبد الوهاب دورسه الأولى على فقهاء الحنابلة في العيينة، ثم في مكة والمدينة، ثم في البصرة، وكان المعلم الذي أثر في تكوين شخصيته ـ بعد ذلك ـ الفقيه الشامي الجريء أحمد بن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية… وقامت نواة الدولة السعودية بالتعاون بين ابن عبد الوهاب وابن سعود في الدرعية، وفيها التحقيق العملي لفقه ابن حنبل وابن تيمية حتى عادوا بالإسلام إلى سيرته الأولى… وكان توفيقاً إلهيّاً عجيباً لابن عبد الوهاب ذلك التلازم بين الدعوة الجديدة وقيام الدولة السعودية… وقد أضاف ابن عبد الوهاب إلى مبادئ [دعوة] ابن تيمية مجهوداً خاصاً تجلّى في [إعلانه] الحرب ضدّ [الشرك و] البدع والخرافات [بسيف] الزعيم محمد بن سعود… ولقد حوصرت هذه [الدعوة] حصاراً شديداً واستخدمت الدولة العثمانية والي مصر محمد علي أداة للقضاء على دولتهم؛ من أجل مصالح اقتصادية، ولتحقيق نفوذ وسيطرة العثمانيين، ودفاعاً عن مصالح سياسية ومادية ،لا غيرة على الدين ولا نصرة للدين). (مجموع دار البشير ـ في الدعوة إلى الله على منهاج النبوة – 1417هـ ص57-67 ط. عمان ـ الأردن).
3) الأستاذ د. عبد الحليم عويس من مصر، المستشار بالجامعة الأزهرية، قدّم بحثاً فريداً عن أثر تجديد الدين والدعوة في جزيرة العرب على الجزائر بعد دراسة دقيقة للعلاقة بين دعوة ابن عبد الوهاب السابقة في القرن الثاني عشر ودعوة (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) اللاحقة في القرن الرابع عشر من الهجرة (وعلى رأسها: ابن باديس والإبراهيمي) رحمهم الله جميعاً وأجزل ثوابهم.
قال أثابه الله: (لم تكن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلا دعوة إلى العودة الصادقة الواعية إلى الحقيقة الشرعية في مصدريها الثابتين الخالدين: الكتاب والسنة، ودعوة إلى التخلص مما خلّفته قرون التخلف من شوائب أصابت بناء المسلم الداخلي… فأصبح مسلماً [مشركاً؛ يقرأ القرآن ويؤمن بالخرافات ويصلي لله ويتقرّب لعبيده]… ركّز ابن عبد الوهاب على تصحيح العقيدة الإيمانية وتطهيرها من مظاهر الشرك التي علقت بها وإعادة المسلمين إلى عقيدة [التوحيد] كما وردت في الكتاب والسنة فلا خالق ولا رازق إلا الله، ولا يُدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يُستعان ولا يُستغاث إلا بالله [فيما لا يقدر عليه إلا الله ولا يُستعان، ولا يُستغاث بالميت ولا الغائب، تركيزاً عميقاً لدرجة أنه قام بتتبع مجالات تصحيحها ومقاومة صور الشرك في كل كتبه وخُطبه ورسائله وكانت المحور الذي تدور عليه اهتماماته… وقاوم الخرافات والبدع بكل أشكالها من تعظيم القبور والبناء عليها واللجوء إلى الموتى [وطلب المدد منهم] لأن هذا وثنية تدخل في باب الشرك إلى ما دون ذلك من بدعة المولد وبدعة المحمل التي روّجها الصوفية والرافضة… وفتح باب الاجتهاد ـ عند توافر وسائله ـ دون تعصب للمذهب… وأحيا [واجب] الحسبة أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحيى واجب الجهاد [في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله]). مجموع دار البشير (الدعوة إلى الله على منهاج النبوة) 1417 ص108-112.
وقال: (والحقيقة أن كثيراً من تلامذة جمعية العلماء الجزائريين يسجلون انتماء الشيخ ابن باديس إلى مدرسة محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله بشيء من التلقائية وكأنه أمر مقرّر لا جدال فيه والأمر نفسه بالنسبة للمؤرخين… وقد اجتمع ابن باديس بعدد كبير من أهل العلم والإصلاح أثناء رحلته إلى المشرق العربي وأدائه فريضة الحج ومنهم الشيخ البشير الإبراهيمي الذي تعرّف عليه ابن باديس لأول مرة في حياته في المدينة النبوية حيث كان قد هاجر إليها عام 1910 تقريباً، ومنذ ذلك الحين ارتبطا بصداقة متينة كان من آثارها عقد النية والاتفاق في المدينة – قاعدة السّلفيّة الأولى ـ على إقامة الحركة الإصلاحية السلفية في الجزائر.. والتشابه بل الاتّفاق في الأسس والمبادئ بين حركتين من حركات البعث [والتجديد الديني] دليل قوي على تأثر اللاحقة بالسابقة… [فهما متطابقتان في التركيز على إصلاح المعتقد، ومقاومة الخرافات والبدع التي شوّهت عقيدة المسلمين] ومقاومة الصوفية المبتدعة؛ فما نكب الأمة في عقيدتها إلا هؤلاء المتصوفة وإخوانهم [من أهل الضلال]، [وهما متطابقتان في دعوة المسلمين] للرجوع للقرآن والسنة، وتحذير الناس من الأحاديث الموضوعة، وإنكار التوسل والاستغاثة [بالأموات من الأنبياء والأولياء] والاعتماد على الله ثم على العمل الصالح في التقرب إلى الله… وهما متطابقتان في المنهاج والموضوع والأسلوب، ولدعوتهما الخصائص والسمات نفسها: القوة والجرأة والروح الإيمانية الواثقة، والاستناد إلى الدليل القوي المباشر الواضح المستَقَى من كتاب الله وسنة رسوله وفقه الأئمة الأول في الدّين). المصدر نفسه ص115-133.
ز- وكان ممّن عرفت من الفئة الثانية: ثلاثة آخرون معروفون بانتمائهم أو ميولهم الحزبية، ومن مساوئ الحزبية المبتدعة الموصوفة زوراً بالإسلامية أنها تُغشي أبصار الحزبيين عن رؤية الحق خارج حدود أحزابهم وتحتم على أسماعهم فلا يصل إليها إلا ما تهوى أنفسهم سماعه ولو كان غير الحق:
1) الأستاذ د. عبد العزيز خياط، وكان يُنْمى إلى حزب التحرير، وسمعت منه إطراء هذا الحزب وانتقاص حزب الإخوان بحجة أن التحريّين يتّبعون فكرة والإخوان يتّبعون رجلاً [وفهمت منه أنّه يقصد بالفكرة: الخلافة، ويقصد بالرجل: حسن البنّا]، وأرى أن الفكرة مثل الرجل قد تضلّ ـ ولو أعجبت المتعلّقين بها ولو أعجبهم اللفظ وشرعيّة أصل الاصطلاح ـ ولكن الذي لا يضل هو النص من كتاب الله وبيانه من السنة بفهم أئمة الفقه في القرون المفضلة. ولم أجد أثراً وتأثراً بحضوره الندوة إلا بافترائه على أهلها بأنهم (يمنعون مولد النبي صلى الله عليه وسلم ويقيمون مولداً لمحمد بن عبد الوهاب)، تجاوز الله عنا وعنه.
2) الأستاذ د. إبراهيم الكيلاني من قادة حزب الإخوان المسلمين في الأردن، وعاد من النّدوة دون أن يقدِّم لها أو يأخذ منها غير ترديد فرية المولد.
الأستاذ يوسف العظم من قادة الإخوان المسلمين ولم يكن مؤهلاً للتأثير أو التأثر لضعف مستواه العلمي وأهمّ من ذلك لحزبيته، وردَّد ـ هداه الله ـ فرية زميليه، بل تولَّى كِبْر هذه الفرية بادّعائه في مجموع للأستاذ نظام سكهجا (هداهما الله لأقرب من هذا رشداً) عنوانه: (أنّ الجامعات العلمية المرموقة والمؤسسات المعروفة أقامت مولداً بمناسبة مرور مائة عام على ولادة محمد بن عبد الوهاب).
ولا شك أنه يعلم أنّه غير صادق في دعواه (تجاوز الله عنا وعنه) فلم تُعْقَد الندوة غير مرة واحدة في تاريخ الدعوة والدولة المباركة، ولم يَعقِد الندوة غير جامعة واحدة (لا جامعات ولا مؤسسات مرموقة ولا غير مرموقة) فهل كان قصده تضخيم الفِرية؟ لا أجد محملاً آخر.
وعُقدت الندوة بعد مائتين وثمانية وتسعين عاماً من تاريخ ميلاده تقريباً وليس بمناسبة مرور مائة عام على مولده ـ كما افترى ـ، ولم تذكر كلمة المولد مرة واحدة (لا مكتوبة ولا منطوقة إلا من قِبَل مفتريها) لا في الندوة ولا قبلها ولا بعدها في تاريخ الدعوة والدولة المباركة إلا مقرونة بالنهي عنها؛ لأنها لم تَرِدْ في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أمراً ولا فعلاً ولا تقريراً، وليست من سُنن الخلفاء الراشدين المهديّين ولا أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم حتى ابتدعها بعضُ ولاة الفاطميين تقليداً لمولد عيسى عند مبتدعة النصارى، ولم تَنْه عنها دولةٌ قبل دولة التوحيد والسنة.
أما لمزهم علماء الدعوة التجديدية على منهاج النبوة بالعنف والتكفير فتكذّبه جميع كتبهم وأعمالهم وإنما هي فرية أخرى يردّدها أعداء السنة (بواقع ابتداعهم وتصوّفهم وانحرافهم عن منهاج النبوة إلى مناهج مشايخهم).
وإنما تولَّى التكفير والهجرة والتفجير والاغتيال بالأحزمة الناسفة والدعوة إلى المظاهرات والإضرابات بعض الأحزاب الموصوفة زوراً بالإسلامية، وكلها أجنبية عن دولة الدعوة الأولى بعد القرون المفضلة بفضل الله ومَنِّه ورحمته.
وقد كتبتُ إلى الأستاذ يوسف هدانا الله وإياه بتاريخ 1420/3/29 وتاريخ 1420/4/16 لعله أن يتبين خطأه فيرجع عنه، ولم يظهر لي من ردّه على رسالتي الأولى له إلا أنه لا يعي ما أُريد بيانه من الحق لأن قناعاته السابقة تحول بينه وبين ما أقول كما حالت بينهم وبين ما قيل وما كتُب في الندوة.
هدى الله الجميع لاتباع هداه ومخالفة الهوى؛ حتى لا يمنعهم التركيز على الوجه الحزبي لعُملة الحياة عن إدراك الحق والاعتراف بالفضل، و شكر الله على نعمته بالهدى بعد العمى.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومتّبعي سنته إلى يوم الدين.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن في الرياض ـ 1426هـ