رأي آخر في [الاعجاز العلمي للقرآن]

رأي آخر في [الاعجاز العلمي للقرآن]

بسم الله الرحمن الرحيم

لابدّ أوّلاً من افتراض حسنّ النّيّة في كلّ من يحاول اجتذاب النّاس إلى دينهم مهما ظهر من مجافاته طريق الصّواب فقد قال الله تعالى عن أضلّ عباده: {إنّهم اتّخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنّهم مهتدون}. ولكن لابدّ من إظهار انحرافه عن منهاج النّبوّة حتى لا يغترّ به الآخرون.

ومن أسوأِ الأمثلة على ذلك: ربط كلام الله اليقيني بالنّظريات الحديثة في الكون والحياة، وكلّها ظنّية قابلة للتّغيير والتّبديل والإهمال.

يعيد بعض الباحثين بداية هذا الانحراف إلى ما يلي:

1) محاولة بعض المفسّرين الماضين سدّ الثغرات المتوهمة في قصص الأنبياء بالتّفاصيل المأخوذة من التّوراة والانجيل؛ غافلين عن حكمة اقتصارها في كتاب الله على مواطن العظة.

2) الاحتجاج بشعر العرب على القرآن (بدلاً من الاحتجاج بالقرآن على اللغة): كما احتجّ الأشاعرة على تأويل الاستواء بالاستيلاء بـ: (قد استوى بِشْرٌ على العراق) وتأويل الكرسي بالعلم بـ: (ولا يُكَرْسِئُ علم الله مخلوق)؛ صرفاً للفظ عن ظاهره.

3) الاحتجاج بالرأي المخالف لمنهاج السّنّة في فهم الآية انتصاراً للمذهب: كما احتجّ الخوارج على ضلال عثمان وعليّ رضي الله عنهما بقول الله تعالى: {واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة} مؤكّدين رأيهم بحديث موضوع: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لعثمان رضي الله عنه: ” بك تفتح، ولعليّ رضي الله عنه: ” أنت إمامها وزمامها وقائدها تمشي فيها مشي البعير.

وكما احتجّ الاماميّة على حصر الولاية في عليّ رضي اله عنه (والأئمة من نسله) بقول الله تعالى: {إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون} وأنّها نزلت في عليّ رضي الله عنه إذ سأله سائل وهو راكع في صلاته، فأومأ إليه بخنصره فأخذ خاتمه منه.

ولعلّ أوّل من وقع في شبهة الاعجاز العلمي في القرآن: الغزالي (تـ 505) في (إحيائه) إذ ادّعى أنّ القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم، بعدد كلماته مضاعفة أربع مرّات بادّعائه أن لكلّ كلمة ظاهر وباطن وحدّ ومطلع، وفي كتابه (جواهر القرآن) يخصّص الفصل الخامس لبيان اشتمال القرآن على جميع العلوم أو الفنون الدّنيوية.

كما فَتَح الباب للخلط بين التّصوف والاسلام؛ فَتَح الباب للخلط بين الفكر والفقه في نصوص الوحي، فجاء من بعده الرّازي (تـ606) فزاد الظّنّ بلّة.

ثم استفحل الأمر فجاء ابن أبي الفضل المرسي (تـ655) فاستخرج الهندسة من قوله تعالى: {انطلقوا إلى ظلٍّ ذي ثلاث شعب}، والجبر والمقابلة من الحروف في أوائل السّور.

وفي هذا العصر الذي بهر أبصار المسلمين وبصائرهم بنظريّاته ومخترعاته، وإذا كان الكواكبي (تـ1320) هو السّابق للابتداع في التّفسير بمثل عزوه التّصوير الفوتوكرافي إلى قول الله تعالى: {ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظّلّ ولو شاء لجعله ساكناً}؛ فإن لواء الابتداع في هذا الأمر معقود للشيخ طنطاوي جوهري (تـ1358)، ففي مؤلّفه: (الجواهر في تفسير القرآن) (26 مجلداً) كثير من المضحكات المبكيات، منها: استخراج تحضير الأرواح من قول الله تعالى: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى}، وقوله تعالى: {أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها…}، وقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى…} واستنبط من الآيات أن يكون محضّر الأرواح ذا قلب نقيّ خالص كالعزير وابراهيم وموسى في الآيات المذكورة.

وبهرت لغة العصر سيّد قطب فوصف كلام الله (بالتّصوير الفنّي) و(التّصوّر الرّباني) و(الموسيقى الحادّة التّقاسيم) و(الموسيقى المطمئنّة المتموّجة).

ومصطفى محمود فتكلّم عن (سمفونيّة الفاتحة) وعن (الشفرة والرّمز والألفاظ المطلسمة) في القرآن، وفي محاولة كلّ منهما (الأديب والطبيب) تفسير القرآن ما يفوق ذلك افتئاتاً على اللفظ والمعنى، وانحرافاً عن شرع الله ومنهاج خيار هذه الأمّة.

وإذا لم يقف ولاة أمر المسلمين في وجه هذا الهجوم الشّرس على تفسير كلام الله بغير علم ولا هدى، من قبل الأدباء والوعّاظ والورّاقين وتجّار الدّين، فليس من المستبعد أن يحدث في الاسلام ما حدث في النّصرانيّة عندما أرادت اللحاق بركب العصر العلمي فأدخلت في تفسير الأناجيل دراسات الفلك والرّياضة والعلوم الطّبيعيّة والفنون التّطبيقيّة، ولما تغيّرت النّظريّات مع الزّمن (كما يحدث دائماً في النّظريّات الظّنّية) فقد الدّين النّصراني احترامه بين أكثر أهله، وقد رأينا اليوم انصراف الشباب المسلم عن تفاسير الأئمّة في القرون الأولى (وهم أهل اللّغة التي أنزل الله بها القرآن وأهل العلم الشرعي المستنبط من الوحي) إذ أغشاهم البريق المؤقّت للتّفاسير العصريّة عن التّمييز بين الحقيقة والخيال.

وإعجاز القرآن عرفه المسلمون الأوائل القدوة في فصاحته وبلاغته وحججه البالغة وإخباره عن غيب لا يعلمه إلاّ من أنزله، وبدعة الإعجاز العلمي للقرآن لا تعدوا أن تكون إهانة للقرآن وإعلاء لنظريّات الملحدين.

وصلى الله وسلم على محمد وآل محمد

كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن