رأي حُرٌّ في فتنة سوريا وغيرها

رأي حُرٌّ في فتنة سوريا وغيرها

بسم الله الرحمن الرحيم 

أكثر الآراء مقيَّدة بالتقليد، وبالنقل عن وسائل الإعلام الفاسقة، وبالعاطفة (أي الهوى) مع فئة أو ضدَّ فئة، ويجمع الثلاثة البعد عن التثبُّت الذي أمر الله به كل مؤمن:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات:6]- وفي قراءة مشهورة: {فتثبَّتوا} ـ، ويجمع الثلاثة غياب العدل الذي أمر الله به المؤمنين في معاملة أعدائهم الذين صدُّوهم عن المسجد الحرام: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ولأنَّ الله هيَّأ لي ما لم يهيِّئه للأكثرين؛ فأقمتُ في بلاد الشام أكثر من عشرين سنة في خدمة الدعوة على منهاج النبوة التي تبثها دولة التوحيد والسنة في أنحاء المعمورة، وما يتبع ذلك من تقديم الغذاء والكساء والكتب الدينية المطبوعة محليًّا، أو المقدم عَيِّنات منها لمدير مكتب الحدود، وبناء المساجد ونحو ذلك. ومع أنِّي ابتُليتُ بما لم يُبتل به الأكثرون من المضايقات الأمنيَّة، فلا أختار لنفسي إلا ما اختاره الله لي من قول الحق والعدل ولو خالفه الأكثرون:

أ– سبق هذه الفتنة فتنة أخرى قبل (30) سنة، لو نعتبر:
1– بدأت الفتنة بمظاهرة في حماة احتجاجًا على حذف ثلاث كلمات تُقرر أن: (الإسلام دين الدولة) من الدستور الجديد. وقد وُفِّق الشيخ مُلا إسماعيل رحمه الله (شيخ حمدي السلفي وفقه الله) في إيجاز القصة بقوله: (أخطأ المتظاهرون لتمسُّكهم بهذه الجملة لأنهم يعلمون أن الإسلام لم يكن دين الدولة منذ الحكم العثماني، وبخاصة في الاعتقاد أعظم أمور دين الإسلام، وأخطأت الدولة لحذفها ثلاث كلمات كان الأولى إثباتها درءً للفتنة).
2– وفرَّق رجال الأمن المظاهرة كالعادة، وكالعادة ردَّ المتظاهرون بالعنف فحاولوا تفجير مركز للجيش في الأزبكيِّة من دمشق، ولعله أول تفجير انتحاري، ولما وَجَد سائق سيارة المتفجرات عوائق اسمنتيَّة تحول بينه بين الدخول بسيارته إلى المركز اضطرب وفرَّ تاركًا السيارة تنفجر في الشارع فقتل عشرات من المارَّة.
3– وتطور التظاهر إلى عصيان مسلّح، وكانت الغلبة لسلاح الدولة، فهرب قادة العصيان إلى البعث العراقي، وانتهت أحلام اليقظة بعد أن سُمِّي وزراء الدولة الجديدة التي ماتت قبل أن تولد، ولعلَّ الله اختار الخير فإن أخطاءها محسوبة ظلمًا على الدين، أما الدولة الحاكمة فأخطاؤها محسوبة على العروبة والاشتراكية، ولن يقبل منها صرف ولا عدل، ولم تتأثر مناهج التعليم الدينية بالعروبة ولا بالاشتراكية، بل إن مقرر العقيدة في المعاهد الحكومية الدينية الذي أُلِّف في عهد حافظ الأسد خير من مقررات العقيدة في جميع المدارس الدينية الخاصة، ومن بينها مدارس حزب الإخوان المبتدع، وخير من المقرر في معهد أبو النور لمشيخة الطريقة النقشبندية من تأليف عبد المجيد الزنداني تجاوز الله عنه. وقد ألَّف المقررَ الحكومي: البُغا والخنّ وقلعجي، وخيرهم: علي الشوربجي.
4– تراوحت الاحصائيات عن عدد القتلى في حماة نتيجة لهذه الفتنة بين (20000) كما ذكرت مجلة المجتمع الإخوانية في الكويت و(30000) كما ذكر أمين الندوة العالمية للشباب الإسلامي الإخوانية في الرياض و(70000) كما ذكر الشيخ محمود الإستنبولي من سوريا رحمه الله. ثم ظهر تقرير تحالُف الثوار (إخوان وقوميين عرب وبعثيين عراقيين وسائر الخارجين على الدولة على اختلاف انتماءاتهم بين إسلامي وعلماني) بعنوان: (حماة مأساة العصر) فعدوا نحو (3000). ومع أنَّ أقل تقدير باسم الثوار؛ فلا يزالون هم وغيرهم يكيلون بالألوف وعشرات الألوف، ولا ذكر للأرقام بين (1) و(999) فهي لا تصلح للإثارة ولا لجمع التبرعات، أما آيات التثبت والعدل والوزن بالقسطاس المستقيم فالغالب أنها تُقرأ للحفظ لا للتدبر ولا للعمل، نستغفر الله ونعوذ به من أن نَظلِم أو نُظلَم.
5– وانتشرت الشائعات بمنع اللحى والحجاب ومحو (حماة) من وجه الأرض؛ فذهبتُ فور توقُّف القتال، وشاء الله أن يكون جاري في الصلاة ضابط مُلتحٍ، وعرفتُ لأول مرة أن الجيش السوري لا يمنع الإلتحاء بين أفراده خلافًا لكثير من الدول العربية والمسلمة، ولم أر حجابًا (بعد السعودية) أكثر منه في سوريا، وزرتُ حماة مع بعض إخواني في الدين والنسب أكثر من مرة، وفي إحدى المرات اصطحبنا سوريًّا وَعَدَ بإِطْلاعنا على الدمار؛ فلم نره في بيت واحد، ولم يزل أمين الندوة العالمية الإخوانية حتى مات رحمه الله يؤكد محو (حماة) من وجه الأرض، بل ردَّد هذه الشائعة قبل أشهر كبير القضاة (في بلد مسلم)، مع أنه لم يُبتل باتباع المناهج الحركية الحزبية المبتدعة، ولكنه لم يسلم من اتباع دعاياتها المضلة، وردد كبير القضاة فرية قتل عشرات الألوف، والحقيقة أن الأُذن قد تَحلُّ محل العقل في هذا العصر إلا لمن رحمه الله؛ فكيف إذا حلت محلَّ الخُلُق الشرعي!؟
ب- وجاءت الفتنة الحاضرة، ورأيتُ فيها أنها:
1– بدأت تقليدًا للفتن المتتابعة التي كانت شرارتها الأولى إحراق تونسيٍّ نفسه سخطًا على تقدير الله رزقَه، عافانا الله مما ابتلاه به، واغتنمها الحزبيون والحركيون الغوغائيون في عدد من بلاد العرب مخالفة لشرع الله وإفسادًا في الأرض. فشرع الله ينهى عن منازعة من ولاه الله الأمر إلا أهل الحل والعقد إذا رأوا كفرًا بواحًا معهم عليه من الله برهان: آية محكمة أو حديث صحيح بفهم فقهاء الأمة في القرون الخيرة، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، والفساد في الأرض يلازم المظاهرات والاعتصامات والثورات والاضرابات منذ بدايتها حتى نهايتها، ينقص الأمن والأنفس والمعايش، والخدمات التي توفرها الدولة غالبًا مهما كان حالها.
2– في الفتنة الأولى بقي النزاع بين الراعي وعدد من أفراد رعيته، وقام الراعي بما يمليه العقل ويُقرُّه الشرع: مقاومة الفتنة إلى حدِّ قتل الباغي أو سجنه أو تعزيره، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، ولأنَّ السلفيين يُحَكِّمون ما أنزل الله فلم يَخرجوا ولم يفسدوا ولم يَقتلوا، وعلى هذا لم يُقتل منهم أحد ولم يُسجن منهم إلا الشيخ محمد عيد العباسي، ووكَّد لي بعد خروجه من السجن أنه خرج عن منهاج السنة فأعطى قريبًا له مالًا طُبع به ديوان لمروان حديد من حزب الإخوان، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، بل يثير الفتنة بين الراعي والرعية كعادة الحزب المفسد، وفهمتْ منه أنه اشْتُرِيَ ببعض المال سلاح لقتال ولاة الأمر.
وفي الفتنة الأخيرة شاركتْ الأمم المتحدة وأمريكا وأوروبا وغيرها في الفساد بحجة أن الراعي يقتل رعيَّته، وفق مبالغات وسائل الإعلام وتقارير الثوار، وبحجة رفع الظلم عن الثائرين فيما يُسمَّى: الشرعيَّة الدوليَّة؛ أما شريعة الله في آية الحرابة وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحدٍ، يريد أن يشق عصاكم ويفرِّق جماعتكم فاقتلوه رواه مسلم؛ فتبقى في الكتاب والسنة إلى أن تكون معنا.
ج- يحتج المنتمون إلى السنة بأن رأس الدولة ينتمي إلى طائفة قال عنها ابن تيمية رحمه الله: أكفر من اليهود والنصارى:
1– هل يجوز تحكيم كلام ابن تيمية رحمه الله عن أُمَّةٍ خَلَت قبل عصره على مُعيَّنٍ بعد موته بسبع مئة سنة؟!
2– وهل كان المنتمون إلى السنة (منذ عصره إلى يومنا هذا) من أهل السنة حقًّا (غير النَّادر)، وقد نفوه وسجنوه حتى مات رحمه الله لجهره بالتوحيد والسنة، والأكثرون يقترفون أو يقرون الشرك والابتداع!
واليوم (في كل بلاد الشام المباركة المقدسة): أكثر أوثان المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة والأنصاب والأشجار المعتقد فيها والمدعوِّ من سُميتْ باسمه هي خاصة بالمنتمين للسنة أو مشتركة بينهم وبين اليهود والنصارى (كما في المسجد الإبراهيمي بالخليل من أرض فلسطين: (4) لليهود والنصارى، و(7) للمنتمين للسنة)، ودعاء غير الله أسوأ ما يُميِّز الطوائف الأخرى، ويجتمع المنتمين للسنة مع المنتمين للشيعة على وثن باسم السيدة زينب، وسمعتُ بأذني مرة رئيس مؤسسة دينية يطلب من آخر ذبح خروف عند السيدة زينب كفارة ظلمه له! ويجتمع المنتمون للسنة مع النصارى على تقديس ثلاثة أوثان باسم الخضر، جُهِّز أحدها بمذبح للقرابين في بلد واحد، ومع غيرهم أو منفردين على آلاف الأوثان في مختلف بلاد العرب والمسلمين عدا السعودية وبعض دول الخليج. وأشهد أن الذبح لوثن باسم خالد بن الوليد في حمص لم يتوقف إلا منذ عشرين سنة، أوقفه وزير للأوقاف في دولة البعث، وأوفق معه الصلاة على أبوي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان في أحد مساجد المنتمين للسنة، ردهم الله إلى دينه الحقِّ، وهذا لا يعني بالضرورة توقف أصحاب القربان الوثني عن نذرهم لغير الله، ولكن الوزير رحمه الله عمل ما استطاع فأمر المسؤول عن جمعية خيرية باستلام القربان وذبحه في الجمعية باسم الله، وتقديم لحمه للمحتاجين، ومن سننه الحسنة أنه أخذ موافقة حافظ الأسد على فتح مراكز الأسد لتحفيظ القرآن في كل مسجد يرغب أهله في ذلك، وفي حالة نادرة تحول المركز إلى معهد شرعي سلفي ثم ابتُلي بالمبتدعة فأفسدوه! ومن خير سننه الحسنة (في عهد حافظ الأسد) التي ميَّزه الله بها هدم عدد من الأوثان في منطقة القزَّازين شارع بغداد من دمشق، وهذا لا نعلم أنه حدث في سوريا منذ عهد ابن تيمية رحمه الله، بل إن جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى وهو من خير السلفيين في القرون الأخيرة أبرز قبر ابن القيم رحمه الله وزيَّنه بالرخام، ولعله هو الذي أبرز قبر ابن تيمية رحمه الله وزيَّنه بالرخام.
د- تجاوزات موظفي المؤسسات الأمنية قد تكون هي شرُّ ما يسيء إلى علاقة الراعي بالرعية في كل نظام (وبخاصة النظم الاشتراكية)، بل قرأتُ في مذكرات مسؤول أمني متقاعد في بريطانيا أن المؤسسة الأمنية وأفرادها يعيشون على الظن ولولاه لما تطورت المؤسسة وكثر موظفوها، ثم إن الأمنيين تحيط بهم هالة من السرية يأمنون في ظلها المحاسبة الدنيوية، وقليل منا من يستحضر المحاسبة والمعاقبة الأخروية، نستغفر الله.
والعربُ لا يحتاجون إلى مسوِّغٍ لمعاداة ولاة أمرهم، ومنازعة الأمر أهلَه؛ فقد ثاروا على خليفة النبي صلى الله عليه وسلم الثالث عثمان رضي الله عنه وقتلوه، وعلى الخليفة الرابع ابن عمِّ رسول الله فقتلوه، ولو لم يوجد ناعق الثورة الفرنسية، ثم الثورات العربية منذ جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم والسَّلال والقذافي وصدام والبعث العراقي والسوري، وثورة الخميني وهي الأقرب إليهم تؤزهم أزًّا، ولو لم يُحرق التونسي نفسه؛ لوجدوا قدوة أخرى.
ولقد تسوَّر الأمنيون منزلي في سوريا الاشتراكية وفي الأردن الرأسمالية؛ عرفتُ ذلك من آثار أحذيتهم العسكرية، ومن أنهم لم ينقصوا المنزل شيئًا من أثاثه، غير بضعة كتب يعلم الله أني لم أجز نشرها لما فيها من تعد على ولاة الأمر هنا أو هناك، ومع ذلك لم تأخذني العزة بالإثم بل استمر نهيي عن منازعة ولاة الأمر ولو جاروا ولو ظلموا، والظلم غالبًا يتعلق بصغار الأمنيين وهم من أفراد الشعب، وقد لا يرضى به كبارهم بدليل أن حافظ الأسد نفى أخاه رفعت، ونفى ميشيل عفلق لتجاوزهما الحدود في العلاقة بين الراعي والرعية.
وإني لأدعُو لجميع ولاة المسلمين بالهداية والتوفيق، وأدعو لعامتهم أن يطهِّر قلوبهم وأعمالهم ومساجدهم من الشرك والبدع والفتن والمعاصي ما ظهر منها وما بطن، ونحو ذلك مما يُكمل نقص القانتين والخطباء الذين يدعون لهم بالنصر، ويحرمونهم الدعاء بالهداية وهم في أشد الحاجة إليها.
قال لي عبد الله المطوع ومانع الجهني رحمهما الله وهما ممن خدع بالدعاية الإخوانية: لمصلحة مَنْ تنفي قتل عشرات الألوف ومحو حماة عن وجه الأرض؟ قلت: لأن حزبكم وحلفاءه لم يزيدوا في دعواهم عن آحاد الآلاف، وعادتهم المبالغة، ولأن حماة موجودة على وجه الأرض، فلمصلحة الشرع والحق والعدل واتباعًا للآية المحكمة والحديث الصحيح، ومَنْ رضي فله الرضى، ومن سخط وهم الأكثرون دعونا لهم بالهداية وبكلمة الحق والعدل في الغضب والرضا. (7/5/1433هـ).