مخالفة الأكثرين أقرب إلى الحق من موافقتهم [3]

مخالفة الأكثرين أقرب إلى الحق من موافقتهم [3]

بسم الله الرحمن الرحيم

15- وخالفتُ الأكثرين في اتخاذهم المعتصم (ابن هارون الرشيد: 227) قدوة، وفق الإشاعة عنه بأن امرأة استغاثت باسمه: (وامعتصماه) في بلاد الروم (تركيا اليوم) لينقم لها من رومي أهانها؛ فجرَّ على الروم جيش المسلمين! ولو صحَّت الإشاعة؛ كانت المرأة اقترفت الشرك الأكبر بدعائها الغائب، وتركها دعاء الخالق القادر الذي لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه؛ وكان المعتصم أوبق نفسه باستجابته لكلمة الشرك، وبجعله آلافًا من المسلمين عُرضة للهلاك، فما دونه من الضيق والضنك والشدة.

والقتال لا يكون في سبيل الله إذا كان باعثه النخوة والحميّة والغضب!؛ بل لهدف واحد خالص لله تعالى: ” لتكون كلمة الله هي العليا“.

وليس من العدل الذي أمر الله به بين المسلم وعدوِّه الكافر (فضلًا عن الكتابي) أن تؤخذ أمَّة بخطإ فرد منها؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[الأنعام: 164]، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا[المائدة: 2]، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة 8]، ولا خير في الفتوحات التي لا تكون غايتها الدعوة إلى الله تعالى.

والمعتصم تجاوز الله عنه لا يصلح قدوة في دين ولا دنيا، فيما قال عنه الذهبي رحمه الله في (سير أعلام النبلاء): (ذا قوة وبطش لكنَّه نَزِرُ العِلم، وامتحن الناس بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار، وأخذ بذلك المؤذنين وفقهاء المكاتب).

وقال عنه الزركلي في (الأعلام): (كرِه التعلم في صغره؛ فنشأ ضعيف القراءة، يكاد يكون أمِّيًّا).

وتميَّز مع أخيه المأمون وابنه الواثق ـ تجاوز الله عنهم ـ بالأمر بالمعصية في الاعتقاد (القول بخلق القرآن) وهو ما لم يفعله والٍ قبلهم ولا بعدهم من ولاة المسلمين!؛ واستمرت فتنتهم نحو (15) سنة، قتل فيها وجلد وسجن كثير من العلماء الذين ثبتوا على مخالفة المعتزلة (وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل) ومنعوا من الدعوة إلى الدين الحق، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين جنَّته ورؤيته يوم القيامة.

وفي عهدهم صُرِفت أموال المسلمين لملوك الروم للحصول على كتب الفلاسفة، ثم ترجمتها، وحثِّ الناس على قراءتها (فيما قاله الزركلي والذهبي)، ولعلهم لم يكونوا ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6]، ولعل شر الفلسفة أقلُّ ضررًا من فكر المعتزلة الذي ينسب إلى دين الإسلام فيَلتَبس على المسلمين.

وفي عهدهم تجاوز الله عنهم جُلب الأعاجمُ للإعانة على الحكم ثم شاركوا فيه، وفي النهاية انفردوا به.

16- وخالفتُ الأكثرين بالتوقُّف عن قبول ما يُسمّى بـ: (الطب النبوي)، قبل التثبت من صحة سنده مرفوعًا، أو في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فوجدتُ أن تسعة أعشاره، بل أكثره لا يصح نسبته إلى الوحي، بل صرَّح ابن القيم رحمه الله أنه أخذ بعضه من الوثنيين أو الفلاسفة أو أطباء العرب أو العجم مسلمين أو غير مسلمين، وزاد المحققان الأرنؤوط ـ الطِّين بِلَّة ـ فأضافا إليه ما نقلاه عن الطبيب عادل الأزهري! وقد اعتمدتُ بعد الله على تخريجهما أثابهما الله، لا على الأزهري ولا غيره.

وردَّ ابن القيم رحمه الله على سؤال محتمل: ما لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الباب؟ ولم يردّ على السّؤال: ما للهدي النبوي وظن غير المعصوم؟

ومع هذا فلا زلتُ أعد كتاب ابن القيم خير كتاب طبع بعد كتاب الله من حيث الصحة والشمول والايجاز وسهولة الاستفادة منه لكل مسلم، وأتقربُ إلى الله بالدعاء له كل ليلة، مكافأة صغيرة لفضل الله به علينا جميعًا.

ولإدراكي فضل الله به وعليه، وغزارة علمه، وما نقل الثقات عن ورعه وزهده وعبادته؛ ظننتُ أني أكافئه بتهذيب كتابه وإبراز أهم ما أورده من الهدي النبوي، وتقديمه على ما دونه: أحكام الاعتقاد ثم العبادة ثم المعاملة قبل العادات، وهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، والأمر بتوحيد العبادة والنهي عن الشرك في العبادة، قبل هديه في الصلاة وبقية أركان الإسلام فما دونها، وحذف ما نقله عن ابن بختيشوع وجالينوس وأبقراط وابن سينا وأفلاطون وأضرابهم، بل حذف أكثر استطراده رحمه الله في ذكر الخلاف في أمر فيه سعة مثل: جلسة الاستراحة والقنوت، ونحو ذلك، ليسهل على كل مسلم اقتناؤه والاستفادة منه، ولم أحذف بابًا واحدًا من أبوابه، بل زدتُ تبويبًا وعنونة للدعوة والتوحيد والشرك لإبرازها فهي أعظم هدي الرسل جميعًا ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ، ولم يَزد المهذَّب عن نصف مجلد أخذ من خمسة مجلدات.

ولولا يقيني بـ: (الوحي في الكتاب والسنة) بأن مخالفة الأكثرين أقرب إلى الحق لما جرؤتُ على التقديم بين يدي هذا العالم الرباني الفذ رحمه الله، بعد أن أقرَّ كتابه الفريد جهابذة العلماء في سبعة قرون مضت منذ ألَّفه.

17- وخالفتُ الأكثرين بمحاولتي تحرير المسلم من الالتزام بما لا يلزمه من الفنون الدنيوية التي تُزاحم ما ألزمه الله بتعلمه من أمور دينه، فقَبْل أربعين عامًا عُيِّنتُ مديرًا عامًّا للتعليم الثانوي في بلاد ودولةٍ ميزها الله في القرون الثلاثة الأخيرة بتجديد الدين واعادته إلى أصله ثلاث مرات، فلم يُبن فيها مسجد على قبر، ولا وثن (مقام أو مزار أو ضريح)، ولا زاوية صوفية، ولم تُعلن بدعة منكرة في الدين، ولا حكم بغير شرع الله في اعتقاد ولا عبادة.

وقد خَبَرْتُ الإدارة قبل التعليم الثانوي، في البعثات الخارجية والثقافة العامة، لا تَزيد عن الإشراف العام والتطوير الشكلي: (زيادة عدد المدارس، عدد الطلاب، عدد المدرسين، زيادة الميزانية المخصصة لهذا القسم مثلًا)، لا يخطر ببال أحد الخروج عن الهيكل الأوروبي للتعليم (منذ أدخله الاستعمار بلاد العرب)؛ لألفة الناس (داخل المؤسسة التعلمية وخارجها) له وتعودهم عليه.

ولكنِّي بسابق خبرتي النظريَّة والعمليَّة في التربية والتعليم أكثر من ربع قرن، تيقنتُ أنها لا تقوم على أسس ثابتة (بالمعيار العقلي فضلًا عن الشرعي) وإنما تحولتْ إلى موازنة بين مصلحة الإدارة أكثر، مصلحة التعليم أقلَ.

وتيقنتُ أن 15% من الطلاب فقط يصلون إلى الثانوية بنجاح في تسع سنين، و85% يَرسبون أو يتسربون بلفظ التعليميين، وأكبر سبب: إلزام جميع الطلاب باستيعاب جميع المواد المقررة في زمن موحَّد، رغم اختلاف عقولهم بقدر الله على كل منهم، وبصرف النظر عن حاجاتهم وقدراتهم.

ولأن الله تعالى لم يلزم عباده في كل زمان ومكان إلا بما يقدرون عليه من أمره وشرعه، وفي بلادنا: باللغة العربية؛ رأيتُ أن ليس من العدل إلزامهم بغيرها، ولأن الله تعالى قال: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[النور: 59]، فالحد الفاصل بين الطفولة والرجولة والتكليف: بلوغ الحلم، ولأني مسؤول عن التعليم في المرحلة الثانوية بدأتُ بها، فألزمتُ كل طلابها بدراسة العلوم الشرعيَّة والعربيَّة، ولهم أن يختاروا معهما ما يحتاجون ويستطيعون دراسته من الفنون الدنيوية. واستمرت التجربة في أربع مدارس نحو عشر سنين. وفوجئ التعليميون بنجاحها فتقرر (تطويرها) وتعميمها؛ ولم أرض بالتطوير لما تضمنه من عودة إلى التقليد فتركتُها، وتبعتني هي بعد بضع سنين فألغيت.

وبعد ثبات الثانوية بدأتُ تجربة التصحيح بالجمع بين: (المتوسطة والإبتدائية) ولا تزال قائمة بعد نحو خمس وثلاثين سنة من تأسيسها، ولكنِّي تركتُها بتركي الثانوية وانتقالي من العمل في التعليم العصري إلى العمل في التعليم الشرعي اليقيني الثابت: الدعوة إلى الله على منهاج النبوة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ولا تزال بعض جوانب تجربة التصحيح تفرض نفسها ما عدا أساسها وخير ما فيها: تمييز الدين والعربية.            

18- وخالفتُ الأكثرين بالنهي عن مقاطعة الدنمرك تجاريًّا بقصد التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله؛ لمعاقبة أمة عددها أكثر من خمسة ملايين من أهل الكتاب بخطأ فرد منهم، ولم يقاطع النبي صلى الله عليه وسلم من بقي في المدينة من يهود، ومات ودرعه مرهون عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، ولم يقاطع من حاربهم منهم في خيبر (تجاريًّا) بل آجرهم خيبر بشطر ما يخرج منها، وهم أكثر من آذوه في المدينة النبوية وحاربه فيها وخارجها.

وكان ضرر مقاطعة بضائع الدنمرك على المسلمين والإسلام أكثر من ضررها على الدنمركيين، بما فعله السفهاء من الغوغائيين والحركيين ومن خدع بهم من الأئمة والخطباء وطلاب العلم؛ فانتشرت إساءة دنمركي (بلغته المجهولة) في كل بلاد الدنيا وبكل لغاتها، ولم يخسر بصفة مؤكدة غير المسلمين الذين استوردوا بضاعة دنمركية قبل الإساءة والمقاطعة، وكان المسلمون لا يجمعهم إلا الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله) فجمعتهم: (إلا محمد).

قد يجوز للعرب مقاطعة إسرائيل تجاريًّا، وقد يجوز لثمامة بن أثال أن يمتنع عن بيع الحنطة لمشركي قريش، الأولى: للدنيا، والثانية: لربطها بما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم، واختار الشفاعة لقريش لو صحت الرواية! أما بعد انقطاع الوحي فليس للمسلم في الدين إلا ما مات عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وحفظه الله في الكتاب والسنة بفهم الموقعين عنه (بلفظ ابن القيم رحمه الله) من فقهاء القرون الخيرة: الصحابة ثم التابعين ثم تابعي التابعين ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ.

19- وخالفتُ الأكثرين بالثبات على ما ارتضاه الله لرسوله وارتضاه الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه: (وصفه بالعبودية والرسالة)، وإنكار ما أضافه المتصوفة وسائر المبتدعة واستدركوه على الله وعلى الرسول مثل: خدُّه أحمر مورَّد، وريقه سُكَّر مُكرَّر، بطنه طي الحرير، حين يشتد الزفير، أو: خدُّه مثل التفاح الشامي؛ بل أنكرتُ ما شاع عند أهل السنة مثل: صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وما ادعاه المتصوفة من أن له تسعة وتسعين اسمًا، وفي الصحيحين: (إن لي خمسة أسماء: محمد وأحمد والحاشر والماحي والعاقب).

أما محمد بن علوي مالكي فلعله بلغ الدرك الأسفل من الغلو والظلم والعدوان والقول على الله بغير علم في كتابه الشركي (الذخائر) و(الشفاء) فافترى على الله وعلى الرسول بأنه سُمِّي بنحو سبعين اسمًا من أسماء الله! (ص 126) وفي الأول بأن له كل الأسماء الإلهية (ص202)، اقرأ ان شئت (مهذب جلاء البصائر) لكاتب هذه الأسطر، ومؤلف الأصل: فضيلة الشيخ سمير بن خليل المالكي (ابن عمِّ محمد بن علوي، وفيه أقوى ردٍّ على افتراءات ابن عمِّه) نصر الله به دينه.

20- وخالفتُ الأكثرين بتجنب الدفن بالبقيع؛ فلما كان والدي ـ رحمه الله ـ قد ميَّزه الله بلقائه واقفًا على باب المسجد النبوي في انتظار صلاة العصر، ودفن في البقيع (وتبعه عمي وعمتي وأخي وعدد من أهلي ومشايخي) رَغبتْ والدتي في الدفن بجواره، وحُفر لها القبر تلو القبر ودفن فيها من سبقها من أهلي، فخشيتْ ألَّا يبقى لها مكان تدفن فيه بجوارهم، فبينتُ لها أنه لا يصح حديث واحد في فضل البقيع على غيره من حرم المدينة النبوية (فيما أعلم)، واخترتُ لها ولنفسي الدفن في مقبرة (العدل) داخل حدود حرم مكة المباركة لفضل مكة على المدينة، وبالتالي فضل أرض (العدل) على أرض (البقيع)، ودفن بالبقيع بعض خيار الأمة، وبعض شرارها (من المنافقين وغيرهم)، ومقبرة (العدل) بَدَأها ودفن فيها السلفيون تجنبًا للدفن في مقبرة (المعلاة، التي سمَّاها مبتدعة الأعاجم: جَنَّة المعلاة) لأنها (مثل البقيع وما يُسمَّى: (مقبرة ابن عباس) في الطائف)؛ وُجِدتْ قبل العهد السعودي السلفي، ومردت على الابتداع فلا يبقى القبر بضع سنوات على الأكثر حتى ينبش ويدفن فيه آخر؛ أما القبور على منهاج السلف فلا تنبش حتى ينفخ في الصور إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى.

21- وخالفتُ الأكثرين بتجنب السجع في عناوين المؤلفات (وغيرها) ولم يكن تكَلُّفه سبيلًا للسلف وأتباعهم وآخرهم (وخيرهم) ابن تيمية ـ رحمهم الله جميعًا.

وخالفتُ الأكثرين بتجنب استجداء التقريض والتقديم، وأعدُّه تزكية للنفس مبطنة، بل أعدت طباعة مؤلفي الأول: (الدعوة إلى الله في جزيرة العرب) لأن المشايخ الذين تفضلوا بنشره قدموه من ثلاثة (صالحين) لست أهلًا لتقريضهم: د.صالح الفوزان، ود. صالح السحيمي، ود. صالح العبود؛ فأعدتُ طباعته من دون المقدمات لا أفرض التقريض أو التزكية على القارئ، جزاهم الله خير الجزاء.

وخالفتُ الأكثرين بتجنب تلوين الغلاف، وأول من ابتدعه من العرب قبل أكثر من نصف قرن: نزار قباني، وأنكر عليه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله فكتب في الجريدة: ظهر ديوان جديدة لنزار قباني مُزوَّقًا بما يليق به من الألوان التي تتزوَّق بها المومسات لترويج بضاعتهن المحرمة. ولم يدرْ بخلدهِ أن المطبوعات الدينية ستنافس القباني ومومساته.

كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن في 1433/4/4هـ