رأي آخر في نعمة الله بالرّخاء أو نقمته

رأي آخر في نعمة الله بالرّخاء أو نقمته

بسم الله الرحمن الرحيم

الرخاء مثل الفقر ـ وأمثالهما من أقدار الخالق ـ قد يكون نعمة وقد يكون نقمة، وإن رآه المخلوق غير ذلك؛ قال اللهتعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر: 15 –17]. عرف هذا سليمان عليه السلام عندما أعطاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده؛ فسخر الله له الريح تجري بأمره رخاء وعاصفة، وسخر له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، وعلمه منطق الطير، وآتاه من كل شيء، قال الله تعالى عنه: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]، بل عد ابن القيم رحمه الله إخراج آدم عليه السلام من الجنة متضمنًا نعمة من الله عليه ـ استحقها بأوبته إليه ـ: لذة العودة إلى الجنة بعد مكابدة الحرمان منها، وكبد الحياة على الأرض.

يكون الرخاء نعمة إذا استعان به الإنسان على طاعة الله، ولم يخرجه عن فطرة الله التي فطره عليها في الدين والدنيا. ويتحول إلى نقمة إذا اشتغل به عن طاعة مولاه، فاستمرأ الكسل عن السعي والعمل الصالح لدينه ودنياه بخدمة نفسه، وأخيه، وأمته، ودينه، وطاعة من ولاه الله أمره.

وكما يغلب على الكثرة أن تكون مع الضلال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]؛ يغلب على الغنى والترف أن يقود إلى الطغيان: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116].

وكثير من الشعوب الغنية في العالم ـ خلال المائة سنة الأخيرة ـ وقعت في حبائل الرخاء وعواقبه: فقد الحافز للعمل، والكسل، والسمنة، ومختلف أمراض كثرة الأكل ونعومته، وقلة الحركة (جسمية ونفسية، دينية ودنيوية).

وأبرز مثال حي على مقدمات الترف ونتائجه: جزيرة (ناورو) في المحيط الهادي. ولذلك رأيت تقديم ملخص ـ للعبرة ـ عن تقرير نشرته مجلة (ريدرز دايجست) العالمية عدد مايو 1997م، يقارن بين ماضي الجزيرة وحاضرها ومستقبلها كما يتوقع لها.

(ناورو) جزيرة من جزر المحيط الهادي في منتصف المسافة بين (هاواي) و(استراليا) صغيرة المساحة، قليلة عدد السكان، اكتشفتها ـ قبل قرنين ـ قائد سفينة إنكليزية لصيد الحيتان، وسماها: (الجزيرة اللطيفة)، كان رزقها يأتيها رغدًا، لاكتفائها بما حباها الله من نبات وثمار، وطيور وأسماك، وأيد عاملة. ومنذ مئة عام تبين أنها من أغنى المناطق في العالم بأجود أنواع الفوسفات.

حصلت على الاستقلال عام 1968، وقررت تأميم الفوسفات. وفجأة اكتشف أهلها حياة الكسل والاستهلاك الداخلي، والاستيراد والاستقدام الخارجي؛ فوفد إلى الجزيرة ما يقرب من نصف عدد السكان من العمال والسائقين والخدم الأجانب يكفون الأهالي مؤونة الحركة.

وكغيرهم لم يكتفوا بذلك؛ فامتلأت المطابخ بأفران الميكرويف وأجهزة الطبخ والتنظيف الأتوماتيكية، وضاقت الغرف بأجهزة الهاتف والتلفزيون والكمبيوتر العابثة وآلات الرياضة الصناعية المهجورة، وضاقت ساحات المنازل بالسيارات، فتعطلت الأيدي عن العمل، والأرجل عن المشي، وتعطلت القلوب عن الفكر المفيد في مستقبل الدنيا والآخرة، وتعطلت الهمم عن التنافس والتعاون في مجالات البر والتقوى والإحسان.

وبتغير نوع التغذية وكمياتها، وبفقد حوافز الحركة ظهرت أمراض الترف: 90% من السكان يعانون من السمنة المفرطة، زاد عدد مرضى القلب وضغط الدم مرتين، وعانى المواطنون من ثاني أعلى معدل لمرضى السكر في العالم: 50% ممن هم فوق 50 سنة، و30% ممن هم بين 25 و50 سنة.

وبعد عشرين سنة من الصرف بلا حساب، والتنافس على الإسراف، بدأ دخل الفوسفات يتناقص وأوشكت البيضة الذهبية على الفناء.

واليوم تواجه الجزيرة مستقبلًا موحشًا: دمرت عمليات استخراج الفوسفات أربعة أخماس مساحة الجزيرة، وهلكت الحياة الفطرية، وأسوأ من ذلك لم يعد الأهالي صالحين إلا للأعمال المكتبية: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا}[العنكبوت: 20].

والحق أن الإسراف في الاستهلاك معصية لله يشترك فيها الجميع: العالم والأمي، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والراعي والرعية. وكذلك يشترك الجميع ـ إلا من رحم الله ـ في السعي لاستجلاب المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، وتتحول الإدارات الحكومية إلى مؤسسات للضمان الاجتماعي، وتتحول الجامعات ومعاهد التعليم المتخصصة إلى مفارخ لفقس الموظفين الذين يزيد عددهم عن الحاجة، وبالتالي يعوق الأداء الصالح للمسؤولية العلمية والعملية.

ومع أن هذا الوصف ينطبق على معظم الجماعات ـ المجتمعات ـ غير الصناعية بخاصة؛ فإن الإسراف ـ الذي لا يحبه الله ـ ليس من المنكرات في برامج الدعاة إلى دين الله على بصيرة، فضلًا عمن دونهم من المصلحين، بل إن وسائل الإعلام الخاصة والعامة ـ ومن بينها ما يوصف بالإسلامية ـ تنافس الدول الصناعية المنتجة في الدعاية التجارية إلى الاستهلاك، بل يتفق الصغير والكبير على أن الدعاية التجارية في التلفزيون أقدر على اجتذاب بصر المشاهد وقلبه من بقية البرامج: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14]. مع أن نشاطنا الأكبر ليس في الانتاج بل في استهلاك ما ينتجه من نسميهم: الأعداء.

وللإقلاع عن معصية الله بالإسراف الذي لا يحبه، لا بدَّ للمسلم أن يحذر من الانشغال بحفظ كتاب ربه وتجويد تلاوته ـ فضلًا عن المعاصي والمباحات ـ عن تدبره وفقهه والعمل به، ليكون مرجعه الأول في كل أمور حياته، في كل زمان ومكان، وفي كل حال. قال الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26-27]، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].

ونستغفر الله ونتوب إليه فإن أكثرنا أقرب إلى التبذير والإسراف ـ وبخاصة في المال العام ـ منَّا إلى العدل والإحسان، وأوضح دليل على ذلك: أنَّ أحدَ من ائتمنتهم دولةٌ مسلمةٌ على ثروة البلاد، قام قبل عشرين عامًا على أبرز منابر الإعلام في البلاد يستحث الأمة على زيادة الإنفاق في مقابل زيادة الدخل، ولم يقف صوت واحد في وجه هذا المنكر ـ شرعًا وعقلًا ـ بل تسابق الأغلبية من الناس حسب استطاعتهم في الاستجابة لدعوة الشر والسفه والفساد. والأغلبية دائمًا في جانب الضلال إلا أن يشاء الله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، {لا يعلمون} [سبأ: 28]، {لا يؤمنون} [هود: 17]. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه ومتبعي سنته.

كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين، عفا الله عنه. تعاونا على البر والتقوى وتحذيرا من الإثم والعدوان.