مداواة الغلوّ بدائه
مداواة الغلوّ بدائه
بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت مقدمة الشيخ زهير الشاويش لرسالة الشيخ محمد شقره: (سيّد قطب بين الغالين فيه والجافين عليه) وبدت لي أكثر من ملحوظة عليها:
1 ـ الرسالة صغيرة وحديثة وكاتبها معروف وهو ينفي رضاه بهذه المقدمة، فما الدافع إلى كتابتها؟ الدفاع عن حسن البنا، وسيد قطب رحمهما الله وعن الإخوان المسلمين هداهم الله؛ إذن فالرسالة خيرٌ من المقدمة في التحذير من الغلو والجفاء في هذا الأمر وغيره، ولم تفعل المقدمة أكثر من تشويه هدف الرسالة حيث مالت إلى الغلو في أفراد وجفت آخرين.
2 ـ والمقدمة تخالف الرسالة في المنهاج مع أنها جاءت ـ افتراضًا ـ تأييدًا لها؛ تقول المقدمة: (إن سيدًا معذور في [عدم فهمه] توحيد الله لعدم وجود قواعد ثابتة عنده يومها)ص11.
وتقول الرسالة: (فليس يُعْذر سيد رحمه الله بخفاء جوانب من التوحيد الصحيح بدعوى أن الفترة: الزمنية التي عاش فيها).. الخ (ص35 ـ 40).
3 ـ والمقدمة يخالف بعضها بعضًا: ص5 تقول: بأن الذين شنقوا سيّدًا وقتلوا حسن البنّا (محاربون للدّين صراحة)، وهم يُعْلنون الإسلام ويظهرون أداء بعض شعائره الظاهرة، وص9، تقول بأنه: (لا يجوز أن نظن بمسلم تبنيّ العقائد المباينة للإسلام ولو أخطأ في الفهم أو قصر في التطبيق)، ومحاربة الإسلام أعظم من (تبنيّ) غيره ـ والله وحده يعلم إن كان الخلاف على السّلطة ـ كما أظن ـ أو على الإسلام ـ كما يدّعي الحزبيّون ـ ولم يُعْرف عن أيٍّ منهم الاهتمام بأعظم ما فرض الله على عباده: نشر توحيد العبادة والتحذير من الشرك فيها.
4ـ ومع أن المقدّمة توافق الرسالة في التحذير من الغلو بدا لي أنها وقعتْ فيه بقطعها بالشهادة لحسن وسيِّد رحمهما الله، وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: (لا يقال فلان شهيد) وساق أكثر من حديث صحيح يثبت ذلك (56 ـ 77). وَوَقَعت المقدمة في الغلوّ بدعواها: (أن نصيب حسن البنا ـ رحمه الله ـ من التصوف ذِكْرُه لله في الحادية عشرة من عمره مع بعض المصلّين الذين تبيّن له بَعْدُ أنهم من الخلوتية ولم ينتسب إليها) ص70، وهذا مخالف لما أثبته حسن البنّا نفسه: يقول رحمه الله في كتابه: (مذكرات الدعوة والداعية ص27، 34 ط الزهراء للإعلام العربي 1410 ـ 1990: (وظلْتُ مُعلَّق القلب بالشيخ [عبد الوهاب الحصافي شيخ الطريقة الحصافيّة] حتى التحقت بمدرسة المعلّمين الأوّليّة بدمنهور وفيها مدفن الشيخ وضريحه وقواعد مسجده الذي لم يكن تمَّ حينذاك، وتمَّ بعد ذلك، فكنت مواظبًا على زيارته كل يوم تقريبًا)، (وواظبت على الحضرة [الصوفية] في مسجد التوبة كل ليلة، فرجوته [بسيوني العبد] أن يأذن لي يأخذ العهد [الصوفي] عليه فقبل.. وحضر السيد عبد الوهاب [الحصافي] إلى دمنهور وتلقيت الحصافية الشاذلية عنه وآذنني بأدوارها ووظائفها، وكانت أيَّام دمنهور ومدرسة المعلمين أيَّام الاستغراق في عاطفة التصوف والعبادة، وكانت سنِّي إذا ذاك من الرابعة عشر إلا أشهرًا إلى السّابعة عشر إلا أشهرًا، ويشهد له الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله أنه استمر في هذا الطريق إلى آخر حياته (التفسير السياسي للإسلام) ص138 ـ 139.
ويَشهَد الشيخ حسن نفسه أنه اختار شدّ الرحال إلى القاهرة: (حيث دار العلوم وحيث المقر الرئيسي لشيخنا السيد عبد الوهاب الحصافي)، مذكرات الدعوة والداعية ص52، فيقول: (كنت سعيدًا بالحياة في القاهرة هذا العام.. كما كنت أجد متعة كبرى في الحضرة [الصوفية] عقب صلاة الجمعة من كل أسبوع في منزل الشيخ الحصافي، ثم في منزل الخليفة الأول للشيخ الحصافي علي أفندي غالب) ص55، (وأذكر أنه كان من عادتنا أن نخرج في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالموكب بعد الحضرة كل ليلة من أوّل ربيع الأول إلى الثّاني عشر منه) ص58.
ولم تكن علاقته ـ رحمه الله بالتصوّف مجرّد اشتراك في الذكر الصوفي وإعجاب بالذاكرين على طريق غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بيعة صوفية على الأوراد والموالد، بل دراسة للتصوّف ـ كما يقول حسن البنّا ـ مع ثاني مؤسّس لجماعة الإخوان المسلمين: أحمد السّكري، حيث كانوا يجتمعون ليلة الجمعة في منزل الشيخ شلبي الرّحال بعد الحضرة (حيث نتدارس فيها كتب التصوّف من (الإحياء)، ونسمع (أحوال الأولياء)، و(الياقوت)، و(الجواهر) وغيرها، ونذكر الله إلى الصباح، كانت من أقدس مناهج حياتنا) ص39.
وأثناء دراسته في دار العلوم يقول: (خصّصت جزءًا من كتبي (كالإحياء) للغزالي، و(الأنوار المحمدية) للنبهاني، و(تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب) للشيخ الكردي، وبعض كتب المناقب والسِّيَر، لتكون مكتبة دورية خاصة بهؤلاء الإخوان يستعيرون أجزاءها يحضّرون موضوع الخُطَب والمحاضرات منها) ص61.
من هنا أُتِيَتْ أكثر الجماعات الموصوفة زورًا بالإسلامية: تأخذ منهاج دعوتها من كتب التّصوّف والابتداع والخرافة والتاريخ ولا تأخذه من نصوص الوحي والفقه فيها؛ منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين.
ويبيّن الشيخ حسن رحمه الله أنه لم يتجنّب محاباة طريقته الحصافية التي بايع عليها بسبب أنها بدعة منكرة لم يكن عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أئمة القرون المفضلة، ولكنه لم يشأ أن يحصر جماعة الإخوان في طريقة واحدة: (لم أكن متحمسًا لنشر الدعوة على أنها طريق خاص لأسباب أهمّها: أني لا أريد الدخول في خصومة مع أبناء الطُّرُق الأخرى، ومع هذا أكرمت الشيخ عبد الرحمن [سعد خليفة الشيخ الحصافي] وأحسنت استقباله ودعوت الراغبين في الطريق [الصوفي] إلى الأخذ عنه) ص88، 89.
ويؤيد هذا قوله في مجموعة رسائله طباعة المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر في بيروت، أن الحركة: (دعوة سلفية وطريقة سنّيّة وحقيقة صوفيّة وهيئة سياسية وجماعة رياضية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية) ص156، 157، وقوله ص89 ـ100: (ونظام الدعوة في هذه المرحلة ـ مرحلة التكوين ـ صوفيٌّ بَحْتٌ من الناحية الرّوحية، وعسكريٌّ بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين أمر وطاعة من غير تردّد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج). وحقيقة هذه الدعوة أنها: حقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية، أما أنها دعوة سلفيّة وطريقة سنّيّة ففي ذلك نظر، بل هناك تباين واضح بين الدعوتين والطريقتين:
1 ـ الدعوة السلفيّة والطريقة السنّيـّة منذ أرسل الله أوّل رسله حتى أرسل خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تبدأ وتنتهي بالأمر بإفراد الله بالعبادة والتحذير من إشراك الأولياء معه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
أما الشيخ حسن رحمه الله فلم يكن في دعوته مكان يذكر لهذا الأمر العظيم، ومع أنه أوصى تابعيه (بتخفيف شرب الشاي والقهوة) ضمن واجباتهم العملية للبيعة الإخوانية المبتدعة، وأوصى ولاة الأمر (بتنظيم المصايف وتوحيد الزّيّ) (مجموعة رسائله ص76، 77 ـ277، لم يجعل من الواجبات العملية للبيعة، ولا من وصاياه للولاة، تحذير الرعية ولا الرعاة في بلاد المسلمين من أوثان الأضرحة والمزارات والمشاهد والمقامات ولا تحذيرهم من البدع الشركية الأخرى التي عايشها من المهد إلى اللحد.
ومع أن سيد قطب وحده ـ رحمه الله ـ تنبّه إلى هذا النقص الفاضح في منهاج الشيخ حسن وأتباعه فقال: (الحركات الإسلامية تشغل نفسها بالاستغراق في الحركات السياسية المحدودة كمحاربة معاهدة أو اتفاقية وكمحاربة حزب أو تأليب خصم في الانتخابات عليه، كما أنها تشغل نفسها بمطالبة الحكومات بتطبيق النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية بينما المجتمعات ذاتها قد بَعُدَتْ عن فهم مدلول العقيدة الإسلامية؛ لأن المجتمعات البشرية اليوم بما فيها المجتمعات في البلاد الإسلامية قد صارت إلى حالة مشابهة كثيرًا أو مماثلة لحالة المجتمعات الجاهلية يوم جاءها الإسلام فبدأ معها من العقيدة والخُلُق لا من الشريعة والنظام). لماذا أعدموني ص29، 34، إلا أنه رحمه الله لم يكن يفقه معنى[لا إله إلا الله] ولا الفرق بين توحيد الألوهيّة وتوحيد الربوبية، فضلاً عما دون ذلك من علم الشريعة؛ يقول رحمه الله: ([لا إله إلا الله] كما كان يُدْرِكها العربي العارف بمدلولات لُغته: لا حاكميّة إلا لله)، ص1006 دار الشروق.ويقول: (والإله هو المستعلي المستولي المتسلّط) ص4010، ويقول: (فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف، إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها الرسالات) ص1006، والله تعالى يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة: 31]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9].
وبعد هذا ألا يجب أن نميّز بين (بحر علم سيد) كما وصفه الشيخ زهير، وفخّ أسلوبه الصحفي الذي خُدِع به كثير من الناس فظنوه ماء وما هو إلا السّراب؛ عفا الله عنا وعنه لقد قال على الله بغير علم فساهم في صرف الناس عن اليقين إلى الظن في تفسير القرآن، مثل كثير من المثقفين الجهلة بشرع الله، عفا الله عن الجميع، وردّنا وردّ المسلمين إلى دينه الحق ردًّا جميلاً.