اليماني والإسلام والفاتيكان
اليماني والإسلام والفاتيكان
بسم الله الرحمن الرحيم
أكرمني الله بمقاطعة الجرايد والمجلات العربية ولو وُصِفَت بالإسلامية؛ لأنها جميعاً مبنية على الظنّ في أحسن الأحوال، وقد ذم الله الظنّ وأهله؛ فقال الله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}[يونس: 36]، والصحف العربية مثل الدخان أكثر الناس غيري يشربونه ويلعنونه كما قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، بأنه رأى قارئاً للجريدة ضيَّع في قراءتها ساعتين من وقته الذي سيسأل عنه فسأله عما فيها فأجاب: (تعرف الجرايد ما فيها شيء) فأسف على ساعتين من وقت المسلم وبصره وعقله تُصرف في لا شيء.ولكن عدداً من الأخوة في الدين وفي النسب يضعون بين يدي ما يرون لي النظر فيه وبخاصة ما يتعلق بالتعدي على الوحي أو الفقه فيه أو أهله.. ومن
أ- قبل أشهر حكى الأستاذ أحمد زكي يماني في جريدة المدينة قصة لا شك أن الخيال فيها يطغى على الحقيقة (إن وجدت الحقيقة) عن زيارته لبابا الفاتيكان، وفيها:
1) أنه زار البابا وقضى معه (ساعة وخمساً وعشرين دقيقة كما قالت إحدى الصحف الإيطالية)، ولماذا الاهتمام بعدد الدقائق والاستشهاد بجريدة مجهولة؟ ولماذا لم يذكر اليماني حصول هذا الشرف له قبل موت البابا؟ الله أعلم؛ ولكنها طريقة الحكواتي في سرد الرّوايات، لا المحدِّث ولا الباحث الثقة، وقد رَكِبَها قبل اليماني الصحفي محمد حسنين هيكل تجاوز الله عنهما.
2) أن البابا (مجاملةً منه ومنَّةً) خرج معه ليحصُل على هداياه له وأهمها التمر؛ لأنه يعلم (أن من عادات المسيحيين أكل التمر يوم الميلاد)، وأنه علَّم البابا أن الأساس الديني لأكل المسيحيين التمر يوم الميلاد معروف لدى المسلمين وهو أكل مريم الرطب زمن ميلاد عيسى فأنكر البابا ذلك ثم أرسل له اعترافاً به، فأظهر اليماني (الفرح والسرور لوجود أمر يشترك فيه المسلمون مع المسيحيين).
ولو صحَّ شيء من هذه الرواية؛ فليس من الدين أكل التمر يوم الميلاد في أي شرع لله، وليس مما يُسَرُّ له المسلم اتفاق المبتدعة والمتصوفة المنتمين للإسلام مع المبتدعة والمتصوفة المنتمين لدين المسيح عليه السلام (الكاثوليك بخاصة) على الاحتفال بعيد المولد الذي أخذه مبتدعة المسلمين من مبتدعة النصارى، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من اتِّباعهم فقال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أنهم دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: اليهود والنصارى، قال «فمن؟» [متفق عليه].
ولكن المنتمين للإسلام خالفوا أهمّ وآخر وصايا نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم؛ فاتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم كما اتخذها اليهود والنصارى مساجد، وما دون ذلك من البدع.
3) أنه وجد في مكتبة الفاتيكان مخطوطة واحدة (تستحق الذكر) مجهولة العنوان ومجهولة المؤلف مقسمة إلى ثلاثة فصول: فصل في فقه العبادات، وفصل في الفلك، وفصل في شد أوتار الآلات الموسيقية، وحَمِدَ الله على الجهالة في المخطوطة ومؤلفها لئلا يلعنه ويلعنها العلماء بشرع الله والدعاة إليه على بصيرة، الثابتون على منهاج النبوة والصحبة والاتّباع في الدين والدعوة، الذين يدفعون عن شرع الله ما ألحقه به المبتدعة وأهل الهوى من الفلسفة والتنجيم واللهو والتصوف.
وإذا بحث في الطب أو الفلك أو الفلسفة أمثال ابن سينا وإخوان الصفا والخوارزمي، واعترف بهم المستشرقون لم يجعلهم ذلك قدوة للعلماء ودعاة الشريعة، بل إن ابن سينا وإخوان الصفا والراوندي وأبي حيان التوحيدي أقرب إلى الزندقة منهم إلى علوم الوحي والفقه في الدين، ومثلهم كثير.
ولا يمنع هذا من المساهمة الدنيوية (لا الدينية) في ريادة الفضاء، وقد سبق العرب والمسلمين إليها أمير سعودي.
4) أنه وجد في مكتبة الفاتيكان الخاصة (التي لا يدخلها إلا المحظوظون مثله) قِطَعاً جلدية (قيل) إن عمرها يتجاوز (1250سنة) مما (قادهم) إلى (افتراض) أن الآيات أو (السُّور) القصيرة (حسب رواية عبد العزيز قاسم عن العوّا الذي حظي مثل اليماني بدخول المكتبة الخاصة) هذه الآيات مما أخفاه بعض كتاب الوحي عن جامعي القرآن.
يقول اليماني: (وهذا الافتراض مع كلّ قرائنه يَقْرب من الصحة).
من الذي قال؟ ومن هم الذين قادهم الجِلْد إلى الافتراض؟ وما هي قرائن الافتراض؟ لعل الإجابة عن أحد هذه التساؤلات في بطن الراوي.
5) فَهِمَ عدد من الغيورين على الإسلام وعلى القرآن أن اليماني يتهم القرآن بالنقص؛ فبادروا بالإنكار جزاهم الله خير الجزاء، وكعادتي إحسان الظن بنية أي مسلم مهما ظهر من سوء عمله وقوله، كما قال الله عن الضالين {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] أحسنت الظن بنية اليماني فَعَزَوْتُ خطأه إلى سوء التعبير، وليس من عادة الحكواتي أو المهرّج والصحفي والواعظ القاص والشاعر وكل المهتمين برضا الناس أن يصرفوا همّهم إلى الحذر من الوقوع في حِمَى الدّين.
6) وهبّ الصحفي عبد العزيز قاسم للدّفاع عن نفسه وعن اليماني وله الحق في ذلك لولا أنه لمز أكثر منتقدي اليماني بأن دافعهم (الإحن الشخصية أو الحسد أو الارتزاق أو الخفة غير صحفيَّيْن منهم أبعدهما عن شبهة ذلك) فاتّهم النوايا والله وحده يعلم ما في صدور (المتّهَم والمتّهِم والمحامي) فلا يجوز الاعتداء على حقه.
7) مدح قاسم اليماني بأنه (سليل أسرة علم وفضل)، ولم يحفظ تاريخ المملكة المباركة ـ فيما علمتُ ـ شهادةً لأحد من هذه الأسرة أسرة أحمد أو محمد يماني بالدعوة إلى إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه ولا الدعوة إلى نشر السنة والتحذير من البدعة كما شهد للمعلمي ومحمد حمزة ومحمد نصيف وعبد الله خيّاط رحمهم الله، ومجرد التدريس في الحرم لا يضمن العلم ولا الفضل؛ فقد كان الإشراف على التدريس في المسجد الحرام ثم رئاسة شؤون الحرمين (قبل فتنة جهيمان) لا يمنع أحداً من التدريس ويكتفي بمراقبته، وقد جلستُ أكثر من مرة في حلقةٍ في المسجد الحرام يُدَرِّس فيها شيعي (اسمه د.محمد صادق) صحيح البخاري، ولم يك صادقاً في اتفاقه معي على أن أطالب أهل السنة ويطالب أهل الشيعة بعدم الحكم على المسلم باسم طائفته قبل التثبت من حاله، فطالبتُ ولم يطالب.
ومنذ بدأت دراسة كلية الشريعة في مكة المباركة عام 1373هـ حتى تخرجت منها عام 1376كان أكثر المدرسين في المسجد الحرام ظهوراً شيخ متواضع لا يكاد يتجاوز فضائل الأعمال من رياض الصالحين وبعد موته بسنين أظهر ابنه كتاباً لم يُنشر الشرك الأكبر بمثله في مكة المباركة منذ وَلِيَتْها دولة التوحيد والسنة حتى لقَّبه زميله د.سفر الحوالي: (مجدّد ملّة عَمْرو بن لُحَيّ) في رده عليه، وبعد التمحيص أكّد أحد أكبر العلماء وأقدمهم أن المؤلف الحقيقي هو الأب، وهو بين حالين إما أن المؤلف الابن ولم تُفده السلالة أو أنه الأب فاجتمع الضلال في الاثنين وظهر في أحدهما أكثر من الآخر.
8) ومدح قاسم اليماني بأنه: (يمضي بقية عمره في خدمة كتاب الله عبر مؤسسة الفرقان) وليت كتاب الله وشرعه يَسْلم من المؤسس والمؤسسة وأمثالهما؛ واليوم قدّم لنا اليماني أفضل وثيقة يخدم بها كتاب الله: قِطعاً جلدية من مكتبة الفاتيكان تجمع ثلاث سور قصار، مع فهم قاصر (كما يشير اليماني) للفلك ودورة الشمس والقمر، ومع بحث في شد الأوتار الموسيقية، ولقد حاولتُ تحذيره من مغبة خدمة الدين على جهلٍ وظنّ فلم يرض بمجرد الاستماع إلى تحذيري؛ فكتبت يومها إلى مكتبة الملك فهد بالرياض ثم زرت القائم عليها د.يحيى السّاعاتي محذِّراً من موضة التهالك على جمع المخطوطات والآثار الإسلامية تقليداً للغربيين؛ لأنه لن يجد فيها إلا إلحاداً فلسفياً أو صوفياً، أو إسرافاً في غير محله، بل هو تقرّب إلى الله بمعصيته، فليس من الشرع ولا من العقل شراء ورقة من المصحف على جلد غزال بالآلاف المؤلفة من الأموال التي استخلفنا الله فيها لينظر كيف نعمل بها؟ وقبل أن أودِّعه دخل المكتب اثنان ممن أرسلا إلى الخارج بحثاً عن المخطوطات الإسلامية وسألهما د.يحيى لعلكما وجدتما شيئاً؟ فأجابا: وجدنا الكثير ولكنها كلها كتب صوفية، وظاهرهما أنهما لم يكونا من طلاب العلم الشرعي بل من المفكرين أمثال اليماني هداهم الله جميعاً.
9) ومَدَح قاسم اليماني (بماضيه الوطني الحافل الذي أثبته التاريخ كوزير)، ولا أظن تاريخه في الوزارة مما يفخر به مسلم (أو عاقل غير مسلم)، قارن بينه وبين سلفه العظيم عبد الله الطريقي رحمه الله أول متخصص سعودي في الجيولوجيا وأول مدير ثم وزير متخصص للبترول والثروة المعدنية، وكان شوكةً حادّة في حَلْق مديري شركات البترول، فكانت تتمنى زواله بالقدر الذي كانت تُلمِّع به اليماني وتُدَلِّلُه، وهو الذي أسس الأوبيك، وخرج من الوزارة دون أن يعضَّ يدَ من أطعمه بلا مال ولا أرَضِين ولا قصور في الداخل ولا في الخارج، وتسابقت خمس دول عربية بترولية على الاستفادة من خبرته، وكنت أرجو الله أن يميزه في أمر الدين كما ميزه في أمر الدنيا؛ فكان يُسابق المؤذن على الأذان في مسجده بالرياض قبل موته، وكان أحد الشباب الذين وُفّق الملك سعود رحمه الله في اختيارهم لأداء حق هذه البلاد والدولة المباركة بما يليق بما ميزها الله به في الدين والدنيا.
كانت شركات البترول تتلاعب بالأسعار بطرقها الملتوية التي لا يسهل اكتشافها، ولكنه بثاقب فكره ومثابرته واهتمامه بالصالح العام استطاع أن يكتشف تلاعبها (للمملكة المباركة وللعالم)، حتى أجبرها على تغيير طريقة تعاملها مع الدول المنتجة.
وكان الطريقي رحمه الله يرى أن بقاء البترول في الأرض (وعدم التوسع في استخراجه بما يزيد عن الضرورة) هو في صالح البلاد والعباد فكان الإنتاج لا يكاد يفي بحاجة الدولة الحديثة الطموحة في عهد الملك سعود رحمه الله، ثم قفز الإنتاج في وزارة اليماني أضعافاً مضاعفة وصاحب ذلك ما هو أسوأ منه: حثّ اليماني موظفي الدولة على الصرف، فكانت الإدارة المالية في وزارة المعارف مثلاً تحثنا على تغيير الأثاث دون حاجة بعد أن كانت لا توافق عليه عند الحاجة.
وقارِن إدارة البترول (في وزارة اليماني) بغيرها في الخليج فيما يتعلق بمحطات الوقود؛ كل دول الخليج تملك محطات الوقود وتضمن لها مستوى متميزاً من الخدمة والمظهر، وتضعها في مكان الحاجة إليها، وبدأت (بترومين) بإنشاء عدد قليل من المحطات دون مستوى المحطات الخاصة، فأخفقت وتُركت السوق للأفراد وقراراتهم التي لا تحقق المصلحة العامة أبدًا وتضر المصلحة الخاصة أحياناً، وكان عمال المحطات يتحكمون في تحديد ثمن الوقود بحيث لا تُظهر الآلة عدا عدد اللترات، فكتبت إلى وكيل وزارة التجارة د. عبد الرحمن الزامل عدة مرات، وكان سريع الاستجابة جزاه الله خيراً فعمل على مراقبة الأمر وإصلاحه.
وليسأل قاسم الصحفي نفسه عن محاولات اليماني إساءة سمعة دولة التوحيد والسنة في وسائل الإعلام الخارجية وليحاول قول الحق فالله سائله، ردّ الله كيد عدوّ الدعوة ودولتها في نحره.
10) يروي قاسم عن اليماني (في مسلسل التلميع البائس): (أنه لا يظن أن آراءه في الفقه تختلف كثيراً عن آراء هيئة كبار العلماء) وأنه (بدأ دراسة الفقه الشافعي ثم بهره فقه المقاصد) وظن أن لعمر رضي الله عنه (منهجاً خاصاً في الفقه مبنيّاً على فقه المقاصد، وأن هذا الفقه مغاير لفقه النصوص، وأنه وصل للإمام مالك ثم أصّله فقهاء الشافعية) إلى آخر هذه الحكايات التي يبرع اليماني في سردها ليرفع نفسه ـ فيما يظهر لي منه ـ إلى مصاف العلماء، ويقول في شرع الله بغير علم وراء ستار فقه المقاصد، وليس بمستبعد (إذا لم تُهذب حرية التعبير) أن يتجاوز كل رُوَيْبضة حدوده، وأن يقول (أبو لمعة الوزير والصحفي) ما يشاء فيما يشاء وتشرئب أعناق الجهلة بشرع الله إلى آفاق العلم والعلماء.
11) ويروي قاسم الصحفي عن اليماني وصفه لنفسه بأنه (شافعي المذهب مالكي الهوى)، وقد يكون هذا أصدق ما في هذه الروايات فقد يكون شافعياً بالوراثة (كأي أُمِّيٍّ في العلم الشرعي يسيطر عليه الهوى)، أما الإمام مالك فأبعد ما يكون عن الهوى، وأكثر ما ميزه تجنبه القول بالرأي (الذي عُرِف به الأحناف)، والتزامه بالنص وفقهه، ومثله الأئمة بعده: الشافعي وأحمد رحمهم الله جميعاً، وللشافعي رسالة في إبطال الاستحسان طُبعت على حاشية الأم، والاستحسان هو أساس ما سُمَّي اليوم بفقه المقاصد إذا تعدى عليه من ليس له فقه أئمة القرون الثلاثة، بل ولا الشاطبي في القرن الثامن.
12) والفكر الإسلامي الذي ادعى قاسم الصحفي أن اليماني (يقوم فيه بخطوات لافته) أجْدَرُ به من دعوى العلم الشرعي، وقد حذَّر منه كبار العلماء مثل د.بكر أبو زيد رحمه الله، وابن عثيمين رحمه الله، و د.صالح الفوزان حفظه الله لنصرة دينه، فهو مَرْكب للشيطان للقول على الله بغير علم.
13) في المرات القليلة التي استمعت فيها إلى حكايات اليماني طَرِبت لها (لأنها لا تتصل بالعلم الشرعي)؛ فهو محدث خفيف الظل وحكاياته مسلية مهما اختلط فيها الخيال بالواقع أو كانت من الخيال كلها، سمعته في الجزائر يحكي عن الطّوارق أنهم (شكوا إليه محوقلين ترك بعض رجالهم الحجاب)، أو اللثام المعروف.
وفي منزله بجدة تظاهر لي ولزملائي (وأذكر منهم د. محمد عمر زبير) أنَّه يتكلم مع الملك فيصل رحمه الله بالهاتف، وكأنه يتكلم مع أحد موظفيه، وكنت وعدد من الزملاء نمثِّل عدداً من الوزارات في التفاوض مع ممثلي دولة أفريقية، ولقيته أكثر من مرة مع د. صالح أمبه رحمه الله مؤسس كلية البترول والمعادن (نواة جامعة الملك فهد بالظهران) واستمتعت بنكاته المختلقة على د.صالح وزوجته، ولا زلت أشكر الله ثم أشكره على محاولته أن أعمل معه؛ بدأها الأستاذ/ عبدالعزيز الشنيبر وكيل الوزارة وأكدها هو بنفسه، واعتذرت لهما بعجزي وعدم رغبتي في العمل الإداري، واقترحت أكثر من بديل فاختير زميلي الأستاذ/ محمد القاسم، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وهداهم لخدمة دينه. (1428هـ).