من يبني الحضارة [1]

من يبني الحضارة [1]

بسم الله الرحمن الرحيم

مصطلح (الحضارة) في اللغة العربية الدارجة مأخوذ من أصله الأوربي وبخاصة الإنكليزي (CIVILSATION) ويختص في الأصل والتقليد بالجانب المدني – وفي الأغلب – المادي من الحياة.
وفي العصور القديمة كان الوثنيون – البراهمة في الهند، والفراعنة في مصر، والأنباط في جزيرة العرب، والأكاسرة في فارس، والملوك والفلاسفة في اليونان، والقياصرة في أرض الرومان – هم بناة الحضارة بأوامر رئاسية وتسخير شعبي.
ثم جاءت المرحلة الحاضرة من مراحل التطور الحضاري مع بداية ما سمي عصر النهضة أوالثورة الصناعية في أوربا، وفي ما انتقلت إليه من مستعمراتها وبخاصة أمريكا الشمالية.
وانتهى عهد التسخير المعلن ودكتاتورية الفرد، ليحل محلها عهد الحرية الشخصية وسيطرت الفكر والحزب، وتوجيه وسائل الإعلام، وكان أبرز مقومات الحضارة الجديدة:
1 – البحث والفكر والابتكار في سبيل المال أو الشهرة أو المنفعة.
2 – الصبر والمثابرة والإصرار.
3 – التطوع بالجهد أوالوقت أوالمال، أو بهما جميعاً.
4 – التعاون لتحقيق هدف قريب أو بعيد لمصلحة عامة.
وتجتمع هذه الأسس – أو أكثرها – في المثالين التاليين:
أولاً – في أحدى القرى الفرنسية، صرف ساعي البريد (33) سنة من حياته وفراغه وفائض راتبه البسيط في بناء صرح كبير سمي بالمعبد الهندي لطرازه المعماري واشتماله على معبد وكنيسه ومسجد وبعد عشرات السنين اعترفت الحكومة الفرنسية بإنجارزه فتم ضم هذا الصرح إلى معالم الحضارة الفرنسية.
ثانياً – في التلال السود في ولاية جنوب داكوتا الأمريكية قضى نحات أمريكي من أصل بولندي (43) سنة من عمره في نحت جبل، تذكاراً لزعيم هندي أحمر قاوم – حتى الموت – استيلاء المهاجرين الأوربيين – ومنهم أجداد هذا النحات – على أرض قومه، وبعد موت النحات – وبوصية منه – أستأنفت زوجته وسبعة من أولاده محاولة تحقيق حلمه، وبعض تفاصيل هذا المشروع تبين مدى الجهد والصبر والبذل والتعاون الذي يحتاجه بناء الحضارة المادية:
1 – احتاجت بداية التنفيذ إلى بناء سلم خشبي يصعد النحات وينزل يومياً درجاته وعددها (741) درجة، ليعمل وحيداً بلا ماء ولا كهرباء ولا طريق مُعبد أكثر من أربعين سنة، حتى أقعده مرض الموت.
2 – بعد خمسين سنة من بدء التنفيذ، يُحتفل في عام 1420هـ بإتمام الجزء الأول من المشروع، ولكن موقعه ومخططه ومجسمه قد صار أثراً ورمزاً تُشدّ له رحال السياحة يوم مررت به عام 1390هـ قبل 30 عاماً.
3 – أزيلت حتى اليوم ثمانية ملايين طن من الحجارة والتراب.
4 – صرفت حتى الآن عشرة ملايين دولار كلها من التبرعات ورسوم الزيارة.
5 – تبرعت مواطنة ستمائة وسبعة وأربعين ألف متر مربع من أجود الأرض الزراعية وتبرع مواطن بعقار تقدر قيمته بمائتين وخمسين ألف دولار لصالح المشروع.
6 – أعداد كبيرة من المهندسين والمتعهدين والعمال والفنيين وضعوا أسمائهم على قائمة الأنتضار الطويلة للتطوع بمهارتهم وجهدهم وأوقاتهم، مساهمة في المشروع وتحقيقاً لحكمة محلية تقول (اجعل هدفك الققمة، فإنه لا يزال فيها متسع لك) .
وللأسف فإن أياً من هذين المثالين لم يخل من رابطة الإرث الحضاري الوثني، ولكن على مثل هذه الهمم أيضاً قامت الآف الجامعات والمصحات والمنتزهات والخدمــــات الأخرى على أكتاف الأفــــراد لا الدولة، وخير مثال عندي على ذلك أن 90% من العاملين في الدفاع المدني في مجموعة الولايات المتحدة الأمريكية متطوعين جزئياً أو كلياً.
والآن أين موقع المسلم من هذا كله؟ قطعاً ليس التنافس في الاستهلاك والتقليد النظري أو العملي، ولا البحث عن الأحلام والخيال والظن والفلسفة ولا تعظيم البشر وتخليد الأساطير، ولا الاعتماد على الإنفاق والإتجار الحكومي وبذل الوقت والفكر والجهـــــد في محاولــــــة استغلال ذلك لاقتناص أكبر منفعـــة ذاتية بأقل تضحية للدين أو للإنسانية، وقتل الفراغ بالإشاعة والغيبة والاحتجاج والشكوى وإلقاء اللوم على غيره، وإذا كان الله قد ميز من كفر به بالمتاع الدنيوي {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون} [الزخرف: 33] فمن الشرع والعقل والإستفادة من ذلك لتحقيق ما ميز الله المسلم به: الدين والدعوة إليه {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال أنني من المسلمين} [فصلت:33] وعلى هذا فسبب وجوده أسمى من مجرد الشكل والعدد والشهرة، والمتاع الحيواني : الطعام والمنام والنكاح والتسلية.
وصلى الله وسلم على محمد وآل محمد.