الولاية بالعهد خير من الانتخاب شرعاً وعقلاً
الولاية بالعهد خير من الانتخاب شرعاً وعقلاً
بسم الله الرحمن الرحيم
أ- فهمتُ مِنْ خير ما كُتب وخير من كَتب عن فتنة التكفير التي ابتليَ بها المسلمون في هذا العصر: الاستدلال على خروج التكفيريين عن شرع الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المؤمنين القدوة: (بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم لم يكفِّروا معاوية رضي الله عنه بتوليته ابنه يزيد من بعده)([1]). ولم أر وجهاً شرعياً لاعتبار عهد ولي الأمر بالولاية لأحد من بعده معصية صغيرة فضلاً عن اعتبارها كبيرة من الكبائر تحتمل الكفر الأصغر فضلاً عن الأكبر.
ب- وأول من عهد بالولاية من بعده لمن بعده في تاريخ المسلمين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه([2]) وقد شرع الله لنا اتباع سنته بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»؛ فعهد بالولاية من بعده لعمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم عهد عمر بالولاية من بعده لستة نفر من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يختارون لها أحدهم فاختاروا عثمان رضي الله عنه وأرضاه ثالث الخلفاء الراشدين المهديين.
ج- ومعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه وأرضاه) أحد كبار الصحابة وفقهائهم ومحدثيهم، وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابة وحي الله إليه، وولاه الخلفاء الراشدون الأُوَل قيادة الجيوش وإمارة المسلمين، ونزل له الحسن بن علي (رضي الله عنه وأرضاه) عن الولاية فاجتمعت عليه كلمة الأمة؛ فهو أول وخير الخلفاء من قريش بعد الخلفاء الراشدين، وهو من أعظم الفاتحين في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وروَى نحو (130) حديثاً (13) منها في الصحيحين أو أحدهما.
د- ورأى معاوية (رضي الله عنه) من فقهه واتباعه وثاقب رأيه: العهد إلى ابنه يزيد (تجاوز الله عنه) وحري به ألا يفعل ذلك إلا حرصاً على المصلحة العامة للأمة لما نعلم من ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بأمانته على الوحي وثقة الخلفاء الراشدين الثلاثة الأُوَل بأمانته على إمارة المسلمين، ثم ثقة الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين بأمانته على الخلافة نحو (20) سنة.
هـ- ويزيد بن معاوية (تجاوز الله عنه) أول خليفة من قريش بعد الصحابة الخمسة، تعلم الحكمة وتدرب على الإمارة أكثر حياته في مجلس والده العظيم، وكان أميراً لأول جيش غزا مدينة قيصر في عهد أبيه معاوية رضي الله عنه، وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في ذلك الجيش، وقد ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم «مغفور لهم» الصحيحة (ح: 268).
وفي عهده فُتِحت بخارى وخوارزم والمغرب الأقصى. (أعلام الزركلي). ولم يُتّهم في اعتقاده ولا عبادته، وإنما امتنع عن بيعته بعض الصحابة كما حدث للخلفاء من قبله، ونازعه بعضهم أمر الولاية ثم اجتمع الناس عليه حتى مات (تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين).
ولا يوثق بكل ما روي عن أمره أو رضاه بما فعله واليه في المدينة النبوية أو بقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه ولو صح ذلك كله لم يقدح في عهد أبيه إليه بالولاية، وعلينا ألا نسبّه وألا نحبّ ما روي من اتّهامه صدقاً أو بهتاناً أو مبالغة، وندعو للوالد والولد بالمغفرة والرحمة.
و- وقال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، ومما ورث سليمان من أبيه داود: الملك، صلوات الله وسلامه عليهما وعلى جميع أنبيائه ورسله، وقال الله تعالى عن داود: {وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251] وقال الله تعالى عن طالوت قبلهما: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] وكان من جنده داود، وقال تعالى عن آل إبراهيم عامة: {وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] صلوات الله وسلامه عليهم، والله يؤتي ملكه من يشاء.
وكان الأنبياء يخلفهم الأنبياء «كلَّما مات نبيٌّ خلفه نبيٌّ»، وكان الملوك – مثل كل ولد آدم – يخلف بعضهم بعضاً كلما مات ملك خلفه ملك، والمَلِك مؤتمن على مُلْكه، ومنه توليته الأمراء في حياته ومن يلي الملك بعد موته منذ قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، (أي: قوماً [آدم وذريته] يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62] (تفسير ابن كثير)، وقال تعالى عن قوم هود: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، وعن قوم صالح: {خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74].
وكان الملوك يعهدون بالأمر الذي استخلفهم الله فيه إلى من بعدهم في كل عصر إلا في حالات قليلة ربما بدأت في عهد الوثنية اليونانية ثم في عهد الثورة الفرنسية العلمانية الغاشمة ومن تأسى بها في أوروبا وأمريكا في القرنين الماضيين ثم في بلاد العرب في القرن الأخير (ممن تحول إلى النظام الاشتراكي بخاصة في أسوأ أحواله).
ولا يزال أكثر دول وإمارات أوروبا الغربية مَلَكِية وراثية، ومنها إسبانيا التي أعادها (فرانكو) إلى النظام الملكي بعد تجربته الخاسرة الخروج عليه. ولا تزال اليابان وبعض الدول الآسيوية ثابتة على النظام الملكي الوراثي.
ز- في بلاد المسلمين كان خير من عُهِد إليه بالولاية بعد أبي بكر: عمر الفاروق في العقد الثاني، ثم عمر بن عبد العزيز في العام الأخير من القرن الأول (بعد عثمان وعلي ومعاوية) رضي الله عنهم وأرضاهم، ثم محمد بن سعود وعبد العزيز بن محمد وسعود بن عبد العزيز آل سعود الذين جدد الله بهم دينه ونشر بهم التوحيد والسنة وأزال بهم الشرك والبدع الأخرى في الدين، ثم جدد الله الدين بتركي بن عبد الله وفيصل بن تركي آل سعود، ثم جدد الله دينه بعبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود وبأبنائه من بعده إلى يومنا هذا، وهم القائمون (بوازع السلطان، من فضل الله) على تطهير جزيرة العرب (من أوثان المقامات والمزارات والمشاهد وزوايا التصوف ولوثات الابتداع وما دون ذلك من معاصي الشبهات والشهوات) في القرون الثلاثة الأخيرة حتى صارت علماً للولاية الشرعية.
حـ- ولا أعلم أحداً في بلاد المسلمين سبق سيد قطب رحمه الله إلى ظنه الآثم أن العهد بالولاية: (خروج عن قاعدة الإسلام الأساسية في الحكم: اختيار المسلمين المطلق) و: (أن الحاكم في الإسلام يتلقَّى الحكم من مصدر واحد هو: إرادة المحكومين)، و: أن الطريقة الصحيحة لاختيار الحاكم: (أن نستشير الجميع بالطريقة التي تكفل الحصول على آراء الجميع)، و: أن (النبي لا يملك أن يُؤَمِّر أحداً دون مشورة المؤمنين) معركة الإسلام والرأسمالية، دار الشروق 1414هـ، (ص: 72 – 73)؛ فهذا الظن يبعد عن الحكم بما أنزل الله بقدر ما يقرب من الحكم بغير ما أنزل الله، بل من القوانين الوضعية والتأسي بالوثنيين والعلمانيين والشيوعيين، وربما انخدع به الثوار المصريون ومَنْ بعدهم فظنوه فقهاً في الدين، ولا شك أنه انخدع به كثير من دعاة (الإسلام اليوم) لعجزهم عن التفريق بين يقين الوحي والفقه فيه وبين خرص وظن الفكر الموصوف بالإسلامي زوراً أو خطأ، فأخذت الثورات أموال الناس بالباطل بحجة إعادة توزيعها كما سن سيد قطب (سنة سيئة) بعد أن خرجت على الولاية والجماعة. وأخذ الفكريون والحركيون (وأخطرهم وشرّهم اليوم موقع ومؤسسة ومجلة: الإسلام اليوم) ينأون بالمسلمين عن الفقه في الدين سبيل المؤمنين من الصحابة وتابعيهم في القرون المفضلة إلى ما أسماه سيد قطب: (فقه الواقع والحركة والمرحلة والموقف) انظر: (في ظلال القرآن) مقدمة تفسير سورة يوسف، تجاوز الله عنهم جميعاً وكفى الإسلام والمسلمين شرهم.
ومع أن القائمين على هذه المواقع والمؤسسة والمجلة يقيمون في بلاد ودولة ميزها الله بالتأسيس من أول يوم على الوحي والفقه فيه ويموّلون فكرهم المنحرف من تبرعات أهلها؛ فإنهم يقوِّضون الأساس الذين قامت عليه البلاد والدولة المباركة: (فقه السلف في نصوص الوحي) وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ردهم الله إلى دينه الحق رداً جميلاً، وكفى الإسلام والمسلمين شرهم.
ط- والولاية بأكثرية أصوات الناخبين مجانبة للشرع والعقل، لأن أكثر الناس هم سفهاؤهم، وقد وصفهم خالقهم تبارك وتعالى بأنهم: {لا يعلمون} و:{لا يشكرون} و:{لا يؤمنون} فبأي حق يترك أمر الولاية لأهوائهم؟ إلا إذا كان الحكم للهوى، وإلا إذا استفتي غير العلماء بشرع الله (من الصحفيين والحركيين والأطباء والمهندسين والفكريين) فهي إحدى علامات آخر الزمان، ولا عجب إن ضل المفتي والمستفتي من رؤوس الجهال وأذنابهم.
ولقد رأيت بعض الطامحين للرئاسة الأمريكية يحاول اجتذاب أصوات الأكثرية بركوب الدراجة وظهره إلى مقودها، أو بقلي البيض أو اللحم في المطعم العام، وسمعت بعضهم يَعِد الناخبين بوضع دجاجتين في كل قدر وسيارتين في كل كراج، ورأيت بعض الطامحين لعضوية المجلس البلدي يتنافسون في ملء البطون في مقابل الأصوات، وسمعت وعوداً بالحرية والمساواة ممن لا يملكها لمن لا يستحقها، سواء في بلاد الوثنية أو الإلحاد أو النصرانية الديمقراطية (وهي الأصل) أو في بلاد العرب والمسلمين المقلِّدين لهم مصداقاً لحديث الصحيحين: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أنهم دخلوا جحر ضب لتبعتموهم» وبيَّن أن المتبوعين هم اليهود والنصارى، وفي رواية: فارس والروم.
ي- وعلى خلاف منهاج الشرع والعقل اجتمع الإسلاميون (بزعمهم) مع العلمانيين والشيوعيين والملحدين عامة، ولكنهم يخصون بمخالفتهم الصحابة والتابعين ومجددي الدين بعد أن أخلقه المبتدعة على مر القرون، ولا يكادون يستثنون من مشاقتهم وشغبهم إلا مثل المعتصم تجاوز الله عنه مع أنه ورث الملك ولم يُعْرف بعلم ولا عمل ولا دعوة أكثر من أسطورة (وامعتصماه) بزعم تسخيره جيش المسلمين لنجدة امرأة أشركته مع الله بل أفردته من دون الله بطلب النجدة إن صحت الرواية، وهم يعلمون أو يجهلون ما اقترفه المعتصم من فتنة القول بخلق القرآن، وسجنه وجلده من لم يوافقه من علماء المسلمين وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ورحمهم، وإلا ولاة العثمانيين مع أنهم ورثوا الملك وكانوا حماة أوثان المقامات والمزارات وما دونها من الخرافات والبدع، وإلا بعض الفاتحين والمقاتلين دون شرط: «لتكون كلمة الله هي العليا»، بل ولو لم يدعوا إلى التوحيد والسنة، بل ولو عرف عنهم مخالفتهما. رد الله الجميع إلى دينه رداً جميلاً. (1428هـ).
([1]) خاطبت الكاتب أثابه الله فتم التصحيح في طبعة لاحقة والاعتذار عن هذه الهفوة.
([2]) وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد إلى أبي بكر > إيماءاً أو تصريحاً.