محبة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته بين الشرع والعاطفة

محبة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته بين الشرع والعاطفة

بسم الله الرحمن الرحيم

ادَّكَرَ الحركيُّون (الموصوفون بالإسلاميِّين) بعد أمَّةٍ أنَّ من الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وإهانته رسمُ صورة كاركاتيرية ترمز له وعليه عمامة سوداء تنتهي بفتيل قنبلة.
وتفجَّر الغضب في بلاد المسلمين، واستدعت بعض دول المسلمين سفراءها في الدانمرك بلد الجريدة المجرمة، فأعلن رئيس وزراء الدانمرك مخالفته للجريمة.
 وهبَّ المنتمون للإسلام انتقامًا من الجريدة بمقاطعة منتجات بلادها وتحريق رايتها وسفارتها، وكانت النتيجةُ الحقيقية نشر هذه الجريمة في كل وسائل الإعلام العالميَّة.
 وكعادتي ـ بفضل الله ومنَّته عليَّ ـ عرضتُ الأمر على كتاب الله وسنة رسوله قبل أن أطلق العنان لعاطفتي الدينيَّة استجابةً لأمر الله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، وقال تعالى تحذيرًا من تحكيم الظنِّ والعاطفة في الدين وحَصْرًا للحكم في الدين على وحيه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 135]، والعاطفة مبنيَّة على ما تظنُّه الأنفسُ وما تهواه بعيدًا عن شرع الله.
وظهر لي ما يلي:
1 – ليس من شرع الله أخذ البلاد والدولة والنَّاس أجمعين بجريمة واحدٍ منهم، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].
2 – أُهين رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزئ به وتَمنَّى له زُوَّاره من يهود الموتَ (وهو وليُّ الأمر في المدينة) إذ قالوا في بيته: (السَّام عليكم)، فما زاد على أن قال: «وعليكم»، ولما قالت عائشة رضي الله عنها: (وعليكم السام واللعنة) انتقامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم (وهي الصديقة بنت الصديق) قال: «مهلاً يا عائشة فإن الله يحبُّ الرِّفقَ في الأمر كلِّه» رواه البخاري. وفي رواية: «عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش». لأن الله قال له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
3 – وحارب يهودُ المدينة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا كل عهودهم، وحاربهم ومع ذلك لم يقاطع بضائعهم، فاشتهر أنَّه مات ودِرعُه مرهونةٌ عند يهوديٍّ في ثلاثين صاعًا من الشعير، وفي آخِرِ حربٍ دارت بينهم زارَعَهم في خيبرَ بنصف ما يخرُجُ منها فيما رواه البخاريُّ ومسلم، وهم ألدّ عدوٍّ حربيّ.
ومع أني أقاطع كثيرًا من المنتجات (بصرف النَّظر عن دين مُنتِجها ملحد أو وثني أو كتابي أو مسلم) لأني لا أحتاج إليها، ومنها: الجرائد والمجلات، ووسائل الاتصال، ومنها: الجوال والبيجر قبله، والكمبيوتر والسيارات الجديدة؛ فإني أعي الفرق بين الولاء والبراء، وبين المعاملة والتعاون على خيرٍ، وأعي الفرق بين الحلال وبَيْن الحرام وبين المباح، ولا أتقرب إلى الله إلا بما شرعه لا بما تُمليه العاطفة.
4 – ومن القيام بالقِسْطِ والشهادة على النفس أن أَعترف بأنَّ سوءَ فَهْم رسَّام الكاريكاتير المجرم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ووظيفته ودينه وبالتالي وَصفه بالتفجير والإرهاب العدوانيِّ كان نتيجةً لسوء فهم بعض المنتمين للإسلام دينَهم، وسوء عَرْضه للأمم تفجيرًا وعدوانًا وخيانةً وغدرًا اتِّباعًا للعاطفة الضَّالة عن سبيل الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو مخالفة لنصِّ الآية المحكمة: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وقد ردَّ بعض المؤيدين لحريَّة الرسَّام في التعبير على منكري التعرُّض للمقدَّسات من المسلمين بأنهم السابقون إلى الاعتداء.
5 – وجهلُ أكثر المسلمين بعِلْم الإسلام وخُلُقِه جرَّ على الإسلام وعلى المسلمين في هذا العصر (بل منذ الفاطميِّين) كثيرًا من الفتن والمصائب في الدِّين عندما تولَّى العلم والدعوة المفكِّرون مثل: الحلاج، والبسطامي، وابن عربي؛ بفكر اليونانيين ومن ورائهم فكر الهندوس، ثم بالفكر الحديث الذي روَّج له مثل: الأفغاني، ومحمد عبده تجاوز الله عنهما، ثم جماعة الإخوان وأفراخهم هداهم الله.
ولم يَسلَم كتاب الله من تأويل المتكلفين وبخاصة: بدعة (الإعجاز العلمي) ورائدها في عَصْرنا: طنطاوي جوهري تجاوز الله عنه وعمَّن تبعه مثل: مصطفى محمود وعبد المجيد الزَّنداني وزغلول النجَّار، وعبد الله المُصْلح، وهم وأمثالهم لا يملكون بسطة في العلم الشرعي ولا النظريات الكونيَّة تؤهلهم للقول على الله.
وتخصَّص سيد قطب رحمه الله في بدعة (التصوير الفني في القرآن) ليجتال الشيطانُ بالفكر أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم عن بيانه ما أنزله الله عليهم: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104].
6 – من متابعتي نشاط الدعوة والدعاة في الثلاثة عقود الماضية لم أرَ من الحركيين والحزبيين الموصوفين بالإسلاميين غضبًا لله ولرسوله ولدينه بسبب لعن الربِّ والدِّين بين من ينتمون للإسلام والسنة في بلاد الشام، وبخاصة الأرض المقدسة التي بارك الله حولها، وفي العراق وفي المغرب العربي، ولم أرَ منهم ـ بكلِّ توكيد ـ غضبًا لله ولرسوله ولدينه بسبب تقرُّب أكثر المنتمين للإسلام وغيرهم إلى الله بالشرك الأكبر عند المقامات والمشاهد والمزارات والأضرحة (أوثان الجاهلية الأولى والأخيرة) وهي أعظم ما يُعْصى به الله.
7 – كانت آخر وأهمُّ وصايا النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمَّته: «لعنةُ الله على اليهود والنصارى اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد»، قالت عائشة رضي الله عنها: (يُحذِّر مثل الذي صنعوا) [متفق عليه].
ولا يكاد بلدٌ مسلمٌ (خارج المملكة المباركة في جزيرة العرب) يخلو من هذه الأوثان، ولم تقم جماعة ولا حزب (مما يوصف بالإسلامي والإسلامية) لمحاربتها منذ ابتدعها الفاطميُّون (وحماها العثمانيُّون ومَنْ بينهم) غير دعوة ودولة تجديد الدين في جزيرة العرب في القرون الثلاثة الأخيرة؛ مع أنَّ حسن البنا وسيد قطب قائدي جماعة الإخوان المسلمين، ومحمد إلياس مؤسس جماعة التبليغ، وتقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير ـ تجاوز الله عنهم ـ وُلِدُوا وماتوا بين هذه الأوثان وبين زوايا التصوف والموالد والاحتفالات والأعياد والمدائح الدينية الضاله وغير ذلك من البدع التي أشغل بها الشيطانُ وأعوانُه الناسَ عن معرفة السنن والعمل بها.
8 – وجاء (رشاد خليفة) ليؤيِّد دينه بدعوى أن جميع سور القرآن ينقسم عدد حروفها على رقم (19) أو مضاعفاته، مستدلاًّ على بدعته بقول الله تعالى عن النَّار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30]، وطار أكثرُ المنتمين للإسلام فرحًا بما جاء به، ولم أرَ من توقَّف عن قبولها غير هيئة كبار العلماء في دولة التوحيد والسنة، ثم تبيَّن للمسلمين أن رقم (19) هو الرقم المقدَّس عند فرقة خارجة عن السنة، وانتهى الأمر بقتله.
9 – وجاء (دِيدات) ليؤيِّد دينه بسبِّ الإنجيل وتحقيره ووصفه بالركاكة والتناقض، ودعوى أنَّه يستطيع الإتيان بمثله، فردَّ عليه بعض مناظريه (وبخاصة من لهم أصل عربيٌّ) بأن قالوا عن القرآن مثل ذلك، وهذه هي النتيجة التي حذَّر الله من وقوعها بسبب الدعوة بالجهل والسبِّ {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
10 – وقد ظنَّ كثيرٌ من المنتمين للإسلام والتصوف أنَّ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبيح لهم إظهارها بما تشتهيه نفوسهم دون رجوعٍ إلى الوحي وفقه الأئمة الأُوَل في نصوصه، فعبَّر عنها بعضهم بالعشق، ومدحوه تبعًا لذلك بأنَّ (خدَّه أحمر مورَّد، ريقه سكَّر مكرَّر، بطنه طيُّ الحرير حين يشتدُّ الزفير، خدُّه التفاح شاميُّ) وأصابت العدوى بعض المنتمين إلى السلفية فوصفوه في خطب الجمعة والقنوت (بالوجه الأنور والجبين الأزهر)، ذهولاً منهم عن الرجوع إلى النصِّ والفقه فيه.
بل وضع له المبتدعة تسعةً وتسعينَ اسمًا، وزعموا أنه خُلِق من نور الله، وأن من نعمته على الخلق: الدنيا والآخرة، وأن من علومه علم اللوح والقلم، وأن عمامته عَلَتْ على عرش الرحمن، وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن له كل أسماء الله تعالى، وأنه أوتي علم الخَمْس [مفاتح الغيب]؛ تجد هذا التخريف في شعر البوصيري (البُردة)، والرّوَّاس الحموي (بوارق الحقائق)، وكُتُب محمد بن علوي المالكي (الذخائر المحمدية وشفاء الفؤاد بخاصة). وهي غيض من فيوض الصوفيَّة الضالة.
11 – ونتيجة هذه القضايا الخاسرة (شرعًا وعقلاً وواقعًا) مخالفة شرع الله تعالى وسنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتقرُّب بذلك إلى الله، والانشغال به عن معرفة الدين الحق والرجوع إليه والعمل به والدعوة إليه، وإساءة سمعة الإسلام والمسلمين؛ مع أنهم ـ غالبًا ـ هم الملومون أولاً في مقدمة أكثر القضايا: هم الذين هجروا المسجد البابري خمس عشرة سنة انتهت بسلبه، وهم الذين أرسلوا بناتهم إلى المدارس العلمانية في فرنسا ثم غضبوا لمنع تغطية الرأس، وهم الذين اعتدوا على أمريكا في آسيا وأفريقيا ثم في أمريكا فجلبوا بذلك الدمار لأفغانستان ثم العراق، هدانا الله وإياهم جميعًا لأقرب من هذا رشدًا.
12 – لابدَّ من محبة الله ورسوله ودينه فوق كلِّ محبة، والانتصار لله ولرسوله ولدينه وَفق شرع الله تعالى وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم نيَّةً وقولاً وعملاً، لا للهوى والقوميَّة ولا للتراب الوطني. والله وليُّ التوفيق.

(1428هـ).