الفكر الإسلامي يخالف الوحي والفقه

الفكر الإسلامي يخالف الوحي والفقه

بسم الله الرحمن الرحيم

ابْتُليَ الإسلام ـ بعد القرون المفضّلة ـ بانشغال بعض (المفكّرين) في صفوف علمائه بالفكر اليوناني عن تدبّر الوحي والفقه فيه، ظنًّا منهم ـ وبعض الظّنّ إثم ـ أن الغاية تبرّر الوسيلة وأن حُسْن النّيّة يُسَوِّغ تحكيم الفكر في الدين، وتحكيم الظن في اليقين، وتحكيم الفلسفة الصّوفيّة الوثنية في معرفة الله.
وفي القرن الأخير شمَّر (الإسلاميون) عن سواعدهم وعن أقلامهم وعن ألسنتهم وعن أهوائهم وعن إعانات المحسنين لاستغلال ما سمّوه (الفكر الإسلامي) لصالح الحزبيّة أو التّجارة أو السّمعة، بحجة البحث عن بدائل لأنماط الحياة الغربيّة، ولا بديل للضلال إلا الحقّ، ولا للظن إلا  اليقين، ولا للفكر إلا الوحي، ولا للعادة إلا العبادة؛ فظهرت المطبوعات والمدارس والبنوك والمستشفيات ونوادي الرّياضة البدنية والفنون الموصوفة كلّها زورًا (بالإسلامية)، وظهر الفكر والفلسفة والاشتراكيّة والدّيمقراطية الموصوفة كلّها زورًا (بالإسلامية)، وظهر فكر الإعجاز العلمي للقرآن ليصرف الشيطان وأعوانه به المسلمين عن تدبّر كتاب الله وسنّة رسوله كما فَقِهَهُمَا السلف الصالح ـ إلى محاولة بائسة لربط الوحي بالفكر وربط اليقين بالظّن {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]. وتحوّلت المواعظ الديّنيّة إلى محاضرات مبنيّة على فنون الفكر والبلاغة والشّعر والقصص والأمثال الدّارجة والفكاهة، يجتمع عليها أكثر ممن يجتمع على المواعظ الشرعيّة بالآية والحديث والحكم الشرعي في الاعتقاد والعبادة والمعاملة، وصار أكثر المسلمين (مثقّفوهم وعوامّهم، لا أقول علماؤهم) يرون البدعة هي السنة، حتى أعلن بعض قادة الفكر المنحرف أن: (تنزيه الوحي عن الفكر خطر عظيم على مستقبل الدّين) وأنَّ: (الله تعبَّدنا بالظّنَّ كما تعبَّدنا باليقين) وأن (سنّة التّطوّر توجب إعادة النظر في كتابة التاريخ والسيرة بل في كتابة التفسير وفقه الأحكام الشرعية.
والفكر (الإسلامي) ـ بلا شك ـ قابل للتغيّر والتبدّل والتناقض والانحراف والخطأ، لاختلاف آراء المفكرين باختلاف أقدارهم و”كل ابن آدم خطّاء”، ولتغيّر نظر المفكّر نفسه بين أمسه ويومه وغده، ولكن الوحي الإلهي لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتناقض ولا يخطئ لأن الخالق العليم الخبير الحكيم أنزله بعلمه، وهو أعلم بخلقه في الماضي والحاضر والمستقبل، وهو أعلم بما يُصلحهم وما يَصْلح لهم؛ وليس عليهم في الدين إلا الإتباع، أما الابتداع والاختراع في الدّين فهو استدراك على الله وعلى رسوله، ومعصية حَرِيَّة ألاّ تُغْفر بدون التوبة قبل الموت؛ فهي مثل الشّرك بالله ليس لها من دوافع الغرائز البشريّة ما تُعْذر به، وهي ـ مثله ـ من معاصي الشّبهات التي هي أكبر من معاصي الشّهوات قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
أ ـ ومن أحدث الأمثلة على التناقض بين الفكر (الإسلامي) وبين الوحي والفقه فيه بل وبين الفكر والفكر: إعلانٌ علّقته على مفرق الطّريق إحدى المجلات (الإسلامية) في بعض بلاد المسلمين وهو نسخة مكبّرة ـ على حساب الصَّدَقَة ـ لأحد أغلفتها يَأْمُر بمقاطعة بضائع الكفار، مع أن المجلّة بغلافها وإعلانها مرتبطة بهذه البضائع من كلّ وجه:
1ـ فكرة الإعلان وموادّه وأدوات تنفيذه ونقله ونشره، كلها من صنائع وبضائع من تأمر المجلّة بمقاطعتهم.
2 ـ المجلة (الإسلامية) نفسها نشأت وترعرعت في بلد ودولة تصفها المجلة بالكفر والعلمانية (إنكلترا) وفيها مقرّ المركز الذي يصدرها؛ فهي مَدِيْنة لها بوجودها وأمنها واستقرارها واستمرارها.
3 ـ وهذه المجلّة تقوم على فكر (مفكر إسلاميّ) من بلاد الشام (هاجر) من أرضٍ وصفها الله بالبركة والقداسة ومدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ولجأ) إلى أوروبا (بديانتها النّصرانيّة وسياستها العلمانية) بحثًا عن الأمن والدّيمقراطية التي يأمل لفكره الانتشار في ظلّها ـ إضافة إلى رغد العيشة، مع أنّه ينكر على الحكّام السّفر إلى الغرب عند الحاجة لبيع منتجات بلادهم وشراء السّلاح وعقد الاتفاقات الدّنيويّة لمصلحة الجميع، وما كانت (هِجْرَتُه) من بلده الأصلي خلافًا على الدّين بل على السّلطة، وإن تذرّع أمثاله بالاحتجاج على إسقاط فقرة من الدّستور تدّعي أن (الإسلام دين الدولة) وهم يعلمون أن الإسلام لم يكن دين الدولة منذ حُكْم (الخرافة) العثمانية، فيما عدى تهيئة المساجد للصلاة وبعض أحكام الأحوال الشخصيّة وما زال الأمر في بلاد الشام على ما كان عليه.
ب ـ والمجلة ـ بهذا الإعلان ـ تخالف العقل والفكر ـ وإن وافقت الهوى والعاطفة ـ فهي تقوم ـ من الألف إلى الياء ـ على الصّنائع والبضائع والأفكار والمخترعات والمنتجات والثقافة الغربيّة: المراجع والمطابع والخدمات ووسائل الاتصالات والمواصلات، بل وثياب القائمين عليها وجميع وسائل حياتهم.
ج ـ والمجلّة ـ بهذا الإعلان ـ تخالف شرع الله تعالى في كتابه وفي سنّة رسوله ز؛ فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9] .
والفرق واضح لمن يَفْقَه بين التولي وبين التعامل بالمعروف. ولا يُقبل من المجلة ـ صاحبة الغلاف والإعلان ـ ولا من العاملين فيها ولا من موجّهيها أن يدّعوا أن أوروبا أو أمريكا قاتلتهم في الدّين ولا أنها أخرجتهم من ديارهم ولا أنها ظاهرت على إخراجهم، وهم يدّعون أنهم فرّوا إليها بدينهم ويُقِرّون ـ عمليًّا ـ أنها آوتهم ومنّت عليهم بالرّزق والأمن، ومنّت على أكثرهم ـ ومنهم موجهوا فكرهم ـ بصفة اللجوء السّياسي وجواز السّفر أو بالجنسية، وما أقرب ذلك من التولّي المنهيّ عنه في آخر الآية الكريمة وفي آيات كثيرة، فَهُمْ بين شِقَّي رحى المعصية.
وقال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه كان يتعامل مع المشركين واليهود والنَّصارى ويقرّ التعامل معهم عند الحاجة، وأنَّه دخل في جوار أحدهم، واتّخذ أحدهم دليلاً له في هجرته من مكة إلى المدينة، واتّخذ أحدهم عينًا (جاسوسًا) له، واستعار أدرع أحدهم عارية مضمونة، وزارع اليهود (بعد كلّ غدرهم) في خيبر، وقَبِلَ الهدية من بعض اليهود وزارهم وزاروه وأكل من طعامهم، ولبس الملابس من صناعة نصارى الرّوم ومشركي اليمن: ” ومن رغب عن سنتي فليس مني“، وأحلّ الله في محكم كتابه الأكل من طعام أهل الكتاب والزواج من نسائهم.
وفّق الله الجميع لتدبّر وحيه، والفقه في دينه، واتباع سنّة نبيّه، وأعاذهم من الهوى والفكر والظنّ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد وصحبه ومتّبعي سنته.