عن القتال لله والنصر منه
عن القتال لله والنصر منه
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب أحد الإخوة من كبار طلاب العلم الشرعي والعمل الشرعي يدعوني إلى المشاركة في مناقشة بعض المسائل مع عدد من إخوانه وزملائه في وظيفتي القضاء الشرعي والتدريس الجامعي. وكان من السهل عليَّ الاعتذار ببعد عهدي بمقاعد الدراسة الشرعية النظامية إذ تخرجت من كلية الشريعة (بمكة المباركة وهي الأولى في المملكة المباركة) عام 1376، أي: قبل نصف قرن، وببعدي عن مصادر السياسة غير الشرعية، أي: وسائل الإعلام إذ هجرتها منذ عشرات السنين بعد أن بدا لي شبه استحالة حكمها بالشرع أو العقل، لأنها لا تريد الخضوع لأي منهما، بل: (لسانك وقلمك سبيل رزقك). ولكني أعلم أنه يربط مسائله بمكان واحد: فلسطين، وهو يعلم صلتي بجميع بلاد الشام ومنها فلسطين قريباً من ربع قرن في العمل الشرعي الحكومي ثم التعاوني بعد ذلك حتى هذا اليوم بالدعوة إلى الله على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، لا على ما ابتدعته الجماعات والأحزاب الإسلامية، والإغاثة بالطعام لا بالمال الذي يمكن أن يصرف في غير وجهه الشرعي. وتقربت إلى الله بكتابة هذه الأسطر إليه بياناً لما أعلم أنه الحق ولو خالفه أكثر من في الأرض: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]:
أ- هل المسلمون اليوم أهْلٌ لنصر الله في فلسطين؟
منذ زرتها عام 1385، ثم تابعت أحوال الدين والدعوة فيها عن كثب منذ منتصف عام 1401 حتى اليوم، لم يظهر لي أن المسلمين فيها أهل لحكمها بشرع الله، أو النصر على الطامعين فيها، أو مجرد الحياة على أرضها:
1) المعاصي والمنكرات والمبتدعات منتشرة فيها على كل مستوى، ولا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر على أي مستوى ظاهر من أي فرقة.
2) تميزت سوءًا عن بقية بلاد المسلمين بلَعْن الربِّ، ولعن الدِّين، ينشأ عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، ولم يُتَّهم يهودي ولا نصراني فيما أعلم مرة واحدة بمثل هذا الإثم العظيم الذي يبرأ منه العقل والغريزة.
3) ومثل هذا الإثم والظلم العظيم شناعة: تعظيم أوثان المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة والأنصاب، وصرف الدعاء والنذر والذبح وطلب المدد والطواف لأصحابها. ولا عجب فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع» متفق عليه، ولكن العجب ـ بل والخزي ـ في أن يسبق المنتمون للإسلام والسنة اليهودَ والنصارى في عدد الأوثان (كما علمت من نشرة إحصائية نشرتها مديرية أوقاف القدس) في مخالفة صريحة صارخة لآخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم عند موته: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة رضي الله عنها: (يُحذِّر من ذلك) [متفق عليه]. بل وضعوا وثنين باسم نبيين لم يذكرا في كتاب ولا سنة: النبي روبين والنبي سيرين في سيريس (أو لعله سيريس في سيرين)، ولا شك أن ما خفي كان أعظم. والعجب والخزي: أن يسبق اليهود إلى تعظيم أربعة قبور في مغارة الخليل، ويحتل الصليبيون فلسطين فيبنون فوقها كنيسة، ثم يأخذها الأيوبيون فيبني (المسلمون) فيها سبعة أوثان ضخمة ظاهرة باسم: يعقوب وزوجته ويوسف إضافة إلى الأسماء التي اتبعوا فيها من قبلهم: إبراهيم وزوجته وإسحق وزوجته صلوات الله وبركته عليهم أجمعين، وسموا معبد الأوثان هذا: الحرم الإبراهيمي الشريف.
4) ومن الشر والخزي: أن يحتل اليهود الجزء الأخير من فلسطين عام 1967 إضافة إلى ما احتلوه عام 1948 (عشرات السنين) فيمتنعون عن بناء مؤسسة للقمار وما يتبعه من كبائر خضوعًا للدين وأهله؛ فيكون المشروع الفلسطيني الأول والأكبر تجاريًّا وسياحيًّا: كازينو القمار في أريحا مدينة (حررتها) معاهدة أوسلو. ويطمع العلمانيون من اليهود في إقناع دولتهم بقبول بناء مؤسسة مماثلة للقمار في النقب حتى لا تذهب أموال المقامرين اليهود إلى جيوب الفلسطينيين فلا ينجحون في إقناعهم حتى اليوم، لأن للدين وزنًا راجحًا.
5) ولم أر مرة واحدة من مدَّعي الجهاد والشهادة باسم الإسلام أي محاولة (منذ حسن البنا وسيد قطب وتقي الدين النبهاني رحمهم الله) لإخراج أفرادهم وغيرهم من وثنية المقامات والمزارات التي ولدوا وعاشوا وماتوا بينها، وهي الوثنية الأولى منذ قوم نوح إلا أن متأخري عبادها يدعونها في الرخاء والشدة وما بينهما تقربًا واستشفاعًا.
6) ولم أر مرة واحدة من مدَّعي الجهاد والشهادة باسم الإسلام اليوم أي محاولة لرد أفرادهم وغيرهم إلى دين الله الحق وأوله وأعظمه إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه، ولا إلى ما دون ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الاعتقاد ثم العبادة ثم المعاملة، من أحمد ياسين والرنتيسي رحمهما الله، إلى أن يقوم أشهر قادة حماس بالحج إلى وثن الخميني وتقديم قربان من الورود (أكبر من الذباب) والتصريح بأن الخمينيَّ: (أبونا الروحي)، ولعله يحلم مع الإعانة المالية المعتادة من إيران بطريق يسمى باسمه كالاسلامبولي لقتله السادات رحمه الله وكسيد قطب (7 طرق) لتنقصه خمسةً من المبشرين بالجنة وعددًا من بقية الصحابة وإسقاطه عهد عثمان رضي الله عنه من الخلافة الراشدة المهدية، وتحريضه على الخروج.
7) وبمقارنة حالنا في فلسطين من حيث الدين والخلق بقول الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، فلا شك أننا لسنا أهلاً للنصر في فلسطين ولا في غيرها (خارج جزيرة العرب المميزة من الله بتجديد الدين في كل قرن من القرون الثلاثة الأخيرة بالدولة السعودية في مراحلها الثلاث). قد ينزل الله النصر على عباده الكافرين مثل الشيوعيين في فيتنام وكوبا، ولكنه النصر الآخر.
ب- هل يجوز وصف المقاومة في فلسطين: جهادًا في سبيل الله؟
المعيار: الوحي والفقه فيه من أهله في القرون الأولى المفضلة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغْنَم أو ليذكر أو ليرى مكانه (وفي رواية أخرى: شجاعة أو حمية أو غضبًا) فمن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [متفق عليه].
1) نرى الأحزاب المقاتلة لا تأمر بمعروف (ولو كان توحيد العبودية) ولا تنهى عن منكر (ولو كان الشرك الأكبر) ولا توالي في الله ولا تعادي فيه، بل المنفعة الحزبية هي وحدها الحكم.
2) ونراها تقتل النفس التي حرم الله قتلها بغير حق، نفس المفجِّر ونفس المفجَّر (وكله فجور لم يُحَكَّم فيه شرع الله المفترى عليه)، ومرة واحدة على الأقل حكم الحزب (المجاهد في سبيل نفسه) بقتل فلسطيني بحجة تعاونه مع العدو، وبعد أسبوع أعلن الحزب أن المقتول بغير حق صار شهيدًا. وصكوك الشهادة مثل صكوك الغفران: هباء.
3) ونراها تعلن بعد كل عملية عسكرية أن الحزب المعلن (من بين الأحزاب) هو منفذ العملية، لأي غاية؟ إن لم يكن ليُرى مكانه فيزيد نصيبه من المكافآت السنية أو الشيعية أو العلمانية أو النصرانية أو الشيوعية (ولا تعجب إذا عرفت أن الشيوعيين اليهود كانوا هم الذين يخيطون الأعلام الفلسطينية للمقاومة الفلسطينية قبل معاهدة أوسلو) فأعداء دولة الظلم كثيرون وهم لا يقلون عنها ظلمًا: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
4) ونراها تخرج عن الدولة والأمة فتعزل غزة عن بقية بلاد فلسطين التي تحكمها السلطة، وتجتذب الرد الإسرائيلي بصواريخ القسام على رؤوس العزَّل ثم تشكو من الاعتداء، ومنذ بداية القرن الخامس عشر لم أر هجومًا إسرائيليًّا لم يُجتذب بغارات الفلسطينين من مختلف الأحزاب الإسلامية والعلمانية. وترفض حماس في الأزمة الحالية وجود قوات دولية توقف الغارات من الجانبين لأنها هي سبب وجودها.
وتحاول إسرائيل استدراج المقاومين لقتالهم خارج المنطقة المأهولة فيحاول المقاومون استدراج إسرائيل للقتال في المنطقة المأهولة؛ إسرائيل لا تريد إثارة الرأي العام العالمي بقتل المدنيين، والمقاومة تريد ذلك كلٌّ لمصلحته، أما الحق والعدل فليس أكبر همّ أي منهما فيما يظهر من قوله وعمله.
5) ويظهر من أقوال قادة الأحزاب منذ أسس حسن البنَّا جماعة الإخوان المسلمين أن قصده اغتصاب الحكم. ولما انفصل حزب التحرير، والتكفير والهجرة، والجهاد لاستعجالهم الأمر حاول الحزب الأم إثبات جدوى تكتيكه الوصول إلى السلطة دون اللجوء إلى السلاح فحاول الدخول إلى حمى الحكم بطريق البرلمان (ولو باسم حزب الوفد المصري مثلاً الذي يصفه بالعلمانية) في مصر والأردن والجزائر واليمن فأخفق في كل مرة، ثم ركب غزة بعد اغتصابها من السلطة.
6) وكان القتال في شرع الله هو آخر مراحل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا؛ فجعله الأحزاب الموصوفة بالإسلامية أول المراحل، بل نفت أول مراحل الدعوة في كل رسالات الله إلى عباده: (توحيد الله بالعبادة ونفيها عما سواه) من مناهجها العملية أبدًا، ومن جلِّ مناهجها النظرية، ونفت ثاني أهم مراحل الدعوة: (التزام السنة وهجر البدعة)، ونفت ثالث أهم مراحل الدعوة (مع تداخل هذه المراحل): (ترتيب أوليات الدين والدعوة: الاعتقاد ثم العبادات ثم المعاملات) فلم تُظْهِر الاهتمام بغير جزء من المعاملات.
7) واختارت مناهج البشر على منهاج النبوة والصُّحْبة والاتباع. وادعت انتصارها للحكم بما أنزل الله ولكن بالفكر لا بالفقه الأول في الدين ممن زكَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون قبل أن تخلف بعدهم الخلوف، وكانوا أقرب إلى صحة اللغة وصحة النقل وصحة الغاية والوسيلة، وفوق ذلك صحة المنهاج.
8) وإذ تقرر أن المقاومة الحزبية في غزة فلسطين لا تقاتل أبدًا لتكون كلمة الله هي العليا بل لتكون كلمة الحزب هي العليا فيما يظهر من قولها وعملها، وأنها لا تقيم شرع الله ولا تتبع منهاج نبيه في الدين ولا في الدعوة بل منهاج الحزب، وأنها تقاتل تحت راية خارجة على الأمة والدولة، راية الحزبية الخاصة بها لا راية الأمة والدولة؛ فلا شك أنها لا تجاهد في سبيل الله بل في سبيل الحزب أو الغضب أو ليُرى مكانها أو للمغنم الدنيوي من مال أو متاع أو إمارة. ولعل الله أن يهدينا لأقرب من هذا رشدًا، ويهيئنا بذلك للنصر من الله والعز والتمكين؛ فهذا طريقه: نصر الله باتباع شرعه وسنة نبيه ونبذ مناهج الحزبية المبتدعة الضالة المضلَّة، الصارفة عن طريق الحق صراط الله المستقيم.
ج- هل يجوز القنوت في صلاة الفريضة لمصلحة المقاومة؟
ولي أمر المسلمين في هذه البلاد المباركة المنوط به أمر الصلاة وإقامتها في بيوت الله وتهيئتها لذلك: (وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد)، وبفضل الله قام عليها منذ أنشئت خيار الأمة علمًا وعملاً، فهي التي تتولى هذا الأمر، وقد نهت عن القنوت إلا بإذن منها، ولم يصدر إذن بذلك منذ بداية الأزمة، فلا يجوز للإمام القنوت لهذه الأزمة ولو أفتاه من أفتاه. قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
ويا للحسرة، فمصدر المفتين والمستفتين وسائل الإعلام الظنية في أحسن أحوالها، وأكثر أدعية المْحدَثين مُعْتَدِية وهم لا يشعرون.
(1430 هـ)