إنَّ الله ليَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن

إنَّ الله ليَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

1- في عصر النبوة وأكثر عصر الخلافة الراشدة وأكثر عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان في القرن الأول وزع الله الأمة بالقرآن وبولاة أمرها عما حرم الله من معاصي الشبهات والشهوات باستثناءات نادرة لا حكم لها، وباستثناء اللَّمَم، لعَدَم عصمة غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
واستمر الدين قائمًا حتى نهاية ولاية عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ أو لنقل: حتى نهاية العصر الأموي مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشرة خليفة…». (السلسلة الصحيحة: 375، و962).
وفي القرنين التاليين بُسطت الدنيا على الناس فتنافسوها في العصر العباسي تجاوز الله عنهم، واستقدموا العنصر الفارسي الأصل للجِدِّ واللهو، وتجاوزت مخالفات القول والعمل من أمور الشهوة إلى الشبهة فتحول وازع السلطان إلى الأمر بالمنكر (القول بخلق القرآن) في عهد المأمون والمعتصم والواثق إلى درجة سجن وجلد وقتل بعض العلماء؛ وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله الذي استمر سجنه وجلده ومنعه من تعليم الناس دينهم الحق في عهد الولاة الثلاثة.
ولكن هذا النوع من إكراه المسلمين على المعصية لم يحدث بفضل الله من قبل ولا من بعد، حتى اليوم.
2- وبين القرن الرابع والسادس انتشر التصوف والتشيع والابتداع، وتولَّى ولاة الفاطميين (العبيديين) نشر الفساد في الأرض، ومنه بناء أوثان المقامات والمزارات والأضرحة؛ ولا يزال وثن باسم الحسين شاهدًا على هذا المنكر منذ نحو ألف سنة؛ فلم ينكره أحد من ولاة المسلمين بعد الفاطميين، وأولهم: صلاح الدين الأيوبي تجاوز الله عنه، بل ذكر عنه السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء: أنه بنى وثنًا باسم الشافعي رحمه الله، والسيوطي لا ينكر ذلك عليه، بل يراه عملاً صالحًا، فقد حكم شيخه [جلال الدين المحلِّي في تفسيره الذي أتمَّه السيوطي من بعده، واشتهر بتفسير الجلالين]  بالكفر على من قالوا عن أهل الكهف: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، وحكم بالإيمان على من قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، وهذا يدل على ما وصلتْ إليه حال أكثر المسلمين ـ علمائهم فضلاً عن عوامهم ـ من الجهل بالفرق بين الإيمان والكفر، والسنة والبدعة، والهدى والضلال.
3- وهذا يكشف عن سبب تحول أكثر علماء المسلمين إلى أشاعرة وعوامهم إلى متصوفة ومبتدعة، والتزامهم بالتقليد وهجرهم الدليل؛ وترى كثيرًا من كبار طلاب العلم والعلماء يفخر ـ مثلاً ـ بأنه حنفي المذهب، ماتريدي العقيدة، نقشبندي الطريقة، يلتزم بمذهب أبي حنيفة رحمه الله في أحكام العبادات والمعاملات ويشاقه في الاعتقاد، بل ويشاقق الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقة الذكر ويتبع المتصوفة.
4- وكان أعظم ما أرسل الله به رسوله ومن سبقه من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: الأمر بافراد الله بالعبادة والنهي عن إشراك غيره معه في عبادته؛ وكان من أعظم ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه: (اتخاذ القبور مساجد)، كما فعلت اليهود والنصارى، وهي وثنية قوم نوح (منها نشأت وإليها انتهت، كما في صحيح البخاري وتفسير ابن جرير)، واليوم ـ ومنذ قرون ـ: أوثان المنتمين إلى الإسلام والسنة أكثر من أوثان اليهود والنصارى والشيعة وجميع الفرق الضالة في بلاد المسلمين ـ عربًا وعجمًا ـ؛ ولقد تبيَّنتُ أن جميع الأوثان في سلطنة عُمان للمنتمين للسنة، لبس للإباضية منها شيء؛ ولكن الشيعة والسنة يجتمعون على دعاء وتقديس الحسين ـ مثلاً ـ في دمشق وجعفر في مؤتة، ويجتمع النصارى والسنة على دعاء وتقديس أوثان باسم الخضر، طهَّر الله الخضر والحسين وجعفر منهم جميعًا.
فتفرَّق أهل الضلال (باختلاف انتمائهم) على الحق؛ واجتمعوا على الباطل، هداهم الله جميعًا، بل اجتمع المسلمون واليهود على أوثان باسم آل إبراهيم ويعقوب.
5- واستمرت حال أكثر المسلمين ودولهم: الأيوبيين والمماليك والعثمانيين ومن بينهم على ضعف وازع القرآن ووازع السلطان في نفوس وأقوال وأعمال أكثر المسلمين نحو ثمانية قرون، أو عدمه.
ولا يشعر المسلمون بسوء حالهم، وبالتالي لا يريدون تغييره، بل هم جميعًا ـ إلا من شاء الله ـ ينصبون اسم المعتصم للقدوة بحجة أسطورة (وا معتصماه) الشركية، وينصبون اسم صلاح الدين للقدوة ويشترطون على الله: فتحًا (كفتح صلاح الدين) لا كفتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويهمهم الغزو والفتح ولا يتذكرون: (لتكون كلمةُ الله هي العليا) ولا: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وهم يقتدون بالخوارج على عثمان وعلي رضي الله عنهما وأرضاهما: يُحكمون فهمهم القاصر لنصوص الوحي، ولا يلتزمون بفهم الصحابة لهذه النصوص، لانشغالهم بالحفظ والتجويد عن التدبر؛ فيخرجون على ولاة أمرهم، ويفسدون في الأرض بحجة: الحرية والديمقراطية والمساواة؛ أما إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه، والتزام بالسنة، والتحذير من البدعة، فلا يكاد يذكر حتى في كتب العلم.
6- وبعد غفلة المسلمين ثمانية قرون (من القرن الرابع إلى منتصف القرن الثاني عشر من الهجرة) بعث الله لدينه من يجدده في القرون (12 و13 و14) بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الدين والدعوة مقتفيًا أثر المجدِّدين قبله الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله (في القرن السابع والثامن)، ولم يخلُ (ولن يخلو) قرن من مجدد، ولكن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تميَّز عن كل المجددين منذ القرن الرابع بتوفيق الله للإمام محمد بن سعود رحمه الله بمؤازرته في نشر الدعوة وفي جهاد أعدائها، وتأسيس دولتها على منهاج النبوة من أول يوم، ثم في تجديد الدين والدعوة والدولة في القرنين التاليين لقرنهما بعد الفتنة العثمانية الأجنبية (الخارجية) ثم الفتنة الأهلية (الداخلية).
7- وفي عهد محمد بن سعود رحمه الله (1158-1282) كانت الشؤون الدينية من مسؤوليات الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشؤون الإدارية من مسؤوليات محمد بن سعود (وكان الأمر شورى بينهم).
وفي عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله (1182-2118) رأى الشيخ محمد في تلميذه الإمام عبد العزيز من الأهلية العلمية الإدارية ماجعله يجمع له مسؤوليات الشؤون الدينية والدنيوية (وبقي الأمر من التعاون بين آل سعود وآل الشيخ وبقية العلماء حتى هذا اليوم).
والفصل فيه بعد ذلك لمن ولاه الله الأمر من آل سعود، كما هو الحق والعدل والشرع والعقل؛ لا كما هو الظن والديمقراطية.
8- ولا يزال آل سعود بفضل الله عليهم وبفضل الله بهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم يحمون أكثر جزيرة العرب من أوثان المقامات والمزارات والأضرحة وزوايا التصوف وما دونها من الابتداع في الدين منذ أن طهروها في نهاية القرن الثاني عشر ثم بداية القرن الثالث عشر ثم في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وهو تمييز واصطفاء من الله وفضل عظيم لم تحظ به دولة من دول المسلمين منذ نهاية القرون الخيرة؛ والله يختص بفضله من يشاء.
ولا يزال آل سعود ـ ثبتهم الله ونصر بهم دينه ـ يقيمون الحدود الشرعية ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحكمون شرع الله في كل مسائل الاعتقاد والعبادات وجل مسائل المعاملات وحدهم.
9- وقبل بضع سنين أسس آل سعود  (مؤسسة الدعوة الخيرية) لبثِّ دروس وعلوم الشريعة من جامع الأمير فيصل بن فهد بن عبد البعزيز آل سعود رحمه الله في الرياض (يلقيها صفوة كبار العلماء) إلى كل مكان يستقبل البث في العالم، ولَئِنْ قصَّرَ التنفيذيون حتى اليوم عن بلوغ أهدافها. ويقوم على المؤسسة السلفية المتميزة سمو الأمير السلفي سعود بن فهد بن عبد العزيز آل سعود.
10- أسس آل سعود قبل بضع عشرة سنة مدارس خيرية لتعليم القرآن والسنة خروجًا من التقليد الأعجمي: التحفيظ دون فهم؛ وممن يقوم على هذه المؤسسة المتميزة (بل التادرة): سمو الأمير السلفي نايف بن ممدوح بن عبدالعزيز آل سعود نيابة عن والده المؤسس الأمير ممدوح بن عبد العزيز، نصر الله بهما دينه وسنة نبيه.
11 – أما راعي الدعوة السلفية سمو الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود فيضيق وقت ومساحة هذا المقال عن إحصاء ما ميَّزه الله به من خدمة السنة والمنهاج السلفي وحراسة الدين والدعوة وإدراك ما خص الله به آل سعود في القرون الثلاثة الأخيرة بين دول المسلمين منذ ألف سنة (بلفظ محمد بهجة الأثري رحمه الله) من تحكيم شرع الله، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، والجمع بين خير الدين والدنيا (بلفظ محمد أبو زهرة رحمه الله)، والحرص على بقاء هذا التميز وزيادته قوة، معرفة بفضل الله وشكرًا له عليه، وقيامًا بفضل الله لوازع السلطان والقرآن.
ومما تميز هو به إنشاء جائزة الأمير نايف للسنة، وهي الفريدة من نوعها في العالم، وكان خير من اختارها هو لنيلها المحدث أحمد محمد شاكر رحمه الله إحياء لذكره وتكريمًا لآله.
ويوم سوَّل الشيطانُ لأحد أستاذة الجامعة نشر مقالات تنصر المبتدعة والمخرفين على المحدث الألباني رحمه الله أمر بايقاف النشر وفصل كاتب المقالات من الجامعة وأمر بمنح الألباني جائزة الملك فيصل رحمهما الله (استثناء من نظامها).
وأمر (نصر الله به دينه) بايقاف عدد من الصحفيين ورؤساء التحرير لتعدِّيهم على هيئة الأمر بالمعروف (بخاصة) وعلى الدين (بعامة).
ومع استمرار دولة التوحيد والسنة في التميز على العالم بمنع دور السينما والمسرح ألزم الأمير نايف أشهر المراكز الترفيهية العادية بفتح مكتب لهيئة الأمر والنهي داخل المركز الترفيهي ضمانًا للإلتزام بشرع الله: وأوله إيقاف اللهو وقت الصلاة، ولا نهاية للأمثلة الصالحة.
وتحت رعايته خصص سمو أمير عسير السابق (خالد الفيصل) دروس مجلسه العام للسلفيين، وردم سمو أميرها الحالي (فيصل بن خالد) بئرًا يتبرك بعض الجهلة بمائها، حفظ الله الدولة وولاة أمرها قدوة صالحة.

(1432/10/28هـ).

تذييل:
قال عبد الحق التركماني عفا الله عنه: قولهم: (إنَّ الله ليَزَعُ بالسُّلطان ما لا يزعُ بالقرآن)؛ كلمة قديمة جرت على ألسنة السلف الصالح، وتُروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما.
أخرج ابن شبَّة في (تاريخ المدينة) (1704) من طريق يحيى بن سعيد: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (لَمَا يَزَعُ السُّلْطَانُ النَّاسَ أَشَدُّ مِمَّا يَزَعُهُمُ الْقُرْآنُ). وإسناده ضعيف لانقطاعه.
وأخرج الخطيب في (تاريخ بغداد) 5/173 من طريق الهيثم بن عدي ـ وهو ضعيف جدًّا ـ، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: (لَمَا يَزَعُ الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن).
وقد ذكر بعض الفقهاء هذا الأثر حديثًا مرفوعًا، ولا أصل لذلك. ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى عثمان رضي الله عنه بصيغة الجزم (مجموع الفتاوى: 11/416). وقال ابن الأثير في (النهاية): (مَن يزع السلطانُ أكثر ممن يزع القرآنُ) أي: من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن يكفه مخافة القرآن، والله تعالى. يقال: وزعه يزعه وزعًا فهو وازع إذا كفه ومنعه.