عرب العصر ومشية الغراب
عرب العصر ومشية الغراب
بسم اله الرحمن الرحيم
أ- يدعي العرب أن الغراب حاول أن يمشي مشية الحمامة فضيَّع مشيته ولم يدرك مطلوبه، ولا شك أن الدعوى ظالمة لأن العجماوات (عادة) تلتزم ما فطرها الله عليه وخلقها له، ولذلك فضلها الله على أهل النار من الثقلين فقال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. أما عرب هذا القرن بخاصة (والقرون الماضية بعامة منذ عهد الفاطميين) فيعيشون على التقليد في أسوأ أحواله وأدناها وقد أنذرهم الله (في وحيه على رسوله) سوءَ هذا المنقلب كما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا في جُحْر ضبّ لاتبعتموهم»، واللفظ لمسلم. وإذا كان المقلدون من القرون الماضية قد اكتفوا بالتقليد في الابتداع بالشرك الأكبر (دعاء غير الله معه) فما دونه من نظريات وطقوس التصوف الهندوسي (من الفناء والوحدة والاتحاد والحلول إلى الهز عند الذكر وعقده بمسبحة من خرز)، واستعارة ثم الاستيلاء على نمط العمارة البيزنطية للكنائس من قباب وأقواس وزخارف بالزجاج الملون وتسميتها زورًا: (عمارة إسلامية)؛ فإن المتأخرين من العرب أضافوا إلى خطايا التقليد الديني (غير الشرعي): التقليد الدنيوي بعد أن بهرهم بريق الحضارة الصناعية الغربية، وهو أهون.
ب- ومن العدل الاعتراف بأن عرب العصر كانوا أقرب ما كانوا إلى العقل (في التقليد الديني) باقتباسهم أمرين من النصارى وقبلهم الهندوس:
1) ما سمي بالصحوة الدينية (الإسلامية) وسماها النصارى في أمريكا: (الولادة مرة أخرى، أي: العودة إلى الدين)، والغالب أن هذه التسمية أخذت من ظن الهندوس بتناسخ الأرواح أو: (الولادة مرة أخرى في حال أخرى جزاء لعمل صالح أو فاسد). ولقد شهدت بعيني تطور ما سماه العرب الصحوة الإسلامية يوم كانت صحوة هندوسية (كرشنا) ثم صحوة نصرانية في أمريكا، ثم أخذها الطلاب العرب (من حزب الإخوان المسلمين بخاصة) فاستغلوها لصالح حزبهم في الخارج ثم في الداخل قبل أربعين عامًا. ولأنها لم تبن على نهج صالح من العلم والاتباع، لأن حزب الإخوان لم يبن على العلم ولا الاتباع – منذ أن نشأ حتى اليوم – بل على العاطفة والتعصب؛ ولدت خداجًا، فاهتمت بالشكل وانشغلت عن المحتوى، واهتمت بالأدنى والمهم وانشغلت به عن الأهم؛ وقد تجدُّ في جمع التبرعات ولا تجدُّ على صرفها في الصالح العام إن خالف مصلحة الحزب، وقد تجدُّ في تحفيظ القرآن (واستغلال مكانه وزمانه مَطِيَّة للدعاية الحزبية) ولا تجدُّ في تدبره والعمل به وتبليغه، وقد تهتم بتربية الشباب وتوعيتهم وتثقيفهم على النهج الحزبي ولا تهتم ببقية الأمة ولا بمنهاج النبوة، وقد تبالغ في الدعوة إلى نوع من الحجاب الإسلامي ـ بزعمها ـ ولا تهتم أبدًا بالدعوة إلى إفراد الله بالعبادة وأن لا يصرف شيء منها لغير الله، رغم أن الله اختارها لجميع رسالاته ولجميع رسله، ورغم أن أكثر المسلمين يتقربون إلى الله بمخالفتها.
2) الإغاثة (بعد إضافة وصف الإسلامية إليها) يقوم ويوظف فيها وينتفع منها الحزبيون والحركيون في أكثر الأحوال، وتفصل عن الدعوة إلى الله على منهاج النبوة.
جـ- وأسوأ ما قلد فيه عرب العصر الوثنيين (بعد وثنية المقامات والمزارات والافتراء على ألوهية الله وربوبيته بدعوى الفناء والحلول والوحدة والاتحاد): دعوى الجهاد العدواني بهدف القتل دون تفريق بين محارب وغير محارب، ولا بين ذمي أو معاهد ومعتدي، ولا بين صغير وكبير، ولا بين ذكر وأنثى، وأشنعه قتل المنتمي إلى الإسلام نفسه فيما يسمى زورًا: (العمليات الاستشهادية) ولا أعرف لها قدوة غير الطيارين اليابانيين (الكاميكاز) في محاولاتهم إغراق سفن الحلفاء، وغير الرهبان البوذيين الفيتناميين (إن لم يكونوا شيوعيين بلباس الرهبان) في محاولتهم إحراج أمريكا والاحتجاج عليها بإشعال النار في أنفسهم، وهؤلاء وهؤلاء أقرب إلى العقل (من الانتحاريين العرب) لأنهم يواجهون مقاتلين أثناء الحرب، ولا يقتلون مدنيًّا ولا صغيرًا ولا غير محارب، ولا يدَّعُون الإسلام والسنة أو التشيع لآل البيت.
د- وقلد عرب العصر المنتمون للسنة المنتمين للشيعة من قبل ومن بعد؛ قلدوا القرامطة في سفكهم الدماء واستيلائهم على السلطة. وقلدوا عصابة حسن الصبَّاح الذين كانوا يهاجمون مراكز السلطة ويقتلون أهلها ثم لا يهربون بل ينتظرون القبض عليهم وقتلهم ظنًّا منهم أن هذا يعجل بوصولهم إلى الجنة، والفرق: أن العرب يقتلون أنفسهم. وقلد عرب العصر (الإسلاميون بخاصة): ثورة الخميني بالشريط (الموصوف زورًا بالإسلامي) وبخطب الجمعة المسيَّسة (بالسياسة الرخيصة) خلافًا لشرع الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفقه الصحابة والتابعين وتابعيهم في القرون الخيرة (السياسة الشرعية).
وصدق عليهم الخميني ظنه فاتبعوه في صرف اهتمام الفرد عن إصلاح دينه وتحمل مسؤولية رعيته، إلى البحث عن عيوب من ولاه الله عليه ونشرها على الملأ والتحريض على عصيانه والخروج عليه، بل صرف اهتمام الفرد عن التعرف على نقصه وتقصيره وتفريطه في جنب الله تعالى ومخالفة أكبر أعدائه: نفسه وشيطانه، إلى الاهتمام بمحاربة ما سماه الخميني: الشيطان الأكبر (أمريكا)، وبالتحليلات السياسية الساذجة للأخبار الداخلية والخارجية والإشاعات.
هـ – وقبل الخميني قلد العرب في القرن الماضي الثورات الغاشمة في فرنسا والشيوعية في روسيا والشيوعية في الصين طمعًا باللحاق بالعصر الصناعي، وانحسرت موجة الثورات بفضل الله بعد أن تبيَّن أنهم لم ينجحوا إلا في معصية شرع الله: (وألا ننازع الأمر أهله)، ولكنهم ما زالوا مجمعين على وجوب اللحاق بعصر الصناعة، وفي اعتقادي أنهم يلهثون وراء السراب والخيال: كانت الثورة المصرية عام 1952 أول الثورات وأقلها سوءًا، (فلم تصبغ بالدم، مثل الثورة العراقية، وإلى حد أقل وحشية: الثورات السورية المتتابعة)، وحاولت أن ترضي الجميع: فأقنعت الملك فاروق بالتنازل لابنه تحت وصاية عدد من السياسيين، وحكمت باسم محمد نجيب كبير السن رفيع الرتبة لين العريكة، وخرج جميع قادتهم يحيُّون ويودعون الملك في طريقه إلى أوروبا ومعه أمواله المنقولة. وجعلوا سيد قطب مستشارًا لهم، وصدقوا ظنه في كتابيه (العدالة، ومعركة الإسلام والرأسمالية) فوضعوا أموال الأثرياء وأراضيهم في ملكية الدولة والشعب موافقة لفكر سيد ومخالفة لشرع الله، ولكنهم منعوا البغاء، واتفقوا مع الإنكليز على الجلاء، ثم أمموا قناة السويس، وبنوا السد العالي، وامتلكوا الطائرات والدبابات والسفن الحربية، ولم يبق إلا حلم أو وهم العرب باللحاق بالحضارة الصناعية؛ فبنوا ألف مصنع وترجموا ألف كتاب من أهم كتب الحضارة منذ اليونان، وطوروا الجامع الأزهر فيما يتعلق بنظم التعليم ومناهجه ليواكب مسيرة الحضارة الصناعية (فمسخوه جامعة) كما يروى عن طه حسين تجاوز الله عنا وعنهم جميعًا، ولما أخفقت اشتراكية سيد قطب الموصوفة زورًا بالإسلامية (انفتحوا) على الديمقراطية والرأسمالية، وهما أقرب إلى العدل (والشرع كذلك)، وسلمت مصر في عهودها الثلاثة من دمار الانقلابات والحروب (العراقية والسورية) عدا حربها الخاسرة مع إسرائيل ثم حربها معها الأكثر نجاحًا، وفي المرحلة الثانية والثالثة استردت مصر بالمفاوضات أكثر ما خسره العرب بالحرب وأثمنه دينًا ودنيا، واستقرت ثلاثين سنة، وتلقت الإعانات الغربية مالًا وسلاحًا وتقنية، لكن هل تحقق حلم العرب الحضاري الصناعي؟
و- لا أشك أن وهم اللحاق بالحضارة الصناعية سيبقى سرابًا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا:
1) من عدل الله وفضله ورحمته أنه لا يعطي أحدًا من خلقه كل شيء (مسلمًا أو كافرًا) {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 20 – 21].
2) وغير المسلم أحق بالدنيا: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33-35]، وورد في الحديث: «لهم الدنيا ولنا الآخرة» [متفق عليه]، وفي الآية الكريمة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]. وما كان من هم النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه ولا صحابته ولا تابعيه أو من أمرهم، ولا من أركان الإسلام أو فرائضه أو سننه: صناعة السيوف والحراب ولبوس البأس بل ولا سرابيل الحر والبرد.
وجميع الحضارات السابقة وثنية وآخرها علمانية: الهندية والبوذية، وعاد، وثمود، والفرعونية، واليونانية، والرومانية، والإنكا، والأوربية الأمريكية.
وتسمية: (الحضارة الإسلامية) ونسبتها للعرب مبالغة كاذبة خاطئة أسوأ من نسبة اختراع الطيران إلى عباس بن فرناس والأدب الإنكليزي إلى الشيخ زبير؛ فلا يجوز أن ينسب للإسلام إلا ما أنزل الله من الوحي في الكتاب أو في السنة بفهم سلف الأمة في القرون الخيرة، والأسماء البارزة في الطب والرياضيات وما دونهما من الفنون الصالحة والطالحة التي يفخر بها عرب العصر إنما نسبت لرجال أصولهم أعجمية وليس فيهم داع إلى الله على منهاج النبوة ولا من يصلح قدوة في الدين، بل إنما برزوا في هذه الفنون لبعدهم عن الدين وتتبعهم فكر الوثنيين قبلهم وربما برز الصالحون منهم في صناعة علوم القرآن والحديث، بل واللغة العربية وفق تمييز الله الأعاجم بالصناعة فلا تكاد تجد لهم من العرب (جزيرة العرب بخاصة، وغيرها بعامة) منافسًا.
وماذا بقي للعرب؟ خير ما أعطى الله خلقه: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161]؛ فقد اصطفاهم الله واصطفى أرضهم واصطفى لغتهم:
1) أنزل الله خاتم كتبه بلسانهم.
2) أرسل خليله وعبده وخاتم رسله، سيد ولد آدم يوم القيامة منهم.
3) اختار جزيرتهم منشأ وموئلًا لخاتمة رسالاته للإنس والجن.
4) بل اختار أرضهم منشأ لجميع من قص الله علينا من رسله.
5) واختار من قراهم مكة المباركة (أم القرى وخير بقاع الأرض على الإطلاق) ليرفع عليها إبراهيم وإسماعيل قواعد بيته المحرم، صلى الله وسلم وبارك عليهما وعلى جميع أنبيائه ورسله وأوليائه.
6) وفرض على عباده حج بيته الحرام، وسن زيارة مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم (أقدس مسجد بعد المسجد الحرام) ، فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ورزقهم من خير الثمرات، بواد غير ذي زرع، تجبى إليه ثمرات كل شيء من كل مكان {لعلهم يشكرون}.
7) وشرع زيارة المسجد الأقصى (ثالث أقدس مسجد على الأرض) بل وأنزل بركته على بيت المقدس وما حوله من بلاد الشام بعد جزيرة العرب.
8) واختار المهاجرين من مكة والأنصار من المدينة (وجلهم من جزيرة العرب) لنصرة دينه ورسوله وكتابه ووظفهم للدعوة إلى سبيله ونشر دينه في بقية أرضه وخلقه.
9) وأخيرًا وآخرًا فتح خزائن أرضهم وسخر غير العرب وغير المسلمين لاكتشافها واستخراجها ونقلها وتسويقها واعتماد حياتهم عليها.
10) ولما نسوا ما ذكروا به، وتركوا ما كان عليه النبي وأصحابه من الدين والدعوة على بصيرة، وطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكادت البدع الوثنية فما دونها تحجب وجه الدين الحق؛ اصطفى الله صحراء العرب فجدد بعلمائها وأمرائها دينه ثلاث مرات في القرون الثلاث الأخيرة، وجعل الدرعية مرة والرياض مرتين مأرِزاً للدين وأهله، وجعلها قدوة للعرب والمسلمين: لا يبنى فيها مسجد على قبر، وليس فيها وثن من أوثان المقامات والمزارات، ولا زاوية صوفية، ولا حزب ومنهج مبتدع يفرق المسلمين. ولكن العرب يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ثم يتهمون الغراب بالتقليد المخالف للفطرة، هداهم الله لأقرب من هذا رشدًا.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه في محرم 1432 هـ.