عن العراق والجهاد، نقد لخطاب الحركيّين المفتوح
عن العراق والجهاد، نقد لخطاب الحركيّين المفتوح
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب عدد من المفكرين في بلاد الدعوة إلى التوحيد والسنة (خطاباً مفتوحاً إلى الشعب العراقي) الذي وصفوه بالمجاهد؛ وصِفَة المجاهدة منذ أفغانستان تُصْرف بغير حساب لكلّ من حمل السلاح في وجه أمريكا تصديقاً لدعوى الخميني أنها الشيطان الأكبر، ولو كان هذا صحيحاً لكان الفيتناميّون الشيوعيون الوثنيَّون أولى بهذا الوصف وأسبق إليه، وقدّر الله لهم النّصر الكاسح بعد عشرات السنين من المقاومة المستمّرة لأمريكا وقبلها فرنسا: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ} [الإسراء: 20]، {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
وقد بدا لي في هذا الخطاب المفتوح (على مختلف الأوصاف والاحتمالات) ما يلي:
1- حُسْن نيّة الموقّعين عليه، فلا يجوز اتهام النّية ومحلّها القلب فالله وحده يعلم ما تكنه الصدور مهما ظهر من صلاح العمل أو فساده وقد قال عن شر خلقه: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104].
2- من غرائب الفكريين وعجائبهم وتناقضهم أنّ خطابهم لم (ينفتح) للشعب العراقي طيلة (احتلال) البعث العراقي الملحد للعراق وتحكم طاغوته (الأخير بخاصّة) في رقاب العباد (وألسنتهم وعيونهم وآذانهم)، وكان الناس يموتون بالرّصاص والمواد الكيمائية وأدوات التعذيب المختلفة، وكانت السجون داخل السّجن الكبير تقول: هل من مزيد؟ وعلى حدود العراق البائس (رغم أنهار الماء وأنهار النفظ) مع الكويت يرى القادم (قبل كل شيء) لوحة كبيرة لم أر مثلها في بلد شيوعي تعلن: (أنت بعثي ولو لم تسجّل في الحزب)، وكانت أوثان صدّام في كلّ مكان.
ولم (ينفتح) خطاب الفكريين لشعب الكويت الذي أُخْرِج من أرضه ودياره، وسُرِقَت أمواله ومتاعه (حتى تحولت أرصفة بعض البلاد المؤيدة للباطل متاجر لبيع المسروقات)، وهُدِّد مستقبل دينه ودنياه، وتوقفت إعانته للمحتاجين إليه في كل أرض ومنهم الذين أعلنوا الفرح بنكبته أو أَسَرُّوه.
3- طالب الخطاب العراقيين بالإخلاص لله وإرادة وجهه، وهذا مطلب عظيم لا يتكرر في الخطاب ولكن يُفهم من السّياق حَصْرُه بالمقاومة وهي مثل كلّ مقاومةٍ أُلْبِستْ زُوراً ثوب الجهاد لا يظهر منها إلا الأهداف المعلنة للمقاومين، إسلاميين أو علمانيين: الأرض والسّلطة والهوية والقوميّة، أما الدين فهو لله والوطن للجميع كما فهمت من تحذير الخطاب (عن إقحام الناس في الانتماءات الخاصّة والمواقف الضَّيقة والخلافات المذهبية).
4- كانت أفغانستان تَغْرق ـ مثل العراق وفلسطين ـ في وثنية المقامات والمزارات والمشاهد، وكانت الشيشان تَغْرق في التّصوف الضّال، وكانت البوسنا تَغْرق في الإلحاد، ولم أر خطاباً مفتوحاً ولا مُغْلقاً كتبه الفكريّون بل ولا طلاب العلم، ولا ظهرتْ حركة للجهاد وأوّل مراحله الدّعوة إلى التوحيد والسنة بالحكمة والموعظة الحسنة (قبل أن قلب الفكريّون سلّم الأوّليّات)، ولا نَشِط الأئمة للقنوت، ولا الخطباء لتعليم الدّين وهو المقصد من فريضة خطبة الجمعة، لأن قلوبنا تتحرك للدّنيا (الأرض والسّلطة) لا للدين، نستغفر الله ونستعيذ به.
ولقد ذَكَّرْت كثيراً من الأئمة والخطباء بأوّليّة الدّعوة إلى الدين (وأساسه التوحيد والسنة) والدّعاء لإخوانهم في فلسطين والعراق والشيشان وغيرها بالرّجوع إلى الدين الحق الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولكنهم يصرّون ـ غالباً ـ على الانشغال والإشغال بالذي هو أدنى وبالمبالغات والتّهريج والتَهييج بل وبالافتراء على الله كمثل: (اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم)، وتجنّب الدعاء لهم بالهداية (مسلمين أو غير مسلمين)، وقد أرسل الله كل رسله للدعوة والدعاء للمسلم والمشرك واليهودي والنصارى بالهداية، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكي نبيّاً ضربه قومه حتى أدموه، فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون».
5- ذكر المفكرون أنّ (من شرط النجاح فَهْم الظّرف والمرحلة والواقع فهماً جيداً)، ولا بدّ أن هذا من وحي (معلم الفكر الأول سيد قطب) الذي هوّن من فقه الأوراق وحث على فقة الواقع والحركة؛ لأن المفكرين لم يذكروا من شروط النجاح: تصحيح المعتقد بإفراد الله بالعبادة والالتزام بالسنة، ولا تَرْك الشرك والبدعة، ومعلوم أن أغلبية المنتمين إلى السنة ـ فضلاً عن غيرها ـ في العراق يتقرّبون إلى الله بالشرك الأكبر وما دونه من البدع، وقبل شهر أكّد لي أحد كبار طلاب العلم في الأردن ما كنت أعرفه من قبل: أنه زار العراق أخيراً ليتعرف على الجهاد فيه والمجاهدين فوجد أوثان المنتمين إلى السنة تفوق عدد أوثان الشيعة والنصارى والآشوريين واليزيديين وغيرهم، ويؤسفني أن أقول: إن الحال في فلسطين ليست خيراً منها في العراق حسب متابعتي لحال الدعوة في بلاد الشام قريباً من ربع قرن، ثم نطلب من الله النصر!.
6- اكتشف المفكرون اليوم أن (جهاد المحتلين واجب وأنه من باب دفع الصّائل) وغفلوا أو تغافلوا عنه عند احتلال العراق الكويت أسوأ احتلال عرفته الكويت وأفجره وأشرسه وأخطره على الدين والدنيا، بل إن أحد الموقعين على الخطاب المفتوح (وكان خيرهم وأقربهم للمنهاج الشرعي قبل تحوله عن اليقين إلى الظن وعن الوحي إلى الفكر) اختارت إذاعة صدّام الدين تكرار بث دروسه المخالفة للحقّ وللعدل والعاصية لولاة الأمر في بلاد التوحيد والسنة أمراء وعلماء ومنهم أكبر العلماء ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله وبقية كبار العلماء في الأمّة؛ فصار بوقاً للاحتلال والضلال يردّد ما يوحون به للغوغاء من أن الأمريكان إنّما جاءوا للتنصير واحتلال جزيرة العرب بدليل تصريح لوكيل وزارة الدّفاع الأمريكية وخبر (متواتر) نقلته جريدة المدينة عن مجلة القدس!.
7- أوصى المفكرون (المسلمين بالوقوف إلى جنب إخوانهم [الإرهابيين] في العراق)، ومرّة أخرى: إين كانت أقلامهم وألسنتهم ووصاياهم يوم أباد صدّام الدين وحزبه الملحد آلاف المسلمين في حلبجه، وأيام (وشهور وسنين) عاث البعثيون الاشتراكيون العفلقيَّون في العراق فساداً وأَخْرَج طاغوتهم الكويتيين من ديارهم وسَرَق أموالهم وأخيراً أحْرَقَ مئات آبار النفط (عليّ وعلى أعدائي)، وهدّد مستقبل الدين والدنيا في دول مجلس التعاون الخليجي؟
وقد يعلم أو يجهل المفكرون أن كتب التوحيد والسنة دخلت العراق وأن دعاة السنة الصحيحة جلسوا في مساجدها لتعليم الدين الحق بعد سقوط الطاغية وحزبه، حتى زعزع جهاديوا الوهم أَمْن البلاد وأفسدوا حالها في الدين والدنيا.
8- أوصى المفكرون المسلمين بمن سمّوهم (رجال المقاومة) خيراً، وأعرف عن أبرز (رجال المقاومة) المنتسبين إلى السنة أنه كان موظفاً في بلدية الزّرقاء لم يُعْرَف بِعِلْم ولا دعوة ولا إصلاح، ثم جاءت موجة الجهاد الوهمي فركبها مع من ركبها، وحصل على الشهرة.
9- نحمد الله ونشكره أن جعل لدول التحالف مصالح تجارية مشتركة في بلادنا فأنقذنا الله بهم ودفع بهم (الصّائل) المنتمي للعروبة أو الإسلام، مرّة في الكويت ومرّة في العراق، بعد أن عجز العرب والمسلمون عن مجرّد التفكير أو الدّعاء لإزالته، بل أعانوا الصّائل وأعوانه من مختلف طوائف الضّلال بالقنوت والخطب والدّروس والبيانات والخطابات (المفتوحة والمغلقة)، وأظهر بعضهم الفرح أو أسرّه بحسب موقف حكومته من الظلم والاعتداء والطغيان.
هدى الله المسلمين وغيرهم بهداه وردّهم من الفكر إلى الوحي والفقه فيه ومن الظن إلى اليقين وكفانا شرّ كل ذي شر مهما كان انتماؤه.
الرياض – ذو الحجة 1425هـ.