كل بدعة ضلالة

كل بدعة ضلالة

بسم الله الرحمن الرحيم

قرأت في العددين: 91، 92 من مجلة التقوى اللبنانية ثلاث مقالات لي فيها نظر:
1 ـ كتب الشيخ القرضاوي في العدد 91 عن تجديد الدين ص8، 9 وبيّن جزاه الله بهداه أهمّ ما يجب أن يقال عنه: (ليس معنى تجديد الدين أن نهدم القديم ونقيم شيئًا مستحدثًا مكانه)، وهذا هو ما يجب أن يتنبّه له من يوصفون (بالمفكرين الإسلاميين)؛ فليس لتجديد الدّين إلا طريق واحد: العودة به إلى ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين المهديّين من بعده، رضي الله عنهم وأرضاهم، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
والإسلام هو ما جاء في القرآن وما صحَّ من الحديث مقرونًا بفهم فقهاء الأمة المعتدّ بهم في القرون المفضّلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطائفة الناجية في آخر أمته: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»، وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة».
وعلى هذا فلا صحة لما رآه الشيخ القرضاوي من أنّ علينا: (أن نفهم الدّين فهمًا جديدًا)؛ فلو فُتح باب (الفهم الجديد)، لدخله كل (مفكّر إسلامي) جاهل بشرع الله؛ باب الاجتهاد مفتوح في المعاملات فيما لم يرد فيه آية ولا حديث ولا حدّ من حدود الله، أما العقيدة والعبادة فلا مجال للاجتهاد الجديد فيهما، وكلّ جديد فيهما شَرْعٌ لم يأذن به الله. ولا مجال لدعوى (تقديم البديل) فلا بديل لشرع الله إلا الضّلال عنه،وما لم يكن في عهد النّبوّة المعصومة دينًا فلن يكون دينًا إلى يوم القيامة. وإطلاق عنان (الفكر الإسلامي) في أمر الدين أوصل الكاتب نفسه (عفا الله عنَّا وعنه) إلى أن يتساءل في ندوة (التّعدّدية في الإسلام): (لماذا لا يتّسع الإسلام للتّعددية)؟ بعد أن قصّ قصةً عن (فرحه بلقاء أحد الصائمين على الطائرة ثم نفوره منه بعد أن يتبيَّن له أنه قادياني)، ثم (رجع إلى نفسه) فوسوست له بهذا السؤال. بل قاده الفكر في مجلة التقوى إلى القول بأنه: (لا يجوز أن يولد في المجتمع المسلم من يشكو من ضغط الدّم ومن يشكو من فقر الدم)، وهذا استدراك على الله لا يمكن تسويغه شرعًا ولا فكرًا (إسلاميًّا) ولا عقلاً مستقيمًا.
2 ـ وكتب الأستاذ البوطي في العدد 92، ص9، بعنوان (هجرة الرسول ز) فأورد عنها أحاديث صحيحة مسندة وأخرى ممَّا حُشِيَتْ به التواريخ والسِّيَر؛ فخلط الظّنّ باليقين. ولم يَعُد هذا الصّنيع مستغربًا، فَجُلُّ بضاعة الفكر (الإسلامي) من الظنّ، لا من الوحي ولا من الفقه في نصوصه. ولم يَكفِه أن نَقَلَ الأسطورة عن نشيد ولائد بني النجّار ترحيبًا بمقدمه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية في هجرته من مكة المباركة؛ وأوَّل دليل على كذب القصة أن (ثنيَّات الوداع)، لا يمرّ بها القادم إلى المدينة النبويَّة من مكّة، بل زاد عليها حديثًا لم يَعْزُه إلى مرجع صالح ولا فاسد: (أتُحْبِبْني؟ والله إنّ قلبي ليحبّكنّ)، ثم بنى على هذا الحديث المفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصرًا من الرّمال: (محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست في مجرّد الاتباع له)، مما يوهم بأن دعاة الاتّباع يقولون بذلك، ولم يقل بهذه الدّعوى أحد من أهل السّنة ولا البدعة، وإنما الذي يؤكّده دعاة اتّباع السّنة: أن اتّباع سنّة النبي صلى الله عليه وسلم دليل على صدق دعوى محبته، وعدم اتباعها دليل على كذبها،  والعلم بما في القُلوب خاصّ بالله سبحانه وتعالى لا يجوز لخلقه الحكم عليه، إنما الحكم بعد انقطاع الوحي على الظاهر من القول والعمل، ولكن الكاتب عفا الله عنّا وعنه يميل عن أصل الخلاف كما فعل أكثر من مرّة في كتابه: (السّلفية ليست مذهبًا)؛ فسوّغ فيه الانحراف عن السنة وعن منهاج السّلف بأن (العادات تختلف وتتطوَّر في اللباس والمباني والأواني) ص14ـ17، وأصغر طالب علم شرعي يفرّق بين العادات وبين أحكام العقيدة والعبادة والمعاملة الشرعية في وجوب الاتّباع، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وهذا بلا خلاف في أمر الدين لا في أمر الدنيا، وكما ذَكَر في الكتاب نفسه ص239، 240 (ردًّا على دعاة الالتزام بالسنة):(أن الاستدلال بحديث: «لا تُشدَّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» على عدم جواز شدّ الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونه؛ يترتب عليه عدم جواز شدّ الرحال إلى زيارة رحم أو طلب علم أو انتجاع رزق)، ومرة أخرى لا يفرّق الكاتب بين الدين والدنيا ولا بين ما شرعه الله وما لم يشرعه.
3 ـ وفي العدد 92 ص44 قرَّر الشيخ زكريا المصري (أنّ الاستحسان طريق إلى العودة بالناس إلى الالتزام بالشرع)، وادّعى (أن علماء الأصول قالوا بالاستحسان لأن الحوادث والمستجدَّات قد تَسْتَدْعِيْه في بعض الأحيان)، وأنهم (عرَّفوه بالعدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاصّ من الكتاب والسنة)؛ ويا عجبًا للدّعاوى التي تصادم البيّنات فضلاً عن أنها لا تقوم على شيء منها؛ كيف يكون اتباع الهوى (وهو مصدر الاستحسان) طريقًا إلى العودة بأحدٍ إلى الالتزام بالشرع؟
ومن هم علماء الأصول الذين ادّعى الكاتب أنهم شرعوا أو ابتدعوا الاستحسان وهو شرْعٌ لم يأذن به الله كما قال أحد علماء الأصول في القرن السابع: ابن تيمية، مجموع الفتاوى ج11، ص344، 345): (والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله [غالبًا]، وهي تُشْبه من وجوه مسألة الاستحسان والتّحسين العقلي)، والقول الجامع أنّ الشريعة لا تهمل مصلحة قطّ، بل الله قد أكمل لنا الدّين وأتمّ [علينا] النّعمة، وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام والتصوّف حَسِبُوه نافعًا وحقًّا صوابًا ولم يكن كذلك)، بل كثيرٌ من الخارجين عن الإسلام {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
وكما قال أحد علماء الأصول في نهاية القرن الثاني: (الإمام الشافعي) رحمه الله: (من استحسن فقد شرّع)، وله رسالة مفصّلة عن ذلك بعنوان: (إبطال الاستحسان)، طُبعت على حاشية (الأم).
وكما قال أحد علماء الأصول في بداية القرن الثاني (الإمام مالك) رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها).
ولو تُرِكَتْ أحكام الشريعة للاستحسان اليوم أو غدًا حتى قيام الساعة لضاع شرع الله، لأن العقول مختلفة وكلٌّ يرى صواب رأيه ولو رآه غيره خطأ. عفا الله عنَّا وعنهم أجمعين.

1421/4/1هـ.