بدعة الانشغال بالإعجاز الظني عن التدبر اليقيني
بدعة الانشغال بالإعجاز الظني عن التدبر اليقيني
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب رئيس تحرير جريدة الرياض مقالاً بعنوان: (القرآن بلغة العلم) في العددين 12607 و12608 عام 1423هـ حول فرحته بمنهاج جديد في الدّين دلّه عليه د . (زغلول النجار)، فرأيت تنبيهه وقرّاء جريدته إلى ما يلي:
1 ـ الواجب في مثل هذا الأمر الرجوع إلى وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وفقه أئمة القرون المفضلة فيه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115].
2ـ د.زغلول هدانا الله وإياه ليس بأوّل من قال على الله بغير عِلْم فقد سبقه (رشاد خليفة) الذي بَهَرَ عقول أشباه العوامّ من المثقفين بادّعائه أنَّ كلَّ سور القرآن تنقسم على رقم19 أو مضاعفاته، وشجّعه ذلك على التّنبّؤ بيوم القيامة، ثم اتُّهم بادّعاء النبوة والانتماء إلى فرقةٍ ضالّة تقدّس الرقم (19) واغتيل.
وقبل ذلك سبقه (الكواكبي ت1320هـ) للابتداع في التأويل.
ثم تبعه الشيخ (طنطاوي جوهري ت1358هـ) في تفسيره (الجواهر).
وكلّ من وَلَغ في تفسير كلام الله اليقيني بالظن في هذا العصر من (الكواكبي) إلى (زغلول النجار) ليس لهم من الإحاطة بشرع الله وبالعلوم الطبيعية ما يعذرهم في القول على الله والانحراف عن منهاج النبوة وفقه القرون المفضلة فيه.
ولكن اثنان من العلماء سبقوا متأخري المفكّرين تجاوز الله عنَّا وعنهم جميعًا؛ فكما فتح (الغزالي ـ ت505هـ) الباب للخلط بين التّصوف والإسلام، فتح الباب للخلط بين الفقه والفكر في فهم نصوص الوحي في كتابه: (إحياء علوم الدين) وكتابه (جواهر القرآن) وتبعه (الفخر الرازي ـ ت606هـ) في تفسيره (مفاتح الغيب)، والاثنان من أئمة الانحراف في الاعتقاد والتأويل.
3 ـ يُظْلَم العلم الشرعي بدعواكم: أن زغلول النجار: (متمكِّن من العلوم الشرعيّة)؛ فلم يُعْرَف عنه تمكُّن ـ بل ـ ولا اهتمام بالعلم الشرعي ولا دعوة إلى إفراد الله بالعبادة ونفيها عن أوثان المقامات والمزارات والمشاهد التي أحاط بها وأحاطت به أكثر سنوات عمره خلافًا لمناهج كل رسل الله وكل رسالاته، ولا حاول قطّ نشر السنة ولا التحذير من البدع.
أما لقب الدكتوراه في الجيولوجيا فلا يجيز له وأمثاله الاعتداء على تأويل كلام الله تعالى الذي أَسْقَطَ عن مِثْله صفة العلم اليقيني الشرعي وإن كان له نصيب من العلم الظنّي الدنيوي: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6-7].
4ـ دعواه: (خَطَأَ حَصْر التّعليم الديني بعلوم فقهيّة محدودة) ودليله: (أن علماء الدين الأوائل فيهم الطبيب والفيزيائي والفلكي) ناتجة عن انحرافه عن منهاج العلم الشرعي وبُعده عن الفقه في دين الله، وبالتالي: وجوب إبعاده عن منابر الإعلام الديني والدعوة إلى الله وبخاصة في بلاد الدعوة إلى منهاج النبوة في الدين والدعوة، فليس بين علماء الأمة المعتدّ بهم في القرون المفضلة طبيب ولا فيزيائي ولا فلكي ولا فيلسوف، وكانوا يحصرون العلم والتعليم الديني في الاعتقاد والعبادات والمعاملات من الوحي في الكتاب والسنة وفقه السلف في نصوصهما، ولم يلتفت المسلمون إلى المهن والفنون التي ذكرها إلا بعد مرحلة الضعف والانبهار بالفكر اليوناني والاهتمام بترجمته ثم النّسج على منواله في الفكر المنسوب إلى الدين.
وما مَثَلُه إلا كَمَثَل سيد قطب تجاوز الله عنا وعنهم جميعًا عندما خُيِّل له (نقص مناهج التفسير في القرون المفضلة لانشغال المفسرين بالأهداف الدينية التي تناولها عن إظهار الجمال الفني في القرآن التصوير الفني في القرآن) ص27، 31، 239، ط9 دار الشروق؛ فاستدرك سيّد قطب النّقص الذي تخيّله في القرون المفضلة؛ فوصف آيات الله وكلماته بالسحر (ص17، و25)، وبالعرض العسكري الذي تشترك فيه جهنم بموسيقاها العسكرية (ص97)، وبما يشبه الشعر (ص102-105)، وبالفن والتصوير والرسم، وبالتعويذة وما فيها من خفاء وهينمة وغموض وإبهام، وبالمشاهد المسرحية والسينمائية (ص114-115)، واستعان بموسيقيّ (ص102) ورسّام (ص114) لضبط المصطلحات الفنّيّة في وصفه كتاب الله بِلُغَة اللهو.
5 ـ (الاجتهاد السلفي الواحد) الذي أبدى الكاتب (أسفه لاكتفائنا به) هو وحده الحق، لقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وخطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا مستقيمًا وخطوطًا خارجة عنه، مبيّنًا أن على المسلم اتباع الخطّ (الواحد) وتَجَنُّب الخطوط الأخرى، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115]، وهؤلاء هم السّلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم وحدهم الذين يؤخذ عنهم حتى تتّحد الأمة على منهاج النبوة فلا تتفرَّق بهم سُبُل الفكر عن سبيل الله، وهم الأقرب إلى عصر النبوة وهم أعْرَف باللغة التي نزل بها كتاب الله قبل أن تفرِّق لغة وسائل الإعلام ـ في هذا العصر ـ المسلمين عنها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
6 ـ آيات الكتاب المبين: إمّا محكمة، عرف السلف الصالح معانيها وعملوا بها، ولن يأتي عالم ـ فضلاً عن جيولوجي أو كاتب أو طبيب ـ بخير مما هداهم الله له، وإما متشابهة، فلا يجوز البحث عن معانيها، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7].
7 ـ لقد سبق النصارى إلى مثل هذا الانحراف ـ كالعادة ـ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» [متفق عليه]، فحاولوا الاستدلال على صحة الإنجيل بموافقته للنّظريّات الكونية، ولما تغيرت النّظريّات سُقِط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلّوا، وأصيب التّديّن النصراني المحرّف بنكسة لم يُفِق منها إلا اليوم إذ قدَّر الله حدوث ما يُسَمّى بالصحوة الدينية لسبب وغاية لا يعلمها إلا الله.
وآخر ما أطّلعت عليه في هذا الطريق المعْوَجّ استدلال اليهود على صحة التوراة بما ظهر من التنقيب في وادي الأردن مبيّنًا أن ثمن الرّقيق في عهد موسى موافق لما نُصّ عليه في التوراة المحرّفة.
والظن بأن اليهودي الذي ذكره الكاتب (سيغيّر من ثوابته العدائية للإسلام) إذا ادّعى زغلول النجار أن رقم سورة الحديد في المصحف 57 هو الوزن الذري للحديد، وأن آخِرَ آيةٍ في السورة مع البسملة هي العدد الذّرّي للحديد ـ كما ذُكِر في المجلّة العربيّة عدد 296 ـ إنّما هو الوهم والإثم، ولكن قد يُرضي اليهود والنصارى متابعة المسلم لهم في تحريف كتاب الله بتأويله بما يخالف سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيه رضي الله عنهم؛ قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
وتأويل زغلول النجار قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، مجرّد ترديد لما قاله مصطفى محمود وأمثاله لا يقوله عالم بكتاب الله، ولو قرأ الآية قبلها لَعَلِمَ أن ذلك في الآخرة: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل:87]. والآية: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 9-10]، والآية: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47].
وقبل أن (يشيع أن الأرض كرويّة) اتضح لعلماء التفسير واللغة المعتدّ بهم بل لطلاب العلم: أن للشمس كل يوم مطلع ومغرب، وفسروا به ذكر المشارق والمغارب جَمْعًا وتثنيةً وإفرادًا، فكلّ ما يقوله (زغلول) إنَّما هو مِنْ زخرف القول وغروره، إضافة إلى ادّعاءاته التي تبهر الصحفيين والعوام وأشباههم فينشرونها دون تثبّت عن (عدد الذين أسلموا) لمـَّا سمعوا تفسيرًا يهجر يقين الوحي ويأخذ بظن الفكر العلماني، وعن العالم الأوروبي المجهول في (ذكر الشواهد القرآنية عن علم الأجنّة).
وكفى بالمسلم ضلالاً تفسير اليقين الإلهي بالظّنّ البشري من غير مسلم أو من مسلم جاهل بشرع الله..
لا أشكّ ولا أشكّك في نيّته وأمثاله، ولكن من الواضح أن الشيطان يركبهم مطايا في الصدّ عن التدبرّ الذي أُنزل كتاب الله لأجله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} [ص:29].
8 ـ لا يجوز المساواة بين الشيخ (علي الطنطاوي) رحمه الله وبين (د.زغلول النجار)، فالأول ـ خلافًا للثاني ـ عالمٌ بشرع الله وداعٍ إلى الله على بصيرة ومعروف بصحة المعتقد وصحة العبادة، ومهنته القضاء الشرعي والدعوة، وهوايته الأدبية لم تخرج به عن منهاج النبوة في الدين والدعوة فيما يتعلق بأصول الدين، ولم يأت بجديد في المنهاج ولا في الوسيلة، ولكن الله وهبه لسانًا وقلمًا يذكّر بمزامير آل داود يجذب القارئ والمستمع إليه.
ولا جديد في الدين منذ انقطع الوحي بموت محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة قال الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنّتي» وقال: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنّواجذ وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة».
وقبول الفكر الجديد المنحرف في التأويل استدراك على الله وعلى شرعه واتّهام لرسوله بالتّقصير في البيان واتّهام لخيار أمته بالتّقصير في الفقه.
9 ـ هذا الفكر المنحرف في التأويل ـ مع افتراض حسن النية ـ تسويل من النفس ووسوسة من الشيطان لصرف الناس بالفكر عن الوحي وبالظن عن اليقين وبالفنون الدنيوية عن علوم الشريعة وعلمائها، وصرف للناس عن الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة والله أعلم بما يُصْلح عباده قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء:59]، وقال الله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4].
10 ـ ظنّ (أحمد ديدات) قبل (زغلول النجار) تجاوز الله عنهما أن إحاطته بالإنجيل تغنيه عن الإحاطة بشرع الله ومنهاج نبيه في تبليغه، وظنّ كثيرٌ من الصّحفيّين والعوامّ، وظن أشباههم من طلاب العلم أنّه آتٍ بما لم تستطعه الأوائل، ولم يسألوا عن اعتقاده ولا عن مدى التزامه بالسنة في الدين والدعوة ومخالفته لأعدائها، وخالف نصوص كتاب الله وأوامره تجاوز الله عنه في مجادلة أهل الكتاب خاصة: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وغيرهم عامة: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، وكانت النتيجة أن تحرّك مناظروه من النّصارى للردّ عليه وعلى دين الإسلام فاتّهموا كتاب الله بالتناقض والرّكاكة وألّفوا سُوَرًا يدّعون أنها مثله ردًّا على اتهامه الإنجيل بمثل ذلك.
لم يقع (زغلول النجار) في المجادلة بالأسوأ ولم يقع (أحمد ديدات) في التأويل المنحرف فيما أعلم، ولكنَّ كلاًّ منهما خالف ما يسمّيه تركي السديري (الاجتهاد السلفي الواحد) ويسميه أهل العلم: صراط الله المستقيم: نصوص الوحي بفهم أئمة السلف، وهو وحده الذي يتّحد به المسلمون وبدونه يتفرق المسلمون على دين الله ووحيه وكلماته بِتَفَرُّق وتعدّد واختلاف المعايير الفكرية: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].
والله ولي التوفيق.