المظاهرات والإضرابات من فِتَن الخوارج
المظاهرات والإضرابات من فِتَن الخوارج
بسم الله الرحمن الرحيم
1ـ في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجًَا أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ».
ولا أعجب من تسابق الصَّحفيِّين على نشر أخبار الفِتن وقد اختاروا ذلك مصدرًا لرزقهم، ولكني أعْجَبُ من تسابق طلاب العلم الشرعي على الولوغ فيها سواء كانوا مخالفين (مثل السّلفيّين) أو مؤيّدين (مثل سلمان العودة وشيخه القرضاوي) الذين لم ينتظروا اتخاذهم رؤساء فغصبُوا الرئاسة في الفتوى أو العلم (الفكري) في أوروبا وعَالَم الجهل (من أهل العلم (الشرعي) والدعوة إلى التّوحيد والسّنّة ومحاربة الشرك و البدع) فضلًا عن أن يبحثوا عن ملجًا أو معاذٍ من الخوض فيها لو لزمهم، هدانا الله وهداهم وأعاذ المسلمين جميعًا من الفتن و المعاصي ما ظهر منها وما بطن.
2ـ وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، ولو سألت أحدًا من طلاب الشرعي أو الفكري عن صحافة اليوم لما تردد في الحكم عليها بالفسق والإعراض عن ذكرى رب العالمين، وأنها صنيعة اليهود والنّصارى؛ هم الذين خرقوها (اخترعوها) وهم الذين يمدونها بما يملأ فراغها وفراغ العباد، والله يقول : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الضحى:7]. وقبل عشرين سنة ادَّعى أحد طلاب العلم الفكري السَّبْق الى تقرير أمريكي سرِّيٍّ اتّصل سنده إليه بالتَّواتر (ثم فسَّر التَّواتر بنقل جريدة المدينة عن مجلة القدس) عن تآمر على مصر، وقبل أيام أعاد التّاريخ المهزلة بادِّعاء طالب علم شرعي صحَّة رواية جديدة عن تآمر أوروبي على مصر، برواية مجهول (عن جريدة بريطانّية كبرى)! وأين هذا من التَّبيُّن الذي أمر الله به؟
3ـ والعرب لا يحتاجون إلى (تخطيط أو تآمر) أوروبي أو أمريكي للخروج على من ولاه الله أمرهم (قدرًا كونيًّا أو شرعيًّا)، فقد تولى الشيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء (وهما الحاضران المطاعان غالبًا) نُصْح أوّل الخوارج وخَيْرهم (لو كان في الخروج على الولاة خير) بمعصية الله ورسوله، والخروج على خير ولاتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبِهِ عثمان بن عفان الخليفة الرَّاشد المهدي، الشهيد حقًّا بشهادة وحي الله له (لا بشهادة الحمّية الحزبيّة الجاهليّة لحسن البنا وسيّد قطب، ولا بشهادة بقية الخوارج المتأخّرين للمنتحرين والمنتحرات الذين شهد لهم وحيُ الله بالنار).
والخوارج الأُوَل كانوا عُبّادًا لم يَلْبِسوا إيمانهم بإشراكِ أوْثان الأضرحة والمقامات والمزارات والمشاهد مع الله في العبوديّة ولا في الربوبيّة، ولا بما دون ذلك من الابتداع في الدِّين، وما دون ذلك من المعاصي الأخرى (مثل خوارج العصر)، ولكن جمعهم مع الخارجين اليوم باسم الدِّين حِفْظُهم الآية والحديث دون تدبر لمعناهما كما فقههما (الخلفاء وفقهاء الصّحابة رصي الله عنهم وأرضاهم)، ولربما جمعهم مع الخارجين اليوم باسم الدُّنيا: كراهية قِسْمة الله لغيرهم أَوْ لهم، ورغبتهم في منازعة الأمر أهله، وكأنَّ أفراد الفرقتين لم يسمعوا قول الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وكأنهم لم يسمعوا حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في الصحيحين: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَه. بل حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما عن قوم أو أئمة: «يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْتدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، [وسَيَقُومُ فِيهم رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ]». قال حذيفة: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ [تَسْمَعُ وَتُطِيعُ الأَمِير، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ]». قال حذيفة: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». ومجموع هذه الرّوايات في الصّحيحة (2739)، وانظر (سلسلة الأحاديث الصحيحة – فهرسة الشيخ مشهور- حديث 1769).
4ـ والمظاهرة والإضراب بدعتان أضيفتا إلى الدّيمقراطية اقتبسهما خوارج العرب المتأخرون (وأضافوا إليهما الإفساد بالتّخريب والتّحريق) وهما أسواء ما وُصِفَ بالدّيمقراطيّة (بعد حُكْم الأغلبيّة بالقانون والدستور وحرّية التّعبير والدّين)، وما خُلِق الجّن والإنس إلا للعبودية لا للحرّية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وحُرِّيَّة الفرد مقيّدة في التّعبير: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وفي الدّين : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، بل في النّظر والفكر : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] وفي كل شيء: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام :162-163].
5ـ وما الغاية من المظاهرات؟ لا توجد غاية واحدة يجتمع المتظاهرون عليها، وليست الدّين على أيّ حال، فالأغلبيّة كما وصفهم ربّهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] و: {لَا يَشْكُرُونَ} و: {لَا يَعْلَمُونَ} إلا أن يرْكَبَ حِزْبيٌّ ديْنَ الإسلام مطيّةً لحزبه (كما تعوَّد الناس مِنْ حزب الإخوان المسلمين المشرئب بعنقه دائمًا للفِتَن لعلّ حلمه التَّائه بالحُكْم أن يتحقق في مصر أو تونس أو ليبيا أو فلسطين أو سوريا أو اليمن أو غيرها).
ولم يُنْقَل لي مرَّة واحدة أنّ زعيمًا عربيًّا وقف على وثن من أوثان المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة (الإسلامية بزعمهم) يطلب منه المدد ويدعوه من دون الله تقربًا إلى الله واستشفاعًا به إليه، وأكثر المسلمين يقترف ذلك أو يدافع عن مقترفيه أو يخرس عن أنكاره .
والدولتان اللتان بَنَتا الوثن: العراق في عهد صدّام الدّين، والسّودان في عهد التّرابي، يَعُدّهما حزب الإخوان المسلمين مثلًا للدّولة الصّالحة، إضافة إلى اليمن فترة زواجها الموقّت بالحزب الإخواني كفانا الله شرّه.
وبناء الوثن ودعاءُ من سُمِّي باسمه أعظم فرية ومعصية وكبيرة في دين الله، ولكن الحزب أسقط إنكاره من واجباته العمليّة الثمانية والثلاثين التي وَسِعَت الوصيَّة بتخفيف شرب الشاي والقهوه والمشروبات المنبّهة، وأسقط ذلك من وصاياه الخمسين لحكام المسلمين التي وَسِعَت المطالبة بتوحيد الزِّي وتنظيم المصايف، وأسقط ذلك من موبقاته العشر، وأسقط ذلك من وصاياه العشر؛ وإن حافظَتْ عليها وصايا اليهود التي أخَذَ منها العدد المبتدع، ولا يزال أولها: (لا تعبُدْ إلهًا غيري، وثانيها: لا تصنَعْ تمثالًا لمن في السّماء أو الارض أو البحر فتسجد له)، وكذلك بقية الوصايا التي أخفق فيها الحزب ونجح فيها اليهود (عدا الوصية بيوم السّبت)، بل رحل بعض قادته لزيارة الأوثان من عزبة النّوَّام إلى طهران، ولم ينكرها بقيّتهم على أنفسهم ولا غيرهم.
وأكثر غوغاء المظاهرات يظنّون أن ما أصابهم من سوء (الغلاء بخاصته) إن لم يكن بتخطيط من أمريكا وأوروبا وإسرائيل فهو من حكومتهم، ولا علاج إلا المظاهرات.
والغلاء أمر من الله عانى منه الأمريكي والأوربي والإسرائيلي قبلهم، بل كل شعب على وجه الأرض، ولكن أكثر العرب لا يُحَكِّم شرع الله ولا يُحَكِّم العقل غير المعْوَجِّ؛ ذكرت لداعٍ تخفيض السّعوديّة ثمن وقود السّيارات، وظَنَّ أني أمدح دولة تجديد الدّين بهذا القرار (مع أنه لو عقل لتذكر أني لا أمدحها إلا بأعظم مزاياها: تجديدها الدّين وهدمها الأوثان ومحاربتها البدع الأخرى) ولم يَهْنِهِ ذلك فقال: خَفَّضُوا ثمن الوقود ورفعوا كلّ شيء آخر! فذكّرْته بحقيقة بدهيّة: أنها لا تُنْتج إلا الوقود، وأن نظامها الاقتصادي يقوم على حرّية التجارة فهي لا تتدخل إلا بزيادة الرّواتب أو تحمل جزء من ثمن المستوردات الضرورية. وكأنه جواب الببّغاء: يقولونه، وهو مثل كثيرين ممن يعضّ يد المحسن إليه بالدّين والدّنيا، ينتمي إلى السّنّة والجماعة، ليس شيوعيًّا ولا مبتدعًا، ولكنّه مثل أكثر العرب رضي للإشاعة والجريدة الحاقدة أن تستعبد عقله، وتُقصي بلوى الله بالخير، وتُدني بلوى الله بالشرِّ، ولو عَكس اختياره كما أفعل (بفضل الله عليَّ) لوجد أنّ الثوب الصّيني لم يزد ثمنه عن بضعة عشر ريالًا لمن لا يهمُّه الاسم التّجاري، ولا يزال علاج البرد والأنفلونزا والسُّعال لم يزد كلٌّ منها عن عشرة (صنع أوروبي)، ولا تزال رَبْطة الخبز البّر والأبيض بريال، وعلبة البسكويت (نخالة) بريال، وعلبة الملح بريال، ولِتْرَي الحليب أو اللبن بسبعة، وعلبة اللبن الرّائب بريال (هذا كله وكثير مثله لم يتغيّر منذ ربع قرن)، وكان كيلوات الكهرباء قبل أربعين سنة بخمسين هللة، واليوم بخمس هللات، والمتر المكعب من الماء لم يزد ثمنه منذ مُدَّ إلى المنازل قبل خمسين سنة (هذا في حدود الحاجة المعقولة أما الإسراف فلا حَدَّ له ولا يستحق التّشجيع شرعًا ولا عقلًا)، ولا يزال ثمن السّاندويتش بين ريال وريالين، ووجبة المطبَّق من الرّقاق واللحم والخضرة بما يعادل ثُمْن ثَمَنِها قبل ستِّين سنة، ووجبة الرّزّ والدّجاج (6) و(12) ريالًا.
و: «من رضي فله الرضى، ومن جزع فله الجزع» و{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة:268].
وأعرف سعوديًّا أغناه الله من فضله ولم تمسّه الحاجة أبدًا ومات بعد ثمانين والفقر بين عينيه، بل كان يغبطني على الاكتفاء بوجبة واحدة تَحَسُّبًا للمجاعة التي حسبها قادمة لا محالة منذ عشرات السّنين من كثرة ما يسمع ويردِّد من إشاعة السّوء. ومع أنّ ثمن الحديد والرّزّ والسّكر والإيجار والسّيارات زادت عالميًّا فقد زاد الدّخل بفضل الله في كل مكان أضعافًا مضاعفة، وفي دول مجلس التّعاون أكثر وأكثر. والحمد لله على نِعَمِه بالدِّين و الدُّنيا.
6ـ ولو كان الميزان النّتائجُ، فليستعمل الحركيّ عقله ويصلح مَنْطِقَه هذه المرّة، وليسأل نفسه وغيره كم خَسِرَتْ تونس ومصر وليبيا والصّومال قبلها، وأفغانستان والعراق وغيرها ممن ابتليت بالمظاهرات والإضرابات والثورات من مالها وأمْنِها ودنياها ودينها؟ وكم ربحتْ إن ربحت ولو قليلًا؟ كان جارٌ من مصر لا يملُّ الشكوى من الغلاء والفساد، ويحمِّل الحكومة المصريّة ما لا تحمل من الأسباب والوسائل والنّتائج، وكنت أذكّره بأنّ فساد المحكوم أكثر من فساد الحاكم إلاّ في حال فرِعون الذي قال لقومه في مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، والقليل النّادر بعده ممن هم دونه شرًّا، وكان لا يقبل التّذكير، ولا يقبل حلًّا ولا أملًا إلا بذهاب الحكومة. وهاتفتُه بالأمس القريب فبادرني بالتَّحسُّر على ذهاب الأمن مع الحكومة، فضلًا عن اضطراب الحياة فيما دون ذلك. أصلح الله أحوال الجميع ومآلهم في الدّنيا و الآخرة.
كتبه سعد الحصين- مكة/ 1432هـ.