الثورة معصية يتولاها العلمانيون والانتهازيون

الثورة معصية يتولاها العلمانيون والانتهازيون

بسم الله الرحمن الرحيم

كل ثورات الشتاء العربية خروج على الولاية والجماعة ومخالفة لشرع الله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وكل هذه الثورات مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان مما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان.
قلت: ولم نر كفرًا بواحًا بقول ولا بفعل إلا ما روَى أحد  المشايخ من أن القذافي تجاوز الله عنه ذكر له قبل عشرات السنين أنه لا يأخذ بالسنة النظرية، ولا يتبع غير السنة العملية، وروى لي أحد مرافقيه في زيارته للقذافي أنه قال: إنه لا ينكر من الأحاديث إلإ ما ظهر في متنه الوضع والمبالغة، ومثَّل بما يرويه بعض الواعظين عن ديك حول العرش له ست مئة جناح؛ وإلا ما يرويه عنه غيره من الاستهزاء باللحية؛ وقد رأيته قبيل الثورة يؤم المصلين وكانت تلاوته خيرًا من أكثر القارئين المشهورين اليوم وكان ملتحيًا، ولم أسمع أنه أمر بمعصية ولا غيره من ولاة المسلمين منذ المعتصم (الذي يَعُدُّه الخوارج المُحدثون قدوةً لأنه انتصر لدعوة شركية ولحمية الجاهلية) وأخوه المأمون وابنه الواثق  تجاوز الله عنهم جميعًا، ومع أن الثلاثة كانوا يُكرهون أئمة المسلمين على مقولة كفرية (في لفظ الشيخ د. بكر أبو زيد رحمه الله) ويقتلون بعضهم، ويسجنون بعضهم، ويجلدون بعضهم، وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويمنعونهم من بيان الحق للمسلمين في هذا الأمر ونحوه من أمور المعتقد، فماذا فعل العلماء القدوة وفق فقههم في الدين بعد تحملهم الظلم بضع عشر سنة؟
يقول حنبل رحمه الله: (اجتمع فقهاء بغداد (لا غوغاؤهم) في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا ـ يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك ـ ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه؛ فناظرهم في ذلك وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، لا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يَستريح بَرٌّ ويُستراح من فاجر، وقال: ليس هذا ـ يعني نزع أيديهم من طاعته ـ صوابًا، هذا خلاف الآثار). الآداب الشرعية لابن مفلح (1/195-196) والخلال في السنة (ص133).
وهذه الثورات العاصية لله ولرسوله ولولاة الأمر من العلماء والأمراء يُحرِّكها شياطين الجن والإنس بقنوات الفتنة مثل (الجزيرة) القومية و(المجد) الحركية و(اقرأ) الصوفية، وبمجلات الفتنة مثل (البيان) القطبية و(الأسرة) الإخوانية.
وشر وسائل الفتنة: مواقع الشبكة العالمية، وأشرسُها: (الإسلام اليوم) بمختلف عناوينه ومؤسساته، ثم يتلقفها الانتهازيون وتجار السياسة الرخيصة، ومن أبرزهم في الشر والفتنة جماعة الإخوان المسلمين هداهم الله أو عجل بالقضاء عليهم وأراح عباده الموحدين من شرهم وتلبيسهم ودجلهم.
ونعجب من أكثر أئمة وخطباء المساجد يُلزمون المأمومين (غيري) بالتأمين على دعائهم أن ينصر الثورة العاصية والثوار الخوارج العصاة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم؛ وتسألهم عن قائد الثورة فتعلم: أنه علماني يُعلن علمانيته! أي جهل، وأي اعتداء في الدعاء! وأي مشاركة في معصية الخروج على ولاة الأمر وشق عصى الطاعة أعظم من هذا!؟ ولا تسأل عن فقد الأمن وغلاء الأسعار وتوقف الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية عامة أو إرباكها.
ونعجب من مؤيدي دولة التوحيد والسنة وتجديد الدين الدعوة كيف يغفل أكثرهم عن إدراك حقيقة واضحة مثل الشمس وسط النهار: نجاح أي ثورة تشجيع للغوغاء لإحداث فتنة وثورة في بلد عربي آخر، وبخاصة في هذه البلاد والدولة المباركة التي ميزها الله بالدين والدنيا، وكثر حسادها والحاقدون عليها، وحرص شياطين الإنس والجن في الداخل والخارج على خلخلة أسسها والتحريض عليها، ولا شك في أن هذا هو دافع الوسائل الإعلامية الموصوفة بالإسلامية أو العلمانية إلى الإجلاب بخيلها (أو حميرها أو بغالها) ورجلها في مساندة الخوارج.
لا بدَّ للمسلم الحق أن يُخضع هواه وقوله وعمله لآيات السمع والطاعة (وتقدم ذكر إحداها) ولأحاديث السمع والطاعة والنهي عن فتن الخوارج والأمر بقتلهم (ويصعب حصر هذه الأحاديث، ولو حاولت ذكر عدد منها فلن أذكر حديث مسلم في (صحيحه) عن السمع والطاعة: «ولو ضُرِبَ ظهرك وأُخذ مالك»، خشية أن تزيد كراهية الحركيين له وبالتالي الكفر بما أنزل الله؛ فقد ظهر أنه شجىً في حلوقهم وقلوبهم، فتبارى جهلتهم (وكلهم جهلة) في تضعيفه وتأوليه بما لم يعرفه أهل الحديث).
ولا بد للمسلم الحق أن يجمع بين أمرين:
1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان شرع الله في السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا وظلموا، وإن فجروا بما دون الكفر البواح الذي يَعرفه ويُغيره أهل الحل والعقد من أهل العلم والأحلام والنُهى (لا الغوغاء).
2- مجانبة الفرقتين أو الفِرق المتناحرة، إلا إذا تبين لأهل الحل والعقد من هي الفئة الباغية، فلأهل الحل العقد قتالها.
ولنا أُسوة فيما قاله وفعله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو أحد كبار الصحابة والعبادلة الأربعة الذين تميزوا بفقههم في الدين، ولا خير في علماء الخلف (فضلاً عن كتابهم ومفكريهم وحركييهم) إن لم يلتزموا بفهم السلف لنصوص الكتاب والسنة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون ثم عبد الله بن عمر وأمثاله من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
روى البخاري في صحيحه: (لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية (بعد وقعة الحرة) جمع عبد الله بن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة»، وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه (أي يزيد) إلا كانت الفيصل بيني وبينه).
وروى مسلم في صحيحه: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه جاء إلى عبد الله بن مطيع (أمير الخارجين على يزيد عفا الله عنهم)، فقال ابن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتيك لأجلس، أتيتك لأحدثك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له». وأشهد أن ابن باز رحمه الله أمر عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله أن يدعوا لحافظ الأسد في خطبته؛ وكنتُ أعدُّه بدعة.

والله الموفق- (1433/7/5هـ).