{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (عقاب الله المسلمين في فلسطين)
{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (عقاب الله المسلمين في فلسطين)
بسم الله الرحمن الرحيم
لما أصابت المسلمين مصيبةٌ يوم أُحد قالوا: {أَنَّى هَـذَا} [آل عمران: 165] فأمر الله تعالى رسوله أن يجيبهم: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال الله تعالى لسيّد ولد آدم يوم القيامة صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] ولن يجادل كثير من المسلمين في هذه الحقيقة البيّنة، ولكنهم مع ذلك في معظم وأهمَّ أحوالهم يعدلون بهذه الحقيقة إلى الخيال فيبحثون عن أسباب مصائبهم في نيات وأعمال غيرهم لا في نيّاتهم وأعمالهم أنفسهم. وإلى القارئ هذه الأمثلة القليلة من كثير:
1- هبّ المسلمون (علماؤهم وعوامَّهم، ذكورهم وإناثهم، أفرادهم وجماعاتهم) يستنكرون قرار الإدارة العلمانية الفرنسية بمنع الطالبات المسلمات من تغطية رؤوسهنّ في المدارس الفرنسية كما يُمْنَع الطّلاب اليهود والنّصارى وغيرهم من استعمال المميّزات الدينية.
ولم أسمع صوتاً واحداً استنكر مفارقة الصّبايا المسلمات قرار بيوتهن إلى المدارس العلمانية عدّة ساعات في اليوم للاختلاط بالمراهقين من كل ملّة بلا رقابة شرعيَّة غير رقابة النّظام العلماني الذي لا يُنْكر بل قد يُحَبِّذ العلاقات الجنسيَّة في حدودٍ لا يقرّها شرع الله، بل ولا تقرّها تقاليد أكثر العرب في الإسلام ولا في الجاهلية، وفي هذا مخالفة صريحة لحدود الله تعالى للمرأة المسلمة تفوق كشف الرأس: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33].
2- وهبّ المسلمون جميعاً يستنكرون استيلاء غير المسلمين على المسجد البابري في الهند بعد أن مَهّد المسلمون أنْفُسُهم لذلك بترك الصلاة فيه. ولم أسمع أن فرداً من المسلمين (أو مؤسسة من مؤسّساتهم) استنكر المصيبة الأكبر: هَجْر المسلمين هذا المسجد خمس عشرة سنة لا يُرْكَع فيه لله ركعة واحدة، وأنهم لا يطالبون بعودته للصلاة فيه بل (لقيمة أثرية) تقليداً للثقافة العلمانية ومجانبةً لشرع الله تعالى في كتابه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 36-37] وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» [رواه مسلم].
3- وهب المسلمون جميعاً يستنكرون اعتداء انتحاري يهودي على المصلين في ما يسمى (المسجد أو الحرم الإبراهيمي الشريف) وقتله عدداً من المصلين قبل أن يتمكن بعضهم من قتله، وكان هذا الأمر أهم ما اهتمّ به خطباء الجمعة، والأئمة في القنوت، والمفكرون الإسلاميون والعلمانيّون في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئيّة بضعة أسابيع.
ولم أسمع أحداً من المسلمين يتساءل: لماذا يُقدِم يهودي على قتل المسلمين في هذا المكان ولأجله (وهو يعلم أنه مقتول لا محاله وقد ترك خَلْفَه وصيّته واعتذاره لأهله)؟ ولم أسمع أحداً منهم يبين أنّ السّبب: التّنافس على معصية الله تعالى ومخالفة آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ألا يتخذوا القبور مساجد، فيما اتفق عليه الشيخان وغيرهما: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قال عائشة رضي الله عنها: (تحذّر مثل الذي صنعوا).
فهذا المكان بدأ الشرك بالله فيه منذ اتخذه اليهود مزاراً بدعوى أّنه مَدْفَن إبراهيم وزوجته وإسحق وزوجته، وفي القرن الخامس الهجري بنى فيه الصّليبيون كنيسة، فاتّبع النّصارى اليهود في اتّخاذ قبور الأنبياء (بزعمهم) مسجداً، تصديقاً لخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما أُوحِي إليه، وفي القرن السادس الهجري أخذه صلاح الدين الأيوبي فحوّله المسلمون مسجداً وبنوا فيه سبعة أوثان باسم إبراهيم وزوجته وإسحق وزوجته ويعقوب وزوجته ويوسف عليهم السلام (طهرهم الله من الشرك وأهله). وبهذا اقتدى المنتمون إلى الإسلام والسنة باليهود والنصارى في التقرب إلى الله بمعصيته تصديقاً لخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما أوحى الله إليه: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه»، قلنا: يا رسول الله؛ اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» أي: من غيرهم؟ [متفق عليه]، بل زادوا عليهم ثلاثة أوثان. والحقيقة التي يجهلها ولا يُحِب أن يُذَكر بها أكثر المنتمين إلى الإسلام أنّ ما سموه ـ خطأ ـ الحرم الإبراهيمي الشريف ليس حَرَماً ولا إبراهيمياً ولا شريفاً، وهو مِثْلُ مسجد الضّرار لم يُبن على التقوى من أوَّل يوم، بل على الإثم والابتداع والشرك في عهده اليهودي والنصراني والمشترك بين المسلمين واليهود، ولا تجوز الصلاة فيه فرضاً ولا نَفْلاً، وعندما وقَفْتُ عليه منذ ثلاثين سنة تقرَّبت إلى الله بعدم الصلاة فيه، إذ لا تجتمع لعنة الله وعبادته في مكان واحد.
وقد حاول بعض أهل السنة الصحيحة إبعاد المسلمين عنه ببناء مسجد على التقوى قريباً منه ولكن الشيطان والنَّفس الأمارة بالسوء يزيّنان الشرَّ لصاحبهما ويُكَرِّهَان الخير.
ومسجد الضّرار لم يصل إلى ما وصل إليه مسجد (مدينة الخليل) من محادّة الله فلم يُبْن فيه سبعة أوثان ولا بُني على أربعة قبور للمنتمين إلى موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، ولكن مجرد فساد بنية مؤسّسيه جعله أهلاً لتحريم الله على رسوله الصلاة فيه: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} [التوبة: 108] ، وأمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بهدمه مع صلاح نبيته ونيّتهم بسبب فساد نية المؤسس.
4- وأكثر المسلمين يَعُدُّ نكبة فلسطين أكبر مصيبة في حياة المسلمين منذ أُعْلِن قيامَ الدّولة اليهودية في فلسطين وأن السَّبب في حدوثها ينحصر في ظلم اليهود للعرب، وفي وَعْد بلفور، وفي إمداد كلٍّ من أوروبا وأمريكا للدَّولة اليهودية بالمال والسلاح والعون السياسي ولا شك أن هذا سبب (مادي) ساعد على حدوث النّكبة ولكنّه سبب ثانوي، أما السبب الأول والأهم فيتبين من قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
لا شك أن بلفور وفرنسا وعدد من دول أوروبا ثم أمريكا ساهموا جميعاً في حدوث النكبة أو استمرارها أو تعقيدها، وأنّ الحركة الصهيونية بسعيها لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين وجَلْبِها اليهود من أوروبا وغيرها ليحكموا الأكثرية من العرب الذين كانوا فلسطينيين قبل أن يُسْلِمَ أكثرهم، ويصيروا عَرَباً، بل قبل أن يستوطنها العبرانيون ويُطْرَدُوا منها (كما يقول ليوبولذفايس اليهودي النّمساوي قَبْل أن يُسْلِم ببضع سنين)؛ لا شكّ أنها عالجت الظُّلم الألماني لليهود بِظُلم العَرَب وثأرث لنفسها من غير المعتدي عليها. ولكنّ الله الذي يدبّر الأمر كلّه ويصرّفه بعلمه وحكمته وعدله قال وقوله الحق: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]:
ـ سبقت فلسطين البلاد العربية إلى الثروة والتّرف ثم إلى الإسراف والفساد، ولذلك نُكِبتَ العرب فيها قبل غيرها، وكما أن الله تعالى {لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64] فهو تعالى {لاَيُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] والإسراف مثل الشرك في أنّه لا تدعو إليه الغريزة (مثلما تدعو إلى النكاح وطلب المال)، وربما أشار ذلك إلى الحكمة في قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
ـ ولم يكن الشرك غائباً عن فلسطين الأرض المباركة المقدسة التي كتبها الله لبني إسرائيل، وللرّوم قبل الإسلام العرب بعده، بل إن أوثان الشرك الأكبر بالمقامات والمزارات والأضرحة والأنصاب تشوّه الأرض المباركة حول المسجد الأقصى، وقد ظهر لي من بحثٍ لحصر هذه الأوثان (حصلتُ عليه من بعض موظفي مديرية الأوقاف الفلسطينية في القدس) أنّ نصيب المنتمين إلى الإسلام السنة من هذه الأوثان أكبر من نصيب فِرَق الضّلال في فلسطين مجتمعة. وهذه المعصية هي أوّل الموبقات وأشنعها: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 151]، «الموبقات سبع: الشرك بالله…» [متفق عليه]، ولا حاجة للمخلوق مطلقاً ـ أن يدعو المخلوق الميّت وينسى خالقه الحي الذي لا يموت، والمشرك ـ مهما كان انتماؤه ـ يتقرّب بِشِرْكه إلى الله فلا يستغفره كما قد يفعل الزاني والسارق وشارب الخمر.
ـ وكان الإخوة في فلسطين (قادة ومفكرين وشعراء وصحفيين) يُلْقُون اللوم على بقية العرب لِتَفَرُّقهم وتثبتت الحدود وإصدار الجوازات لِتُميِّز بعضهم عن بعض، ولكن أول خطوة خطوها في سعيهم للتحرير: مطالبتهم بالاستقلال عن الأردن في بُقْعة صغيرة لا تتّسع لأكثر من دَوْلة.
ـ وكانوا يدّعون أن الحدود بين الدّولة العربيّة رُسِمَتْ في لندن؛ فَرُسِمَتْ حدودهم في أوسلو بسعي حثيثٍ منهم.
ـ وكانوا يُلْقُون اللوم في مصيبتهم على دعوى الفساد المالي والإداري في الدّولة العربية؛ فظهرت روائح الفساد المالي والإداري في السّلطة الفلسطينية من أوّل يوم.
ـ ومما لا يقبله الشرع ولا العقل أن تمتنع الدّولة اليهودية عن إنشاء مؤسسة للقمار وما يتبعه من الموبقات منذ احتلالها فلسطين قبل نصف قرن، ويكون أوّل مشروع تجاري وسياحي يُذكر للسّلطة الفلسطينية: مؤسسة للقمار وما يتبعه من الموبقات في أوّل مدينة فلسطينية (تُحرّرها معاهدة أوسلو).
ـ ومما لا يقبله الشرع ولا يصدقه العقل أن تتميّز الأرض المباركة المقدسة على بقية البلاد العربية بل على بقية بلاد الشام بتفشي لعن الرّب ولعن الدين، وفي تاريخ النكبة الفلسطينية اتّهمت فتاة يهودية بسب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يتهم يهودي أو يهودية ـ مجرد تهمة ـ بسب الرب، فهو امتياز خاص للمنتمين إلى الإسلام والسنة الدّاعين والمدعو لهم بالنصر، والمدّعين بالجهاد والشهادة، ولقد قرأت لأحد كبار الدعاة في المنطقة أن كلمة الشّر في إحدى الليالي لإحدى فصائل الفدائيين كانت (لعن الرّب) لأنه لا يُتَوَقَّع أن يقترف ذلك غيرهم هداهم الله جميعاً.
ـ وبعد هذا ليس من الغريب ألا نسمع من قادة المقاومة والانتفاضة على اختلاف انتماءاتهم كلمة واحدة تحذّر المقاومين والمنتفضين ومؤيديهم ـ فضلاً عن مخالفيهم ـ من الشرك الأكبر بالمقامات والمزارات، أو تدعوهم لإفراد الله بالعبادة، أو تحذّرهم من البدعة أو تدعوهم لالتزام السنة بل إنهم لَيَتَّهمون الدّعاة إلى ذلك بالتثبيط عن الجهاد، وإنما الجهاد الحقيقي مرحلة أخيرة من مراحل الدّعوة لحمايتها من الصادين عنها {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة: 193]، ولهدف أسمى من القومية العربية أو الهوية الفلسطينية: {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]، وهذه أشرطة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وهذه تصريحات أحمد ياسين والرّنتيسي لا يوجد فيها ما يخرق القاعدة الفاسدة: الانشغال والإشغال بالمهم عن الأهم وبالنافلة عن الفريضة وبالمكروه عن الحرام.
هدى الله الجميع لأقرب من هذا رشداً وتجاوز عمّن مات لا يشرك به شيئاً.
الرياض – ذو القعدة 1425هـ.