التقريب بين أهل الفرق والأديان أم ردّهم جميعاً إلى الوحي؟

التقريب بين أهل الفرق والأديان أم ردّهم جميعاً إلى الوحي؟

بسم الله الرحمن الرحيم

أثار مَنْ يوصفون بالإسلاميين في القرن الماضي: فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة، وفي العقود الأخيرة: فكرة الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وذلك بسبب جهل أكثرهم بشرع الله، ولو فقهوا شرع الله لِدينه ولِخَلْقه لما انحرف اهتمامهم إلى التقريب بين الفِرَق والطوائف والأديان ـ على مثل منهاج حسن البنا تجاوز الله عنا وعنه: (نتعاون فيما اتَّفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) ـ عن العمل بأمر الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
ومحاولة التقريب والحوار بين الفرق والملل والنِّحَل على غير منهاج الوحي مقضي عليها بالفشل على أي حال إلا أن يشاء الله لأن {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] كما وصفهم خالقهم في آيات نهيه عن التّفرق والتحزب في الدين.
وهذا حسن البنا نفسه ينقض حكمه الفاسد ـ بالتعاون والعُذْر المطلق عند الاختلاف ـ بحكم فاسد ـ بالتعصب المطلق لمنهاجه المبتدع في الدين والدعوة إليه ـ؛ يقول تجاوز الله عنا وعنه: (نزنها [الفرق والجماعات والأحزاب الدينية الحاضرة] بميزان دعوتنا؛ فما وافقها فمرحباً به، وما خالفها فنحن منه براء) مجموع رسائله ص17 ط.المؤسسة الإسلامية، ويؤكد هذا التعصب لمنهاجه بوصيته لأتباعه: (فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس ولا تأتي أحداً.. إذ هي جماع كل خير وغيرها لا يَسْلَم من النّقص) مذكرات الدعوة والداعية ص232 ط.دار الشهاب، (وقال قادة التبليغ والتحرير مثل ذلك، وعليه عمل غيرهم). وإذا كان هذا رأي أحد مؤيدي التقريب بين أهل السنة والشيعة فكيف بمن هو أشد منه تعصّباً للباطل أو للحق؟ إذن، فمحاولة التقريب بين الطوائف والفِرَق والأحزاب والأديان عبث لا يقرّه الشرع ولا العقل، ومن جانب آخر فهو ـ كما يقولون ـ تحصيل حاصل؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لسلكتموه» [متفق عليه].
ومصداقاً لنص الوحي في السنة المعصومة اقترب المنتسبون للإسلام ـ على اختلاف عناوينهم وشعاراتهم وانتماءاتهم ـ من أهل الضلال قَبْلهم فغلوا في حب أوليائهم إلى درجة التّقديس والتعظيم والعبادة كما غلا الهندوس في براهما والبوذيون في بوذا واليهود في عزير والنصارى في المسيح، وغلا الشيعة في الأئمة الإنثى عشر أو غيرهم، وغلا الدّروز في الحدود الخمسة، وادّعى بعض سادة المنتسبين للإسلام والسنة: أن الله خلق نبيه من نور وجهه وخلق الرّفاعي من فَضْلة هذا النور (الصّيادي)، وأن مِنْ جُود النبي محمد الدنيا والآخرة ومن علومه علم اللوح والقلم، ولو أعطاه الله من الآيات ما يستحقّه لأحيى اسمه ـ حين يُدْعى ـ دارس الرِّمَم (البوصيري)، وأن العالَمَ مطويٌّ في جبة محمد، وأن عمامة محمد تعلو على العرش (الرّواس). وأن نعمل محمد على رأس هذا الكون (محمد علوي مالكي).
وأخذ المتصوفة المنتسبون للإسلام والسنة من وثنيي الهند: دعوى الفناء في ذات الله، ومن النصارى الرّهبانية، ومن اليهود: هزّ الجسم عند الذكر، ومن الشيعة: فكرة الظاهر والباطن من معاني كلام الله، ومن كل الفِرَق الضالة قَبْلهم: التعلق بالمخلوق الميت وضعف التعلق بالخالق الحي الذي لا يموت، وإنما هذه أمثال للضلال المبتدع في الماضي والحاضر، ومثلها كثير يصعب حَصْرُه.
كانت آخر وأهمّ وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتّخذوا قبرو أنبيائهم مساجد» قالت عائشة رضي الله عنها: (يحذر مثل الذي صنعوا) [متفق عليه]، وقال عن النصارى: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوّروا تلك الصُّور.. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» [متفق عليه]. هذا ما كان يردّده النبي صلى الله عليه وسلم (قبل أن يموت بخمس) في رواية جندب، و(حين حضرته الوفاة) في رواية عائشة، و(آخر ما تكلم به) في رواية أبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين. وتقرب أكثر المنتمين للإسلام ـ منذ القرن السادس الهجري ـ إلى الله بمخالفة أهم وصايا رسول [الله] في أهم أمور الدين وهو الاعتقاد الذي لا يغفر الله المخالفة فيه وإن غفر المخالفة فيما دونه لمن يشاء: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116].
ولولا أن الله طهر معظم جزيرة العرب مرّتين في القرون الثلاثة الأخيرة بالتعاون بين ولاة آل سعود وبين علماء التوحيد والسنة لم تخلُ بقعة واحدة في بلاد المنتسبين للإسلام من مسجد بُنِيَ على قبر بل عشرات ومئات الأوثان من المقامات والمشاهد والمزارات، وإنما كان أصل الأوثان والأصنام: البناء على قبور وآثار الأنبياء والصالحين منذ قوم نوح كما ذكره البخاري (في صحيحه) وابن جرير في تفسيره عن قول الله تعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] ولا يجد أهل السنة من المُنْكر أن يجتمعوا على تقديس قبر أو مقام إبراهيم وآله مع اليهود، أو الخضر مع النصارى، أو الحسين مع الشيعة، أو شعيب مع الدروز، ولا يجد المسلمون ( المشركون) من يُنكر عليهم من أكثر دعاة الجماعات والفِرَق والأحزاب المنتمية للإسلام والسنة، أو يهتم بهذا الأمر الأعظم من أمور الدين مثلما يهتمون (مع الشيعة والصوفية) بأمر الحجاب، أو تحفيظ القرآن، أو الجهاد للقومية والتراب والهوية والسلطة، أو استغلال المسجد وخطبة الجمعة والدعوة لغير التعليم والعمل لأحكام شرع الله الأَوْلى فالأَوْلى، بل للتّسييس والتهيج والفتنة ونشر تعاليم الحزب.
وإذا كان الأمر كذلك ـ وهو كذلك بكل تأكيد ـ فما الهدف من الحوار مع النصارى وهم مثل اليهود والدّروز وعامة المسلمين يصفون أنفسهم بالموحدين وأكثرهم كما وصفهم الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
وأين الحاجة إلى التقارب بين المنتمين للسنة والشيعة وأكثرهم متقاربون بل متماثلون في مخالفة شرع الله وسنة رسوله في أحكام التوحيد والشرك وما دونهما:
1- يقدس المنتسبون للتشيع أئمتهم ونقباءهم ويرفعونهم عن مستوى البشر، وقد قال الله تعالى لسيد ولد آدم يوم القيامة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، ويقدس كثير من المنتسبين للسنة أقطابهم وأوتادهم وأبدالهم وأولياءهم ويدّعون أنهم يَعْلَمون الغيب وأن لهم التصرف في الكون.
2- يدّعي بعض المنتسبين للتشيع أن لأئمتهم علوماً ليست لغيرهم من المسلمين ويدعى كثير من المنتسبين للسنة أن لهم علم الحقيقة ولمن دونهم علم الشريعة وأن الله خص أقطابهم بالعلم اللّدني: (حدثني قلبي عن ربي)، ويأخذ مَنْ دونهم العلم من رواية ميت عن ميت.
3- يتفق كثير من المنتسبين للسنة والشعية على أن للدين من كتاب الله وسنة رسوله ـ ظاهراً وباطناً؛ الظاهر لعامة الناس والظاهر لخاصتهم من الأئمة والأولياء والمشايخ، وهذا من أكبر أبواب انحرافهم عن الهدى.
4- يقدس المنتسبون إلى السنة والشيعة قبور أوليائهم وأئمتهم وأقطابهم فلا يكاد المسلم في بلاد المسلمين اليوم يمر (إلا على صنم قد هام في صنم) منذ شيّد الفاطميون الوثن المنسوب للحسين رضي الله عنه في القاهرة حتى بنى الشيعة الوثن على قبر الخميني في إيران وتجتمع معظم الطوائف المنتسبة للإسلام على بعض هذه الأوثان مثل المنسوبة إلى علي أبو الحسين أو زينب رضي الله عنهم والمنسوبة للأنبياء ويختصّ بعضهم بأوثانٍ غيرها كالمنسوبة إلى ابن عربي والشافعي والبدوي ومئات غيرهم.
5- حوّلت الشيعة ثم السنة خطبة الجمعة من الدين إلى السياسة، والدعوة من الوحي إلى الفكر.
6- التكفير والاغتيال والتفجير والعدوان والإرهاب أمور مشتركة بين كثير من دعاة السنة والشيعة منذ قتل الخوارج عثمان ثم علي رضي الله عنهما بحجة المطالبة المساواة في العطاء وتحكيم ما أنزل الله في سياسة الحكم وسياسة المال، ولم يكن غريباً أن أتعرّف على سبع مناطق في إيران المنتسبة للشيعة ترفع اسم سيد قطب المنتسب للسنة عرفاناً بفضله في انتقاص عثمان وإخراج عهده من الخلافة الراشدة المهدية وسبّ معاوية وعمرو بن العاص ولمز غيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وبالأمس في القرن الخامس الهجري قام حسن الصّباح المنتمي إلى التشيّع من قاعدة (ألا موت) بدوره القيادي في الإرهاب وتبعه في القرن الأخير أفراد أبرزهم (وأشهرهم عند المنتمين إلى السنة) نواب صفوي رئيس فدائيان إسلام. والتقط شعلة الإرهاب عدد من المنتمين إلى السنة شوهوا سمعة الإسلام والمسلمين في العقد الأخير باسم الإسلام والجهاد في سبيله.
والحق أن معظم الخلاف والاقتتال بين الطوائف والفرق والأديان بعيد عن الدين (أي دين)، وأكثر دوافعه وأهمّها الدنيا (اكتساب المال أو الجاه أو السلطة أو الوظيفة أو الحمية أو الحقد والحسد)، وإن ركب الجميع الدين مطيّة لهم، وفي الحرب الأهلية في أحد بلاد الشام بدأ القتال (على الهوية) بين الطوائف ثم تناحرت الطوائف ذاتها، وفي حرب الأحزاب الأفغانية مع الشيوعين الأفغال والرّوس بدأت الحرب باسم الإسلام ثم تحاربت الأحزاب والقبائل على الغنيمة، بل إن ما سمي بالحروب الصليبية بدأ باسم استرجاع فلسطين من المسلمين ثم ظهر لكل طائفة هدف دنيوي: الأرض والنّهب للنبلاء، والتجارة للمدن الإيطالية، وظهر طغيان الكنيسة الكاثوليكية على الأرثوذوكسية، بل بيع في أسواق الرقيق (فمن لم يمت بالجوع أو المرض) آلاف من أطفال حَمْلَة الأطفال الصّليبية. والله الموفق.
(عمان – 1425هـ).