أبو عبد المجيد، أستاذ الأجيال

أبو عبد المجيد، أستاذ الأجيال

بسم الله الرحمن الرحيم

1) قبل نحو عشرين سنة كتب كاتبٌ في المجلّة العربيّة عن وافد سوريّ عمل في المملكة المباركة عدد سنين ثم مرض فأرسلته دولة التجديد والتوحيد والسّنة للعلاج في ألمانيا، و توفّاه الله فأعيد للدّفن في الأرض المباركة من جزيرة العرب وظن الكاتب السّوري (أيضا) أنه لقي ما يستحقّه من التقدير الحكومي ولم يلق ما يستحقّه من التّقدير الشعبي، والرجل رحمه الله لم يكن فيما أعلم متميّزاً في العلم ولا العمل وأمثاله كثيرون من المواطنين والوافدين .

وكتبت إلى المجلّة العربيّة بأني لا أرى من العدل الإنتظار حتى الموت لنعطي ذا الحقّ حقّه، بل من العدل والحكمة والشرع والعقل أن يُنَوَّه بالمسلم الصّالح في حياته قبل مماته فَتُقَدّم للنّاس القدوة حيّة ترزق. وبدأت بالتّنفيذ فقَدّمْتُ في المقال نفسه موجزاً عن ثلاثة من خير من أعرف في الدّين: إبن باز وابن عثيمين وصالح الفوزان، وموجزا عن ثلاثة من خير من أعرف في الدّنيا: عبد العزيز الخويطر و غازي القصيبي وعمر قاضي، ثم ضربت أمثلة صالحة بالجميح وابن سليمان وأبا حسين في مقالات مفردة لتوصيلهم الماء لبيوت شقراء وعنيزة وأشيقر، وفي مقال مفرد نوّهت بسعي الأستاذ عبد الرّحمن الشثري لإنشاء مراكز مرضى الكلى في كلّ مكان بالمملكة تعاوناً بين المواطنين و ولاة أمرهم و بين وزارة الصّحّة، إضافة إلى ضرب الأمثلة الصّالحة بتميّز أشيقر وعُمان وآيرلندا، وتميّز عثمان الصّالح ومحمد يونس البنكالي.

2) واليوم أضرب مثلاً صالحاً بأستاذي أستاذ الأجيال/ عبد الرّحمان بن عبد الله آل عبد الكريم والد د.عبد المجيد العبد الكريم الطبيب الجراح المتميّز وعدد من الأولاد و الأحفاد لا يكاد يحصيهم عدداً، بارك الله في عمره ليفخر بهم ويفخرون به، أكبرهم (بَعْد، د.عبد المجيد) الأستاذ عبد الله في الدّيوان الملكي، وفقهم الله جميعاً لما يحبّه ويرضاه ونصر بهم دينه. تجاوز التّسعين سنة ولا يزال بفضل الله عليه في درجة عالية من الصّحّة العقليّة والجسميّة، يمشي أربعة أكيال على الأقلّ كلّ يوم، ولمّا رآني ألهث لمجرّد التّفكير في صعود درج بيته العامر في الطّائف قال لي: إنّه بفضل الله يصعد الدّرج شفعاً لا وتراً، كلّ درجتين في وثبة واحدة و لا يطرأ على باله الخوف من الإصابة بالعين، وبالنّسبة لي فلا عجب، لضعفي الشامل بفضل الله بما في ذلك الرّمي بالعيْن، بارك الله له وبارك عليه وحفظه من كلّ سوء.

3) عندما عُيِّن مدرّساً في مدرسة شقراء الإبتدائيّة كنت طفلاً في الثامنة أو التّاسعة من العمر في أوائل السّتّينيّات، وهو أوّل مدرّس في ابتدائية شقراء من أهلها، وكان راتبه (50) ريالاً أثناء الحرب العالميّة الثانية، وكانت وزنة السّكر الجاوي بسبعة ريالات فضّة أي: أكثر من مائة ريال (وَرَق) اليوم، ولم يكتشف إبليس فتنة المظاهرات بَعْد.

4) وكان بارك الله في عمره وعمله متميّزا في جسمه وعقله وهمّته، كان حادّ البصر قويّ العزيمة يسعى في مصالح القريب منه و البعيد، و كنت أحسبه الرجل المتكامل في خَلْقه و خُلُقه و في دينه و دنياه فأطمح إلى تقليده ولو في القليل الذي أحاول أن أصل إليه، ولكن ابن خالتي الأستاذ محمد بن عبد العزيز آل عبد الكريم شفاه الله وأثابه قال لي، لا تحاول تقليد أبي عبد المجيد ـ من بين النّاس كلهم ـ فقد أعطاه الله من الهمّة والعزيمة والنّشاط والمهارة ما لا تكاد تجده عند غيره من أساتذتك وزملائك ومن حولك.

5) وهو شاعر مطبوع كأنّه يَغْرف من بحر، بل من كل بحور الشعر، وقد طَبَعَ أربعة دواوين من شعره بخطّ يده الجميل قد يجد من يسأل عنها في مكتبة العبيكان بالرّياض حتى الآن بعض نسخ طبعاتها، وقد كَرُم فشملني بشيء من شعره ولست له بأهل، ومن آخر هذه الأبيات الجامعة بين الحِكْمَة والمُلْحَة:

يا راحلاً في شهور الصّيف متّخذاً

من التنقّل في الآفاق توجيها

لعـلّ مســعاك في خيرٍ ظفرت بـه

عبر الممالك دانيها وقاصيا

تتلوها: ثلاثة أبيات من الحِكَم، وصلتني منه في الطّائف 1425/8/26.

يــا سائلي عن ماجد شَرُفَتْ بــه

عليا ثقيف من جمال خصالـه

سمح سليم القلب ميمـون الرؤى

شهم يجود بجاهه و بمــالـه

قالوا له فانصاع يبغي مغنمــــاً

متعالي الدّرجات في ترحالــه

أنْعِمْ بمشتاق الفؤاد لِعُمْـــــــــرِةٍ

أو راغب السّكنى بمكّة خالــه (1)

لينال آلاف الخطى بصلاتــــــه

و يظلّ ذا أنْسٍ بعشرة آلـــــــه

عبر الحياتين اللتين توالتـا (2)

أوْ مَدِّ ما يرجوه من آجالــــــــه

وبعدها: بيتين من الحِكَم، وصلتني أول عام 1426 في الطّائف.

(1)كان الأخ صالح رحمه الله في صِغَرِه يُسَمِّي مكّة المباركة: مكّة خالي لكثرة سفر خالي عبد الرحمن بن محمد آل عبد الكريم (أبو عمّه) إلى مكّة.

(2) يدّعي أستاذي الكبير أبو عبد المجيد أنّي تغيّبت عن المدرسة بضعة أيام أو بضعة شهور وأني قلت: إذا سألوا عنّي فقولوا: مات، فاكتَسَبْتُ موتتين وحياتين، والأصل مرويّ عن سعد بن درويش.

6) وكان منذ شبابه صالحاً مصلحاً سعى بنفسه وقلمه ونثره وشعره وجاهه للصّالح العام، ولا أعرف أحداً خدم شقراء بذاته أكثر منه، وأكثر المؤسّسات والخدمات التي تتمتع بها اليوم وُجِدَت بفضل الله ثم بسعيه وجهده، ولم يقصر جهده وإنجازه على شقراء وحدها، بل هو مثل المطر، في أيّ أرض وقع نفع الله به، وأعرف له مآثر في الطّائف والرّياض وحائ.

7) في عام 1375 عُيِّن مديراً للتّعليم في حايل وحرص على ألاّ يبقى قرية ولا هجرة تابعة لها إلا وافتتح فيها مدرسة.

8) وفي عام 1377 انتقل إلى الرّياض وأسندت إليه كلّ الأعمال الإدارية بجامعة الملك سعود، ثم إدارة شؤون الموظّفين بعد تطوّر الجامعة وكثرة أعمالها، وممّن أتمّ تعيينه فيها غازي القصيبي رحمه الله.

9) وفي عام 1386 إنتقل للعمل في ديوان رئاسة مجلس الوزراء واستمرّ يعمل في الدّيوان الملكي حتى تقاعده قبل بضع عشرة سنة، وفَحَصَه بعض الأطبّاء فأخّروا سنّ تقاعده عشر سنين بحجّة أنّ العّظْمتين في مقدّمة الرّأس لم تلتصقا بَعْدُ، وهما تلتقيان عادة في سنّ الخمسين، فطلب من ابنه الجرّاح د.عبد المجيد أن يضع بينهما حاجزاً فلا يلتقيان أبداً، وأشهد أنّه لا يزال أهلاً لتحمّل المسئوليّة أكثر من جلّ الشباب فيصدق عليه المثل المصري: (شباب على طول) أكثر منهم.

10) وعزيمته و جدّيته و اهتمامه بالصّالح العام (تطوعاً) لم يجعله عبوساً، فالمرح لا يفارقه، وكان يذَكّرني في كلّ مرّة ألقاه أو أتكلّم معه بالهاتف بميزة الموتتين والحياتين. ومرّة زرته مع أحد الإخوة الأنْبَه مني، فلما قرعنا الجرس تذكّرت أن وقت صلاة المغرب قرب بما لا يسمح بالزّيارة، وكان في مقدّمة السّيارة بطاقات باسمي هي أول وآخر ما طبعت أو استعملت، وإنما طبعتها لأكتب على الجانب الآخر: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم} لأنّها من أكثر الآيات تأثيراً في حياتي و معاملاتي مع النّاس ما استطعت فلم أُحَمِّل إنساناً إثماً في حقٍّ من حقوقي ولا دعوت عليه بالعذاب (فلا فائدة لي من عذابه) ولكنّي أدعوا الله لي وله بالهداية وأن يكفي الله الإسلام والمسلمين شرّه، أخذ مرافقي البطاقة ووضعها على الباب، وفي اليوم الثاني جاء أستاذي ودقّ الجرس وأعاد البطاقة إلى بابنا بعد إضافة: {وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم} ولما فتحنا الباب لم نجد غير البطاقة وغبار سيّارة أستاذ الأجيال (قبل الإسفلت) وهو يقول بلسان حاله: (واحدة بواحدة والبادي أظلم)، وأحْسَنَ بي الظّنّ جزاه الله خيراً لأنه لأستاذي ويعلم ضعفي عن القول والعمل وسرعة البديهة أو المكر، وقال لبعض الأقارب: لم يكن المكر من سعد بل من مرافقه.

11) ماذا أقول عن أبي عبد المجيد، وهو أكبر من أن أوفّيه حقّه؟ ولو كان لي لسانه أو قلمه أو قلبه أو ذاكرته أو همّته لملأت صفحات كثيرة تلهج بذكره، وتقدّمه للأمة قدوة صالحة في دينه وخُلُقه ودنياه، فلْأَتْرك لمآثره في شقراء أوّلاً ثم في حائل و الرّياض والطّائف وغيرها أن تلهج بذكره وشكره وفوق ذلك كلّه: ذكر الله وشكره على منّته به وبالقليل من أمثاله علينا، وقد قضى الله وقدّر أن يكون الصّالحون من عباده هم القلّة {وقليل ما هم}.

12) وقد تمّ تكريمه في شقراء نيابة عن أهلها وأرجوا الله أنّ ما أُعِدَّ له من الكرامة أعظم من تكريم خلقه.

وأذكر أنّ منْ أوّل ما قدّم لحبيبته شقراء تولّيه مع أستاذي زميله إبراهيم الهدلق رحمه الله تعبيد جزء من الطريق إلى مكة المباركة غرب شقراء ليُقنع الرّعاة والرّعيّة باستعماله حتى تستفيد شقراء من خدمات البريد والنّقل العام والخاصّ بدلاً من طريق مَرَات ـ قنيفذة.

أمّا آخر ما قدّم لها فلم يظهر لعطائه آخر، وأكبر همّه في سنّه المتقدّمة (فوق التّسعين) ـ بعد حقّ الله و حقّ أهله ـ حقّ شقراء (عاصمة منطقة الوشم) وغيرها في الخدمات العامّة. وشقراء أهلٌ لما يقدّمه لها من برٍّ وخير، فقد برزت منذ المرحلة الأولى في دولة التّجديد السّعوديّة المباركة تأييداً للدّعوة و الدّولة و ذبّاً عنها حتى كاد إبراهيم باشا أن يبطش بها ويستبيحها كما فعل بمُدُنٍ وقرى غيرها، ولكن الله ألهم جدّي العمّ عبد العزيز بن عبد الله الحصيّن (من كبار تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهّاب رحمهما الله، وأوّل رسول وثاني رسول للدّعوة والدّولة إلى مكّة لبيان حقيقة الدّعوة والدّولة عامي 1185 و1204)، ألهمه الله بضع كلمات وألهم إبراهيم باشا قبولها فعفا عنها.

13) أحيى الله أستاذي الكبير حياة طيّبة يكسب فيها عملاً صالحاً وختم الله لنا وله بالعمل الصّالح والجنّة.

سعد الحصيّن- 1434/7/8هـ.