أنا والقصيبي رحمه الله وخَلَفَهَ في أهله بصلاحهم

أنا والقصيبي رحمه الله وخَلَفَهَ في أهله بصلاحهم

بسم الله الرحمن الرحيم

1- بدأتُ بنفسي لأني أنتمي إلى الدعوة إلى الله على منهاج النبوة وهي أعظم وظيفة اختارها الله لخير خلقه من الملائكة والناس. ولا شك أن غازي ـ رحمه الله ـ خيرٌ منِّي فيما اختار الله له وأسبغ عليه من نعمه بالشجاعة والجرأة والحزم والعزم، والعلم والعمل الدنيوي، مما لا أعلم له نظيرًا (في حياتي)، وبخاصة في شفائه وزارة الصحة بعد مرضها ومقاومتها الإصلاح، وفي وقفته العظيمة في وجه بغي البعث العراقي أثناء احتلاله الكويت وتهديده بقية بلاد الخليج، وفي وجه مؤيديه من خونة الرعاة والرعايا الحاقدين الحاسدين.
وأنا لا أقول: (أعوذ بالله من أنا) كما يقول الأكثرون، ومنهم غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ، فقد شرع الله ذلك في كتابه وسنَّهُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما نهى الرسول عن قول: (أنا) لمن استأذن فسئل: من الطارق؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ كتبه إلى الناس: (محمد رسول الله إلى فلان)، واتبعه المسلمون فيما قبل القرن الماضي، ثم اتبعوا سنن اليهود والنصارى وغيرهم، فرفعوا اسم المرسَل إليه وخفضوا اسم المرسِل في ذيل الخطاب، وبقي ابن باز ـ رحمه الله ـ وقلة معه على الأمر الأول في هذا وفيما هو أعظم منه من السنة الصحيحة، وأذكر أن ابن باز وأحد كبار العلماء اتفقا على مخاطبة ولي الأمر في مصلحة عامة، فاستنكر الآخر أن يسبق اسمه اسم ولي الأمر، ولما رد الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ بأن هذه طريقته في مخاطبة ولاة الأمر منذ الملك عبد العزيز ـ رحمه الله جميعًا ـ طلب الآخر حذف اسمه من الخطاب، ولم يَلق ابن باز إلا احترام الولاة. وليس هذا المثال الوحيد لتحول المعروف منكرًا في القرن الأخير. وابن باز في قمته الدينية مثل القصيبي في قمته الدنيوية ـ رحمهما الله ـ.
2- قد يكون أول اتصال بيني وبين غازي رسالة تلقيتها منه، يَرَى لي ولبقية خريجي جامعة جنوبي كليفورنيا حضور أول اجتماع دوري خاص بنا؛ فأجبته بأن الله اختار للمسلمين جميعًا الاجتماع للصلاة في المسجد خمس مرات في اليوم، ومرة في الاسبوع لحضور خطبة وصلاة الجمعة، ومرتين في العام لحضور صلاة وخطبة العيد، وهذه الاجتماعات الدينية الشرعية تُغنينا عن تكلف اجتماع دوري آخر، وأخبرني فيما بعد بموت الفكرة.
3- ونقلت مجلة الشرق الأوسط بالإنكليزية مقابلة يرد فيها على سؤال عن استعجال المملكة (المباركة عندما كان وزيرًا للصناعة والكهرباء) وصول الكهرباء إلى المناطق النائية وانشاء المناطق الصناعية الضخمة في ينبع والجبيل بما فُهِم منه (أننا تَخلَّفنا ثلاثة آلاف سنة ولذلك فنحن نستعجل إزالة آثار ذلك التخلف)، فكتبتُ له أعاتبه على سوء انتقائه الألفاظ مما يفتح بابًا لسوء فهمهما. وتحقَّق ظنِّي؛ فاتهمه الحركيون بالإساءة إلى الدين، مع أن السؤال والجواب مرتبطان بالتنمية الدنيوية ولا ذكر للدين في أي منهما.
4- وجاء احتلال حزب البعث العراقي الكويت فحرَّك الشيطان بعض طلاب الفكر الخوارج برئاسة سلمان العودة (رابع ثلاثة) يثيرون غوغاء الشباب على دولة التوحيد والسنة بأشرطتهم، محتجين باستئجارها القوات الدولية لطرد المحتل من الكويت، وأظنهم يجهلون (لا يتجاهلون) تحالف النبي صلى الله عليه وسلم مع خزاعة وهم مشركون، وقتاله معهم هوازن لنقضها عهدهم بعد أن أسلم أكثرهم، ودخوله في جوار المطعم بن عدي وهو مشرك، واستئجاره اليهود (وهم المحاربون الأعداء) بعد هزيمتهم في خيبر.
وأزيد في حسن الظن بهم؛ فأظنهم يجهلون أن الله أيدنا بتقنية وخبرة الأمريكيين منذ منتصف القرن الماضي باكتشاف واخراج وتسويق النفط الذي عاش وتعلم منه هؤلاء الخوارج الجاحدون، ولم يُذكر مرة واحدة أن هؤلاء الأمريكيين المقيمين فيها عشرات السنين خالفوا ولاة الأمر (دينًا ولا دنيا عكس الخوارج) وعندما أمرهم الملك سعود ـ رحمه الله ـ (1376هـ) بقطع البترول عن كل من انكلترا وفرنسا ومن أيدهما، لَبَّوا الأمر دون تردد، بل عندما أمرهم الملك فيصل ـ رحمه الله ـ بقطع البترول عن أمريكا عام (1393هـ)، لم يتوقفوا لحظة واحدة عن التنفيذ، وزاد سعر الوقود في أمريكا من ربع دولار إلى ثلاثة دولارات للجالون، واضطرت أمريكا إلى خفض درجة الحرارة في المباني العامة، وخفض السرعة على الطرق، والاحتياط للمستقبل بتعويض مخزونات النفط في أمريكا فور انخفاض السعر.
أما شبهة الصليبية والتنصير فلا مكان لها إلا في رأس ولسان من سلبه الفكر عقله ودينه، فإن أمريكا وأوروبا علمانية تمنع تعليم الدين المنسوب للنصرانية وغيرها منذ عشرات السنين.
ولتثبيط هذه الأشرطة أمة التوحيد في زمن الحرب ونشرها في وسائل إعلام حزب البعث المحارب. وكان قلم القصيبي أثابه الله أمضى الأسلحة الفكرية في الدفاع عن الكويت (والخليج عامة، وعلى قمته بلاد ودولة التوحيد والسنة) فنشر في مجلة صوت الكويت الدولية مقالًا ساخرًا بعنوان: (يوميات كاسيت)، تُوِّج برسوم صحفية مضحكة عن (صدام الدين والدنيا قبل هلاكه، ويعلم الله وحده مآله بعده) يقول: (شعارنا كاسيت مدعوم)، ويدفع على شكل شريط، ورجل عضلاته من الأشرطة يقول: (الليل والخيل والبيداء تعرفني… والكذب والتلفيق والتسجيل والكاستُ)؛ ورجل يرمي شريطًا في اليمِّ لينقذ به غريقًا، وقنبلة من الأشرطة، ونحوها.
5- وأوجعت هذه السخرية عصابة سلمان فردوا بأشرطة جديدة تُعلن أن غازي القصيبي علماني، ولأن الأكثرين لا يستجيبون لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]؛ ومَنْ أفسق مِن الخوارج التكفيريين؟! فلم يكذِّب غوغاء الحركيين (والحزبيين، بل بعض طلاب العلم الشرعي) الخبر بل نشروه بكل وسيلة، وهم لا يعرفون حقيقة العلمانية.
ورد غازي باتهام عصابة سلمان بأنهم خمينيون، مع أني أرى أنهم أقرب إلى اتباع المنهج السياسي الثوري للخميني من تلبس غازي بالعلمانية كما يفهمونها؛ وكما رد عليهم غازي بأنها تعني: الكفر؛ ولأنه في رأيي خير منهم دينًا ودنيا، فقد كتبتُ له انتقده في الحكم على قلوبهم بما ظهر من قولهم وعملهم المخالف لشرع الله، كما انتقدتهم في الحكم على قلبه بالعلمانية بما ظهر من قوله شعرًا ونثرًا، فرد أنه لا يرى فيما فعل خطأ إلا مثل ما يُروى عن ركاب الأتوبيس في مصر عندما كان يسوقه عسكري أثناء إضراب السائقين المدنيين فأخطأ مرة وأخرى، واعتبر صمت الركاب انتقادًا له، والعسكري لا ينتقد بعد الثورة، فالتفت إليهم بغضب قائلًا: يعني سُقت غلط؟! فردوا بصوت واحد: العفو يا بيه؛ يمكن احْنا اللي ركبنا غلط!
6- وأثناء تأييد الله دول الخليج بالقوات الدولية لدحر الحِزب العَفْلقي وأنصاره من الإسلاميين والعلمانيين والملحدين، طلبتُ من غازي يوم كان سفيرًا لخادم الحرمين في البحرين تزويدي بما يمكنه من (الطريق إلى مكة) لمحمد بن أسد بالإنكليزية لتوزيعه على المعسكرات لعل الله أن يهدي به؛ فوصلني منه أعداد متتابعة ـ أثابه الله ـ وَكَلْتُ توزيعها للفريق مريع الشهراني، ووكلت أمر الهداية بها إلى الله وحده، وطلبتُ من ولاة الأمر تقديمه للجميع.
وكنتُ زرته في السفارة قبلها بأشهر فوجدته يقدم تفسير محمد أسد بالإنكليزية لضيوفه من غير المسلمين، ولكنه نبهني إلى أن محمد أسد يميل للاعتزال، وهو حريٌّ بذلك لأنه فكري (ولكنه خير من مراد هُفْمَن؛ فله كتاب ضال تروجه مكتبة العبيكان بالكذب)، وأمثالها، مثل الأعراب: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97].
وعندما ذكَّرتُ غازي في تلك الزيارة بقول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]؛ ذكر لي أنَّ الشافعي ساقه دليلًا على حجية الإجماع، وهذا ومثله من غازي دفع أبا عبد الرحمن ابن عقيل إلى الظن بأنه يحاول أن يقول: (إن بني عَمِّك فيهم رماح)، بل هي سعة الاطلاع والذكاء والمهارة.
7- أثناء سفارته في البحرين ولندن، داعبه بعض زملائه بأنه يطمع في وظيفة أكبر بما يظهره من ولاء لدولته، ودفاع عنها، فأجاب: بأن هذا غير وارد أبدًا، لأنه حصل على أعلى ما يمكن أن يصل إليه، فكتبتُ له بأن هناك وظيفة أعلى من الوزارة والسفارة لدولة التوحيد والسنة، وأنه مؤهل لها أكثر من أكثر المنتمين إليها، ولا ينقصه غير الرغبة فيها؛ (الدعوة إلى الله على منهاج النبوة)، ولم يَرُد، ولكنه كان خير من عرفتُ من السفراء عونًا لمكتبَي الدعوة في البحرين وبريطانيا، بل يُسرف بإعطائهم أكثر من حاجتهم، لعلمه أن الدولة التي يمثلها إنما أسست على الدعوة إلى الدين الحق، ولكن الاسراف شرٌّ لا يحبه الله ولو في الخير كالوضوء.
8- وعندما عُين وزيرًا للعمل، كتبتُ له محذِّرًا من أن تستفزه الصحافة الضالة دينًا ودنيا، فيجعل أكبر همه توظيف الخريجين دون حاجة إليهم، وأكبر مشاكل الروتين والتعقيد والخلل والعجز الاداري إنما نشأت من زيادة الموظفين عن الحاجة، وذكرته بتقرير سابق أعدته جهة مختصة تبيِّن منه أن السعودية توظف (16) مقابل ما بين (1 إلى 8) توظِّفُه تونس والأردن وسوريا (وغيرها عدا مصر) في حقل التربية والصحة، وذكرته أن الصحافة استفزته من قبل فسعى إلى زيادة الرواتب أثناء الطفرة في عهد الملك خالد ـ رحمه الله ـ ولما جاءت الأزمة المالية العالمية الأولى، وانخفض سعر النفط إلى ربع ما كان عليه، كاد الدخل أن يقصر عن أداء رواتب الموظفين وحدها عدد سنين.
9- وكتبتُ له انتقادًا لإعجابه بالمتنبي والجواهري ونزار قباني، وأن الله ميزه عنهم في الدين والدنيا، وأن الثلاثة قالوا شرًّا ولم يفعلوا خيرًا، أما هو فقال وفعل خيرًا في خدمة بلاد ودولة وجماعة الموحدين، ما لم يقله أو يفعله أكثر المواطنين فيها، والوافدين إليها.
10- وكتبتُ له نهيًا عن منكر مدحه لسناء المحيدلي ومثيلاتها وأمثالها ممن كفروا بنعمة الله عليهم بالحياة، وعصوا الله ورسوله باعتدائهم على أنفسهم وغيرهم بالتفجير الفاجر والقتل الغادر والانتحار.
11- ولم ينته تجاوز الله عنَّا وعنه فجاءت طامته الكبرى في قصيدته المنشورة في جريدة الحياة: (الله نشهد إنهم شهداء)، وظن أنني تجاوزت الحد بدعواي أنه افترى على الله وأنبيائه وأوليائه، وأنه أفتى بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، دون أن يُسْتَفْتَى، وأنه تجاوز المعصية الكبرى: القول على الله بغير علم؛ رَدَّ فتوى كبار العلماء، وعلى رأسهم المجدد ابن باز ـ رحم الله جميعهم ـ: (رُبَّ فتوى تضج منها السماء)، وأنه دعى بدعوى الجاهلية: (حين يدعو الجهاد بصمت حَبْر، ويَرَاعُ والكتب والفقهاء، حين يدعو الجهاد لا استفتاء، الفتاوى يوم الجهاد الدماء)، وترجمتُها عفا الله عني: (ارفعوا أقلام العلم الشرعي، واطووا صحفه، وكموا أفواه المستفتين والمفتين الفقهاء، ودَعُوا الحكم للهوى وحده)، وفرح بهذا الرد محرر الحياة فيما يظهر من نشره وابرازه وابتداع عناوين للرد مثل: (الشعراء ليسوا من عدول العلم) ترجمة لقولي: (العلم بشرع الله يحمله من كل خلف عدوله، وليس منهم شعراء العواطف والظنون، فقد قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224-226]، وإنما قصدتُ عدول الخلف.
12- وقرأ رحمه الله من سيرتي الذاتية (جزء 3 عن السفر) أني الآن بعد أن تجاوزتُ السبعين في انتظار السفر الأخير إلى القبر، فكتب لي ينتقدني ويذكرني بحاجة المسلم إلى ما قُدِّر له من زيادة في العمر للعمل الصالح، فرُبَّ شفاعة منه لمحتاج يرفعه الله بها درجات، فردَدْتُ بأني رغم استعاذتي بالله من الهرم وسوء الكِبر والرد إلى أرذل العمر؛ فإني بفضل الله لم أتوقف عن كتابة آلاف الصفحات على رُكبتي (دون مكتب ولا آلة كاتبة ولا كاتب) في الشفاعات والمقالات والتهذيب.
13- وكان مِسْك الختام ما وفقني الله للكتابة إلى غازي أذكِّره (قبل موته بأيام معدودة) أذكره بما وفقه الله له من عمل صالح، وما ميزه الله به على أكثر الناس من مزايا دينية ودنيوية، لعله يُغلِّبُ الرجاء في مرض موته؛ فلم يتهم بإشراك أوثان المقامات مع الله، ولا بالتصوف، ولا بما دون ذلك من الابتداع في الدين، ولا اتهم بترك الصلاة، بل يشهد له المصلون من جيرانه أنه لا يتخلَّف عن صلاة الفجر في المسجد، أما الصغائر فمن يسلم منها غير النادر؟ وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ} [النجم: 32]، {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32].

(1433/3/1هـ).