معذرة! فالحياة حلوة
معذرة! فالحياة حلوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحياة الدنيا مركبة من نقيضين: خير وشر؛ فمن صرف نظره إلى جوانب الخير في الحياة وجد كل الخير، ومن صرف نظره إلى جوانب الشر فيها لم يجد إلا الشر ” فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط“، وهذا الحديث من جوامع الكلم، ففيه ميزان السعادة والشقاء وطريقهما، ويبقى الاختيار لنا، ولكن أكثر الناس يختارون منظار الشر والشقاء ويحملون من سواهم التبعة.
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
وقد نبهني لهذه الحقيقة خير معلمي وأقربهم إلي ـ قبل خمس وعشرين سنة ـ وكنت معه في طريقنا إلى اجتماع بين المغرب والعشاء مع إخوة لنا يتبارون في سرد ـ لا ينتهي ـ للشائعات عن فساد الحاضر والوعيد بسوء المصير في المستقبل، في مخالفة صريحة مصرة لشرع الله تعالى في الكتاب والسنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، ” لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر“، ” من قال هلك الناس، فهو أهلكهم“، وأخترنا (الرباط) في المسجد وأجر الصلاة بانتظار الصلاة.
ومنذ ذلك اليوم ـ بفضل الله ـ صرفت نظري إلى نعمة الله بالخير وشكره عليها.
وكانت أول فتنة في القرن الأول الهجري قد قامت ـ بوسوسة من الشيطان ـ على مثل ذلك، وانتهت بقتل ولي الله ورسوله أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، بحجة عدم العدل في توزيع الأموال والمناصب، بل فتن بها بعض الأفراد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فوصفهم الله تعالى بقوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
وبين يدي مقال عن الأمر نفسه في مكان بعيد يعده أكثر الناس ـ من أهله ومن غيرهم ـ أكبر بقاع الأرض نصيباً من شرور الحضارة الصناعية من حيث الجريمة والحوادث والمخدرات والتلوث البيئي والأوبئة الطارئة والتضخم المالي والبطالة والتمييز العنصري: الولايات المتحدة الأمريكية.
ويعالج المقال مرض ـ بل وباء ـ تغليب السخط على الرضا من وجهين متميزين:
1- أنه بلغ من الحدة درجة تجاوزت التركيز على جوانب الشر والأزورار عن جوانب الخير، إلى تهويل الشر وجحود الخير. يقول (أورلاند بترسن) أحد أساتذة جامعة (هارفرد) فيما يسمى (علم الاجتماع): إن من المدهش أن النخبة في نيويورك وواشنطن ـ فضلاً عن غيرهم ـ مستمرون في ادعاء أن كل شئ يزداد سوءاً، مع أن كل شيء ـ في الواقع ـ يتحسن بوضوح (في العقدين الأخيرين بمقاييس البحث والتمحيص لا بمقياس الشائعات).
ونتيجة لإحصاء عام 96 ظهر التناقض في رأي من أخضعوا للإحصاء؛ فيما اعترف 75% منهم أن حالتهم جيدة، لم يعترف غير 55% منهم بأن حالة البلاد جيدة.
2- بالمقارنة الإحصائية التالية يتبين مدى التحسن الذي طرأ على هذه البلاد التي يقلدها الناس في الكثير من الشر والقليل من الخير في أدق أحوالهم وأجلها.
الحوداث: في عام 85 مات 39 من كل مائة ألف، وفي عام 97 مات 35.
نقص عدد الأموات في حوادث العمل من 11.500 عام 85 إلى 6.218 عام 97. نقص عدد الأموات في حوادث الطرق إلى حد قياسي: 2 لكل مئة مليون ميل. في عام 60 مات 6.000 في الحرائق، ونقص العدد عام 97 إلى 3.360. والسبب البشري الأول في كل ذلك: اهتمام المواطن بالسلامة وزيادة وعيه بالخطر نتيجة للتوعية المستمرة.
المخدرات: نقص عدد متعاطي الكوكايين بين كبار طلاب الثانوية من 17% عام 1985 إلى 9% عام 98. ونقص عدد متعاطي مخدرات التهييج بينهم من 22% عام 75 إلى 16% عام 98. ونقص عدد من شرب الخمر بينهم من 72% عام 80 إلى 52% عام 98. ونقص عدد المدخنين البالغين من 42% عام 65 إلى 25% عام 95.
الاقتصاد: البطالة والتضخم في أدنى درجاتها منذ ربع قرن، والإنتاج الصناعي أكثر 125% مما كان عام 70، ومستوى المعيشة في ازدياد معترف به من الأغلبية، إضافة إلى الفائض المالي العام الذي لم تعرف البلاد مثله منذ سنوات عديدة، وتناقص الفرق في الأجور بين البيض والسود.
البيئة: نقص الوقود 33% منذ عام 70 مع أن عدد السيارات زاد 75%، ونقص غاز (سلفر ديوكسايد) في الجو 35% وذرات السخام 75% و(كربون مونوكسايد) 32% والرصاص 98% و(سي إف سي) الذي يضعف طبقة الأوزون لم يعد له وجود يذكر، والسبب في كل ذلك مشترك بين المواطن والدولة.
الصحة: معدل المواطن بالسرطان بدأ يتناقص مع بداية التسعينيات بعد أن كان ينزايد في العشرين سنة قبلها. ونقص معدل الموت بمرض القلب 28% بين عام 97 و98. ونقص معدل الموت بمرض الإيدز نقصاً ملحوظاً. وزاد معدل سني الحياة من 54 سنة في عام 20 إلى 77 سنة الآن.
ومع كل ذلك؛ يصر الأغلبية هنا وهناك ـ وبخاصة في وسائل الإعلام التي تعيش من نشر أخبار الشر ـ على أن كل شيء يسير في طريق الهاوية.
ومن أغرب الأمثلة المتناقضة أن مثقفي العرب يؤكدون أن النظام العالمي الجديد نظمته أمريكا للقضاء على القومية العربية والإسلام، بينما يؤسس جيش أهلي سري في أمريكا ـ يقدر عدد أفراده بمئة ألف مسلح ـ لحماية أمريكا من مؤامرة النظام العالمي الجديد، وقد نكون هذه المرة صدرنا (عقدة المؤامرة) استثناء من عادتنا الاستيراد.
ومعذرة مرة أخرى فالحياة حلوة، وعلينا شكر الله عليها دوماً، قولاً وعملاً.
وصلى الله وسلم على محمد وآل محمد.